بين لاهٍ في القراءة ومتصفِّح، وجدتني أتخذ سمة الجدّ وأقرأ متفحّصاً ما يرتسم من تعابير وما يشار له من رموز وأفكار، ولعل أول ما استهواني في الكتاب هذا النمط الكتابي الذي نجده في الحكايات الشعبية والحكي اليومي بلطفه ولذْعه ولمسات الواقع الحي فيه. فنحن في "كتاب السيرة الهلالية دراسة للراوي والراوية " الصادر مؤخرًا عن سلسلة الدراسات الشعبية بالقاهرة " للكاتب خالد أبو الليل. نجد حكّاء قراري يمتلك طريقة ساحرة ومدهشة، عفوية بسيطة، راصدة للتفاصيل الصغيرة التي تعكس مشاهد تفاصيل الحياة القناوية ، بصورة مُحايدة ومراوغة، متي تتوقف أمام مفردات جمله البسيطة، تُدرك وتكتشف دلالات مُركبة في جملته التي تطرح عدة قضايا مًهمة لابد أن نتوقف أمامها للتأمل والمراجعة تلك هي طريقة الحكاء الشعبي، عازف الربابة الذي يعرف جيداً متي يبدأ، ويعرف بالضبط متي يحين وقت التوقف والانصراف أيضاً، لكنه يدرك أنه قبل أن ينصرف قد شبع الناس منه وأرضي نفسه . فالدراسة جديرة بأن يحتفي بها وبصاحبها لعدة أسباب : منها ؛ أنها تكمل دائرة دراسة السير الشعبية العربية الشهيرة ، المعروفة لنا إلي الآن وهي السيرة الهلالية بما تحمله من أهمية وتثيره من قضايا نجح الكاتب في أن يضع يده عليها ، وأن يلفت الأنظار إليها ، وأن يناقشها مناقشة علمية بروح أدبية مدهشة ويفتح الآفاق أمام غيره من الدارسين لاستكمال ما بدأ ، أو لعله يفعل ذلك . علم الإنسان كما أن المنهج الذي استخدمه الكاتب خالد أبو الليل يضيف إضافة جديدة لابد من الإشارة إليها ، والتنويه بها ، لأهميتها في حقل دراسة أدبنا الشعبي المدون والشفاهي . فاعتمد منهجه علي ما ثقفه من دراسات علم الإنسان "علم الأنثروبولوجيا" والمنهج الفولكلوري وكانت النتيجة أن رسم بأسلوب رشيق أبعاد العلاقة بين الهلالية والمجتمع القناوي وتأثير كل منهما في الآخر ، متوقفًا عند أهم العادات والتقاليد التي يمارسها القناويون ، وانعكست في الهلالية ، والتي منها الميلاد والسبوع والختان والكتاب والزواج وليلة النقطة والوفاة والميراث والنظام القبلي ، والعكس أيضًا انعكاس الهلالية في مجتمع قنا علي نحو يتمثل ذلك في الأمثال الشعبية الهلالية التي يتداولها القناويون في حياتهم القناوية . من منظور اجتماعي، كنا أحوج ما نكون إليها بعد أن نفدت الدراسات الفنية والتاريخية. يفرض علينا قراءة سيرة بني هلال القناوية "بأقسامها الثلاثة" والنظر بدءا فيما يضبط انتظامها وفق نسق واحد، ليتحدد بذلك انسجامها، ويعطينا إمكانية تعيين "بؤرتها" الحكائية"، وإن اختلفت رواياتها، أو تنوعت تفاصيلها، أو تباينت نهاياتها، وهذه البؤرة علينا الإمساك بها من خلال مجمل السيرة من جهة "باعتبارها نصا" وليس بالبحث عنها من خارجه "المطابقة التاريخية" كما أنه من جهة ثانية تفرض علينا تبين هذه البؤرة باعتماد اجراءات سيميوطيقية تجعلنا ننطلق من اعتبار السيرة "علاقة" حكائية او سردية، يحكمها معني علينا ان نستنبطه, ودلالة علينا ان نستخرجها. صعوبات العمل الميداني "الفصل الثاني عن صعوبات العمل الميداني" فصل غير اعتيادي. هو كشف فكري وكتابة أدبية دقيقة، بعبارة متمكنة ونافذة. وبكل الطرافة المحلية، حس السخرية، يسرد أبو الليل في هذا الفصل تجربته الخاصة مع المجتمع القناوي "الجُواني