قبل أسابيع قليلة من اندلاع ثورة 25 يناير 2011 كانت مفاوضاتي مع النجم المنتج قد وصلت إلي طريق مسدود بعد أن كان في غاية الحماس لتحقيق سيناريو فيلم «المغادرون» الذي كتبته مع ورشتي السينمائية عن الشباب الذين يدفعهم الفقر والقهر إلي خوض أصعب المخاطر لمجرد مغادرة الوطن. كان قد يئس تماما من إمكانية إقناعي بإنهاء الفيلم بإدانة هؤلاء الشباب باعتبارهم متسرعين ومتهورين ولا يدركون قيمة وطنهم ولا يقدرون المصاعب التي تواجه النظام البائد من أجل توفير الأمان والخبز لهم. في أثناء لقائي الأخير به جاءته مكالمة من رجل مهم من جهة سيادية يدعوه للمشاركة في مباراة كرة قدم خماسية مع فريق الفنانين من أجل ما يراه المهم خيرا. لبي النجم الدعوة شاكرا سعادته ومعبرا عن امتنانه لجمايله الكثيرة وأفضاله التي اغرقه بها. بعد أن أنهي المكالمة نظر نحوي بخجل ثم راح يحدثني عن المزايا الهائلة التي تتوفر لحضرته بفضل علاقته بمعاليه. وعن أن هؤلاء الناس علي قدر كبير من الشهامة والجدعنة وليس كما يصورهم أمثالي فر نصوصهم التي تراهم دائما بمنظار اسود. أمس واليوم كان لابد أن أتذكر هذه الواقعة وأنا أتابع فيلم «المصلحة» الذي حققه صناعه بمنتهي التقدير والامتنان لجهاز لشرطة وكتعبير صريح عن مؤازرتهم لقياداته في مواقفهم في وقت صعب وكرد لجمايل كثيرة ربما تبدأ من حذف مخالفات مرور عرباتهم الطائشة وقد تصل إلي التستر علي مصائبهم وجرائمهم المتكررة. بل إن الفيلم يبدو في كثير من تفاصيله أقرب لدعاية مباشرة وسمجة لوزارة الداخلية. وهي مسألة إستفزت جمهور الشباب في الصالة ليهتفوا هتاف الميدان " الداخلية بلطجية". فالمصلحة لا يسع حتي لتبرئة الشرطة اليوم بعد ما جري عليها من تعديلات لم تغير في قوامها كثيرا. بل تصل به الجرأة والتبجح إلي إظهار أفرادها كملائكة في عهد المقصي وكأنهم لم يعملوا علي حماية نظم قمعي والتمهيد لفضيحة التوريث التي في سبيلها كانوا يفعلوا أي شيء بتوصيات الحاكم الفعلي وقتها بأمر أبيه. وقد سجلت كاميرات الفيديو وعرضت مواقع النيت مجازر إرتكبوها يشيب لها احفاد الفلول أثناء أحداث الثورة وما تبعها من مذابح للثوار. صورة مشطوبة يحمد للفيلم أنه لا يركب موجة ولا يداهن الثورة كاذبا أو منافقا كغيره. كما أنني لا أستطيع أن أنكر أن السيناريو بل والمشروع بأكمله كان قد أُعد قبل الثورة وبالتالي تدور أحداثه في فترة تسبقها. ولكني لا أستطيع أن أخفي كراهيتي واستيائي من صورة المخلوع المقصي التي تطل من خلف مكاتب ضباط الشرطة في الفيلم. بل إنها تذكرني بأفلامنا القديمة التي كانت تشطب فيها صورة الملك بعد الثورة، فأدرك كم أن ثورتنا بيضاء حقا مقارنة بثورة يوليه. وفي الوقت الذي مازلنا نعبر فيه الفترة الانتقالية بالمسمي والانتقامية بالفعل من الثورة التي قامت أساسا لمواجهة بطش الشرطة، يأتي فيلم «المصلحة» متعاطفا مع الشرطة أيما تعاطف وبادئا بعملية إجرامية ضد رجالها من قبل تاجر المخدرات الذي يقوم بدوره أحمد عز لنري رجاله وهم يجهزون علي رجال الأمن