يأتي توقيت عرض فيلم (رد فعل) في هذا الموسم الراكد وكأنه انتحار أو إفشال متعمد لعمل ربما رأي صناعه أو المسئولون عن توزيعه أن نجاحه مسألة ميئوس منها فتعاملوا معه باعتباره جثة أوشكت أن تفوح رائحتها. واعتبروه بالفعل ميتا يلزم إكرامه بدفنه في غياب الجمهور دون أن يدري أحد. ولكن المفاجأة أن الروح عادت إلي الجثة الهامدة واستطاع الفيلم أن يحقق إيرادات مقبولة، بل وتعتبر جيدة بالقياس إلي محدودية شعبية أبطاله والإيرادات السابقة لأفلام نجمه محمود عبدالمغني القليلة السابقة. في مرحلة الكساد وذعر السينمائيين من انصراف الجمهور التي نعيشها حاليا يأتي فيلم (رد فعل) كإحدي المحاولات اليائسة في التواصل مع المشاهد الذي فشل خبراء السينما تبعنا في استيعاب ذوقه أو توقع رد فعله. فهو لم يعد يقبل علي الأفلام الهزلية كما سبق وإن كانت الأفلام المسفة مثل شارع الهرم مازال لها جمهورها. وهو يرفض الأفلام الجادة التي تتناول سيرة رموز الثورة مثل الفاجومي والتحرير 2011 بصرف النظر عن مستواها ومدي مصداقيتها. وبصرف النظر أيضا عن مدي إيمان هذا المشاهد أو كفره بالثورة. أصبح جمهورنا ايضا ينصرف عن افلام العنف والأكشن حتي لو كانت أمريكية محكمة الصنع، فلا يوجد عنف ولا حركة ولا انفلات أمني أكثر من الذي يعيشه الشارع والمواطن المصري اليوم .. وهو أيضا لن يجد في أي مأساة ما هو أبشع من حكايات وصور شهداء الثورة ولا ضحايا مؤامرة مجزرة بورسعيد ولا حرائق اللهو غير الخفي. كما أن مواسم الرواج المعتادة لم تعد تشهد أي رواج، فعيد شم النسيم عاني حالة انصراف عن السينما أرجعها البعض إلي حداد الإخوة المسيحيين علي وفاة البابا.. بينما رأي البعض أن الوطن كله يعيش حالة حداد علي ضحايا وشهداء الثورة الذين لم تلوح أي بادرة للقصاص لهم، بينما تتوالي أحكام البراءة علي المتهمين في قضايا القتل والفساد والإفساد وتصاحبها الحرائق المنتشرة في أنحاء البلاد بطولها وعرضها. إطار التشويق وبعيدا عن جرائم القتل التي نعايشها كل يوم وكل ساعة من أجل انبوبة بوتاجاز أو رغيف عيش أو قرص طعمية فإن مؤلفي فيلم (رد فعل) وائل أبوالسعود وإيهاب فتحي يختاران القتل لأسباب نفسية علي غرار ما تقدمه أفلام المجتمعات المرفهة في السويد وسويسرا والدنمارك والنرويج. ولكننا علي أي حال ليس من حقنا أن نفرض علي المؤلف نوع فيلمه أو طبيعة موضوعه وإنما نحن مضطرون لأن نقيمه من خلال القالب الفني الذي اختاره له. ربما تجد الدراما النفسية إطار التشويق هو الأنسب لعرض موضوعاتها غالبا. وقد تأثرت أجيال السينما كثيرا في هذا المجال بأعمال العبقري الفريد هيتشكوك ومن بينها رائعته الطيور. وفي السينما المصرية كان المنزل رقم 13 والخائنة وبئر الحرمان وكلها لكمال الشيخ من أنضج النماذج في هذا المجال. والحقيقة أن هذه الأعمال المميزة قد تتواري في ظلها إجتهادات كثيرة في هذا النوع بعيدا عن الإطار التشويقي غالبا الذي يعتمد علي جريمة وتحقيق وقاتل هارب وصورة تغلب عليها الظلال وأجواء شتوية ليلية مسيطرة. بعيدا عن هذا الإطار شاهدنا من الروائع التي تنتمي للدراما النفسية أعمالا مثل باب الحديد ليوسف شاهين والمستحيل لحسين كمال والسراب لأنور