السري الممتلئ بالسلاح ورائحة الحشيش النفاذة " كاشفًا عن صوت سردي مميز ، حيث لا يكتفي الكاتب بإضافة كمية لدراساته الشعبية السابقة ، بل يتجه نحو التأسيس لمشروع سردي بالغ الخصوصية عن يوميات باحث في صعيد مصر ويقدم من خلاله صفحة جديدة في سرد قنا وعالمها السري البعيد والتي في أمس الحاجة إلي كشفه ودراسته ، ساعدت علي ذلك طبيعة الباحث وخفة دمه، المثقلة بالألم مما يري، فكان الفصل نتيجة لذلك. قبض "خالد أبو الليل " في هذا الفصل علي لحظة السردية، متدفقا حكيه ببراعة كبيرة، مسكونا بالموهبة، وإن كان عليه أن يتخلي عن نظرة الدهشة التي تلازم سرده أحيانا بإزاء تصاريف ازدواجية الشخصيات التي تعامل معها أثناء عمله الميداني في قري ونجوع قنا حتي يمكنه كشف المخبوء والسري لا بمزيد من الجسارة فحسب، بل بمزيد من الوعي أيضا.. المجتمع السري في قنا كما وضحه لنا الكاتب ليس بالضرورة مجهولا أو مكتوما، فالناس جميعا هناك أو شريحة منهم علي الأقل تعرف بوجوده وتمارسه وتستريح إليه، بل وتعتبره سياقا حياتيا اعتياديا مثلما النشاط المؤطر قانونيا هو نشاط حياتي اعتيادي. الفارق بين الاثنين يكمن تحديدًا في وجود إطار رسمي ينظمه، لا أكثر ولا أقل. وسواء أعجبتنا هذه التعبيرات أم أزعجتنا، فهي تمثِّل في مجموعها حقيقة المجتمع في لحظته الراهنة. حقيقة المجتمع كنطاق واسع ومتنوع، وهو يزداد تنوعا واتساعا مع مطلع كل شمس !. بين الهوية والاحتراف في الفصل الثالث "السيرة الهلالية بين الهوية والاحتراف" لمس مدي تأثير الهلالية علي مجتمعها من عشاقها ومدمنيها علي امتداد أجيال عديدة ، وقدم لنا مجتمع الرواة الذين خلبت السيرة ألبابهم فمنحوها أعمارهم كأنهم يؤدون رسالة مهمة في الحياة بأن يصيروا من رواة السيرة الهلالية والتي سلكت طريقها لديهم من الآباء في ظروف أتيح فيها للمتلقي الإصغاء والتفاعل مع عالم السيرة الخلاب ، فكان فعل الأداء لديهم يقوم علي استلهام تراث السيرة الشعبية عبر تواصله الشفاهي بواسطة التفاعل الحي بين مشاركيهم وبهدف تقوية إحساسهم بهويتهم ووحدتهم ويتعاملوا مع العالم - أحيانا- بنبرة التهكم والسخرية في سيرتهم مؤكدين وجوب تغيير ..ثورة ..ضد اللامألوف واللاإنساني ..ضد الجموح ..الصمت الموت ما قبل الموت لنري خصوصية تاريخ الراوي المصطنع وفلسفته الخاصة التي تجعل من العالم الجزئي والكلي فلكًا واحدًا محوره التجربة الإنسانية الأم. يدرس الفصلان الرابع والخامس "السيرة الهلالية بين المدون والشفاهي" وفي الفصل الأخير درس الهلالية علي مستوي "الأحداث والشخصيات" فالكاتب جعلنا نري مجتمع السيرة الهلالية بوضوح كامل. نري هذا المجتمع علي وجهين كل منهما مرآة للآخر، وهما معًا مرآة للمجتمع المصري برمته من النوبة إلي الإسكندرية. والمحاولة التي قامت بها هذه الدراسة المتميزة في جمع روايات السيرة الهلالية في أعماق الصعيد الجواني تعد هلالية بامتياز وحلقة من سلسلة حلقات التنقيب والبحث عن المأثورات الشعبية في محاولة لتحصين تلك المأثورات ضد التفكك الذي قد يعتريها جراء انبهار الشعب المصري والعربي بالوافدات الثقافية وانخراطه فيها لدرجة نسيانه الثقافة الأصلية ، وهو ما يمثل خطوة خطيرة في طريق فقدان الهوية ..عمل رغم تخصصه الدقيق إلا أنه يضمن المتعة حتي لغير المتخصصين.