الساهرين علي حماية الشعب وليس النظام. عيد بالعافية والحقيقة أن الأفلام التي تعكس صراع الشرطة مع المجرمين لابد وأن تدين الجريمة ومرتكبيها ولكنها لا تغالي أبدا في إظهار رجال الشرطة بالصورة الملائكية التي يظهرون عليها في فيلم «المصلحة» وكأنهم تربوا في شرطة الدنمارك أو النرويج. بحيث يبدون علي صورة من الشياكة في السلوك والنبالة في الطباع التي لا تظهر إلا في الأفلام الدعائية السمجة التي تنتجها مثل هذه الجهات في أعيادها ومناسباتها السعيدة. تلك المناسبات التي كان الشعب يرغم إرغاما علي الاحتفال بها إمعانا في إذلاله وتصميما علي إصابته بمرض المازوخية الذي مازلنا نعاني منه حتي اليوم في صورة مؤيدين لسيدهم السابق الذي أسقطناه. كما أنهم مصممون أيضا علي تأييد صور ممسوخة منه وتابعين أوفياء له وخونة لوطنهم وكرامتهم. علي مستوي الموضوع ينتمي «المصلحة» أيضا إلي سينما رجعية بائدة بكل مقوماتها وأدواتها. وهو ينتهج طريق أفلام الإنتاج الكبير التي تسعي لإرضاء المشاهد باتخامه بكل شيء وإغراقه في مشاهد وأحداث مليئة بالمعارك والمفاجآت والمواقف المؤثرة وجرائم القتل البشعة. وهو يقدم لمشاهد طماع لا يملأ عينه سوي التراب عدد اثنين من النجوم الكبار بدلا من نجم واحد هما أحمد السقا وأحمد عز.. وكذلك عدد اثنين مزة (فتاة جميلة ذات انوثة واضحة) هما زينة وكندة علوش. ولكنك بالطبع لن تجد دراما تستوعب كل هؤلاء فالصراع لا يدور في هذه الأفلام إلا بين الرجال أما المرأة فهي مجرد ديكور أو زينة أو وسيلة للترفيه أو للكشف عن شهامة أو فحولة الرجال. صورة بالكربون والحكاية بالطبع لا تختلف عن أي قصة صراع بين ضابط شرطة وخارج عن القانون، سبق لك أن شاهدتها عشرات المرات بتوليفات مختلفة. فالمعركة سجال بين الطرفين والمنحي الشخصي يتدخل حين يقتل تاجر المخدرات شقيق الضابط.. والهدف النهائي منع عملية تهريب كبيرة يصحبها بالطبع معركة كبري . وهكذا بإمكانك أن تلمح في كل مشهد أو جملة أو موقف صورة بالكربون من أفلام قديمة عفا عليها الزمن من أيام فريد شوقي ومحمود المليجي مصريا أو آلان ديلون وجان بول بلموندو فرنسيا أو أميتاب باتشان وشيكروبورتي هنديا. وربما هي نسخة طبق الأصل من فيلم أمريكي درجة ثالثة لم يسعدنا الحظ بمشاهدته ووجدت السيدة المخرجة ساندرا نشأت أنه مناسب لها كريفرانس ( مرجع) علي حد التعبير الشائع في السينما المصرية حاليا كتغطية شيك لعملية سرقة الافلام بالشوت. دعاية مغرضة ولكن علي مستوي الصورة والإمكانيات الإنتاجية والتنفيذية التي توفرت للفيلم فإنها بصراحة تجعله فيلم حركة من طراز جيد. وهو أيضا يؤكد علي جانب آخر قوة الشرطة وإمكانياتها الخرافية في الردع باستخدام أحدث الوسائل والتقنيات. وفي سبيل ذلك يقدم الفيلم مطاردة بالطائرات التي كنا نتمني أن نراها تشارك في إطفاء الحرائق في الواقع وليس في «المصلحة». ولكن الفيلم بالتأكيد محاولة جادة من مخرجته ساندرا نشأت في التأكيد علي موهبتها في أفلام الحركة والمغامرات منذ حققت نجاحا مفاجئا