الشناوي وأين عقلي لعاطف سالم وغيرهم. والحقيقة أن مسألة اللجوء للدراما النفسية بإطارها التشويقي أو بدونه قد شهدت حالة من الغياب في أفلامنا المحلية لسنوات طويلة ربما بسبب الأزمات الاقتصادية المتلاحقة القاتلة التي عانتها صناعة السينما في بلدنا منذ منتصف الثمانينات والتي صحبها تجنب المنتجين للأنواع التي لا يتوقع لها أن تدر ربحا كبيرا ومنها الدراما النفسية . وعندما عادت الانتعاشة التجارية للسينما بعد 1997 كان التوجه واضحا ومحددا نحو الكوميديا والهزلية منها خصوصا التي كانت تحقق أرباحا خيالية وتفرز نجومها الاسطوريين بشعبيتهم الخرافية تباعا من هنيدي الي علاء ولي الدين الي محمد سعد وغيرهم ممن تجاوزت إيرادات أفلامهم سقف العشرين مليون. لكن مع تراجع إيرادات هذه النوعية وإفلاس نجومها- فنيا وليس ماديا- عادت السينما تبحث في ألوانها الغائبة، علها تجذب المشاهد من جديد. ضحايا بالجملة في (رد فعل) تتوالي حالات الوفاة الغامضة لسكان نفس العمارة وتصيب الحيرة الضابط حسن (عمرو يوسف) ويزيد الأمور غموضا تقارير الطبيب الشرعي سعد الدميري (محمود عبد المغني) الذي يؤكد عدم وجود شبهة جنائية في الوفاة. ولكن تكرار الجرائم يعيد فتح باب التحقيق من جديد. وتتدخل في البحث رضوي (حورية فرغلي) الباحثة في الجرائم الاسرية وابنة خالة سعد الدميري التي تتمكن من حل اللغز عبر دراستها لعلم النفس وتوصلها إلي مظاهر الارتباط بين شخصيات الضحايا. والغريب أن اتساع خريطة الشخصيات لسكان عمارة كاملة لم يضف أي حالة من التشويق أو التوقع لقاتل من بينهم كما أنه أيضا لم يطرح أي صورة للمجتمع من خلال هذا الاستعراض البانورامي لأن النقد الاجتماعي ليس هدفه، حتي ولوكانت العلاقات بين الجيران تمس من قريب أو بعيد التواطؤ حول قضايا فساد وانحراف اجتماعي. فتناول هذا الامر لا يتحقق بالإخلاص الكافي أو الجدية المطلوبة ليحمل دلالات أكبر من كونه حكايات ثرثارة مثل تلك المنتشرة في جرائد الفضائح الصفراء. وتبدو أقرب للحشو وملء فراغ مساحات طويلة من الفيلم يعجز الكاتبان عن الاستفادة منها في تحقيق التشويق أو تطوير الحدث أو تدعيم الشخصيات المجوفة الهزيلة أحادية التكوين. ويبدو أن المؤلفين والمخرج قد استهواهم جو العمارة كمسرح للأحداث وربما تاثروا بشكل أو بآخر بعمارة يعقوبيان. ولكن الإفراط في متابعة خريطة واسعة للشخصيات جاء علي حساب وحدة الموضوع والسيطرة علي الإيقاع في فيلم يعتمد أساسا علي الجذب والتشويق. تي شيرت القاتل أما المفاجأة العبقرية اللوذعية التي يكشف عنها الفيلم فهي أن سكان العمارة تتشابه وظائفهم جميعا مع وظائف ضيوف الحفل الذي لقي فيه والد البطل مصرعه منذ أكثر من ثلاثين سنة. ولأن البطل مريض نفسيا دون أي تفاصيل محددة لحالته يقرر ان يقتلهم جميعا انتقاما لوالده. والمأساة الحقيقية أن القاتل يكاد يكشف عن نفسه منذ منتصف الفيلم تقريبا ولم يكن ينقصه سوي أن يرتدي تي شيرت مكتوبًا عليه أنا القاتل من اجل تسهيل الأمر علي المشاهد محدود الذكاء أو ضعيف التركيز. ربما يعتقد بعض الكتاب أن تكرار جرائم القتل في سيناريو واحد كفيل وحده بجذب المشاهد وتحقيق قدر كاف من الإثارة. ولكن الحقيقة أن هذه الأمور لا تتحقق إلا بفضل التعاطف الحقيقي مع الشخصيات والخوف عليهم والحزن من أجلهم ومن خلال بناء درامي وسينمائي وإيقاع مشدود يصنع التوتر وهي كلها أمور لم تتحقق في هذا الفيلم بأي قدر. وعلي جانب آخر قد يري المخرج أن الموسيقي التصويرية المثيرة للتوتر والإضاءة الخافتة الموحية بالخطر يكفيان لتحقيق التأثير المطلوب. وكأن الصوت والصورة وحدهما في الفيلم هما وحدهما اللذان يستطيع بهما المخرج أن يستحوذ علي جمهوره. وهو بهذا يتعامل مع الفيلم باعتباره معرضًا للصوتيات والبصريات وليس وسيلة فنية للتعبير الدرامي الذي عليه أن يدرك أصوله وفنياته. التمثيل الفوتوغرافي هي أمور كان يلزم علي مخرج رد فعل أن يلم بها بالقدر الكافي لأن استيعاب الدراما وتذوقها والتمكن منها هو جزء أصيل من أعمال المخرج . والحقيقة ان حسام الجوهري يبدو مهتما بهذا النوع من الأفلام الذي سبق له تقديمه في فيلمه الأول شارع 18 . ولكنه مع الأسف لا يبذل اي جهد في تطوير قدراته أو تصحيح مفاهيمه تجاه فن الفيلم. ومن الجائز ان السبب في هذا كونه يتعامل بافتتان مع إنجازاته المتواضعه، فيصمم علي أن يتضمن فيلمه الثالث مشاهد من فيلمه الأول وكأنه من علامات السينما. يلعب محمود عبدالمغني دور طارق وهي شخصية مركبة حظت بعناية مقبولة مقارنة بباقي الأدوار الهشة النمطية احادية الجانب والتي يبدو معظمها أقرب لشخصيات مجلات الكومس حيث تكفي لقطة ثابتة للتعبير عن الدور وحيث يعجز أي ممثل عن إضافة أي ملامح أو لمسات للشخصية بعد مشهد ظهوره الأول . فلا شخصية تنمو ولا حدث يتطور ولا موقف يبرز جوانب جديدة. وفي هذا الإطار يأتي تثبيت عمرو يوسف في دور رجل الشرطة النمطي بمحدودية قدراته وتعبيراته وباعتماده الكامل علي وسامته وحسن مظهره. أما اختيار حورية فرغلي في دور رضوي فمن الواضح أنه ينبع من رغبة في منحها دفعة إلي الامام. ولكن هذا يأتي علي حساب مصداقية الشخصية وإن كان لم يؤثر كثيرا في المستوي المتواضع الرديء لمستوي التمثيل في الفيلم عموما. وهي مسألة ربما تعود في الاساس إلي بطل الفيلم محمود عبدالمغني الذي لا ينشغل ببناء ودرامية الشخصية بقدر اهتمامه بالحركات واللفتات والتعبيرات التي يتصور انها كفيلة برسم صورته كنجم. وكأنه يفكر في الألبوم الفوتوغرافي والصور الدعائية المصاحبة لاخباره. وهي مسألة ترتبط أساسا بهوس النجومية وربما يكون هذا الاسلوب قد طغي علي أداء الجميع دون إرادتهم . في ظل سينما تنشد التنوع بحثا عن توجهات جديدة لمزاج المشاهد عادت مؤخرا الأفلام الاجتماعية والتراجيدية وأفلام الحركة بل والرعب أيضا. وظهرت من جديد أفلام تنتمي إلي الدراما النفسية أو السايكو دراما ومنها التوربيني في تقليد ماسخ ومستنسخ دون أدني تصرف عن الفيلم الأمريكي الاشهر رجل المطر. لكن جاءت بعد ذلك محاولات شديدة النضج وطازجة في أفكارها ومعالجاتها وبأسلوبية جديدة بعيدة عن الشكل التقليدي في التشويق وحتي لو اعتمدت علي تيمات أجنبية ومنها آسف علي الازعاح لخالد مرعي وميكانو لمحمود كامل. ولكن (رد فعل) رغما عما يشاع عن نجاحه التجاري فإنه يرتد بمستوي الفيلم النفسي إلي أزمنة غابرة سابقة لهيتشكوك وكمال الشيخ وربما لإنسان الغاب أيضا.