وعشوائيا في فيلم «ملاكي إسكندرية». وعلي الرغم من الاجتهاد الشديد في توظيف عناصر السينما من إضاءة وديكور إلا أن الإيقاع يعاني خللا غريبا فهو متدفق بصورة يصعب ملاحقتها في البداية وبطيء بصورة مثيرة للملل في النهاية وهو إيقاع لا يتفق مع أي منطق درامي من أي نوع. المؤكد أن ساندرا تجتهد في تحقيق إيقاع لاهث للمشاهد بصورة جزئية أي طبقا لكل مشهد علي حدا وليس كبناء إيقاعي عام.. كما انها تحرص علي جماليات الصورة بطريقة مطلقة وليس لاغراض درامية فالنص بفتورة وتقليديته وشخصياته النمطية يظل عائقا أمام نجاح حقيقي ..نجاح في شباك التذاكر وفي الصدي الذي يحققه لدي الجمهور وليس في دعاية أراها مغرضة وادعاءات في الغالب وهمية عن إيرادات غير مسبوقة في ظل ظروف عرض صعبة نعرفها جميعا وفي دور عرض نمر عليها ليل نهار فلا نري زحاما ولا رواجا من اي نوع أو بأي قدر. والحقيقة ان فيلم «المصلحة» لا يكتفي باستفزاز جمهور الثوار واهالي الشهداء وضحايا اليوم والأمس بانحيازه المفرط لجهاز الأمن، بل إنه يضيف إلي هذا وبحس غير مسئول إدانة لبدو سيناء الذين يصورهم كمجرمين وأعداء للشرطة دون أي معرفة أو تعريف حقيقي بهم أو بطبيعة علاقتهم بالداخلية أو بمشكلاتهم وظروفهم واوضاعهم. أين المصلحة؟ ولكنه بالتأكيد خطأ غير مقصود في ظل حالة من العشوائية ومحدودية الفكر والتخبط في موضوعات فرعية من باب ملء الفراغ وافتعال الأحداث. وهي مسألة تتفق مع طريقة تنفيذ هذه النوعية في افلامنا باحترام كامل لعناصر الصورة والتنفيذ والإبهار البصري في مقابل إهمال تام للفكرة والرؤية والهدف والاكتفاء بالمعني البسيط المحدود بأن الجريمة لا تفيد مهما كان الوصول إليها عبر طرق وعرة أو اساليب درامية متعثرة أو تفاصيل فاسدة ومسفة. وإذا كانت أفلام الحركة هي أفلام نجوم بالدرجة الأولي لا تهدف إلا لإبراز نجوميتهم وإظهار قوتهم أو قسوتهم أو شجاعتهم إلا أن «المصلحة» في رأيي لم يحقق أي مصلحة لنجميه. فأحمد السقا مصمم علي تجنب أي مشهد أو موقف حقيقي يعبر عن قدرات ممثل في الكشف عن احاسيس أو إنفعالات صادقة في مواقف محكمة. وهو منشغل بالحركات البهلوانية والأكلشيهات التعبيرية التي يكفي أن تراها في لقطات فوتوغرافية وليس لها أي علاقة بالتمثيل السينمائي. أما أحمد عز فالفيلم هو إحدي محاولاته الفاشلة لتحدي طبيعة ملامحه وإمكانياته الصوتية والأدائية ليظهر في دور الشرير القاسي بطريقة تقليدية ورجعية تجعلك تترحم علي نجوم هذه النوعية من الأدوار أمثال زكي رستم والمليجي بل وربما حسن حامد أيضا. وهكذا تأتي أفلام المصلحة دائما ضد المصلحة. ولو أدرك الفنان ان جمهوره هو هدفه الحقيقي وأن الاستخفاف بعقله واستغفاله لم يعد يجدي، لتأكد من ان صناعة الأفلام بضمير تبدأ من العناية بالنص الذي يلزم أن يطرح قضاياه بأمانة وصدق وموضوعية حتي ولو كان فيلم حركة لن يخرج مضمونه عن الجريمة لا تفيد، ولكن أي جريمة ؟و لمن الفائدة أو المصلحة.. للشرطة أم للشعب، الذي من المفترض أن تكون الشرطة والسينما في خدمته؟