يداعب الذاكرة لقطة لعدد من كراسي المقاهي علي شاطئ بحر تداعبها الأمواج، الكراسي لا يجلس عليها أحد وكأن جالسيها قد رحلوا عنها وتركوها وحيدة في الغروب. هذه الصورة من فيلم " ألوان " التسجيلي لهاشم النحاس عن عدد من لوحات الفنان فاروق حسني، الذي شغل منصب وزير الثقافة لما يزيد علي 22 عاما، يشهد حتي أعتي معارضيه أنه فنان تميز بلوحاته التجريدية، وعلي الأرجح فإن هاشم النحاس الفنان الملتزم المنتمي لمجموعة مثقفي الستينات ممن يميلون إلي اليسار يري إبداع فاروق حسني ويقدم رؤيته عن ذلك في عمله القصير12ق. نسمع أصوات موج البحر مع عناوين البداية، يأخذنا إلي لوحة تجريدية للبحر ومنها إلي لوحات أخري، ثم لقطة حية لأمواج البحر ونسمع معها أصوات طيور النورس ثم عودة إلي اللوحات، اللون الأحمر في اللوحات تعبير فني عن حيوية الموج ودفئه. ويستمر التوازي بين الأمواج التي تضرب الصخور وبين اللوحات، نقرأ تاريخ 1994 علي أكثر من لوحة، ولقطة النهاية مع كراسي المقهي دون بشر ساعة الغروب رؤية فنان عناوين النهاية مكتوب بها رؤية هاشم النحاس، أسأله لماذا لم يكتب سيناريو وإخراج مثل غيرها من الأفلام يقول: " لا أتحدث عن الفنان لكن عن رؤيتي عنه، وكيف أراه، مع الأفلام عن الفن التشكيلي والفنانين التشكيليين ليس هناك سيناريو معد قبل التصوير، ولا تهمني كثيرا المعلومات عن الفنان، أقدم رؤية للفنان ولبعض أعماله وليس رؤية كلية شاملة عنه، وخاصة في زمن الفيلم الذي يقل عن ربع الساعة. لا أستطيع خلالها تقديم فيلم عن فلان لضيق الوقت ولاحتياجه لوسائل تعبير وشرح، ولكني أفضل اختيار زاوية ما للفنان من وجهة نظري كمخرج وهذه الرؤية تتفق مع فيلم يخلو من التعليق أو من صوت للفنان أو لناقد يشرح أعماله، فكلها وسائل تحدد المعني ولكني قصدت أن أقدم معاني مفتوحة ورسالة مفتوحة للتذوق الفني، من أجمل الآراء التي سمعتها من مشاهد لفيلم " ألوان: ما ذكره المشاهد أنه لم يفهم لوحات فاروق حسني إلا بعد مشاهدته للفيلم. وهذا الرأي أسعدني جدا، حيث أضع مكاني أقرب للمتذوق السينمائي منه إلي الناقد السينمائي، المتذوق يوصل رؤية إلي المتلقين، أنا أيضا أعتبر نفسي متذوقاً سينمائياً ولست ناقدا سينمائيا حيث لا أكتب إلا عن الأعمال التي تعجبني، الأفلام التي أريد أن يشاركني القارئ إعجابي بها. عروس البحر عمل آخر عن الفنانة أزميرالدا حداد باسم عروس البحر حيث حركة الكاميرا مسيطرة منذ اللحظة الأولي واختيار للوحة تشبه الفنانة ترسخ حقيقة أن الفنان لا يرسم سوي نفسه أو انعكاس الأشياء علي وجدانه، أثناء المشاهدة أجد نفسي أدير تعليقا في رأسي وكأنني أكمل نقص التعليق المعتاد مع الأفلام الوثائقية والذي ينبذه المخرج هاشم النحاس ولسان حاله يقول سأتركك أيها المشاهد دون أن أفرض عليك شرحا، ها هي الصورة أمامك فاستمتع وأبدع قراءتك. نشاهد الفنانة تعمل علي لوحة تركيب باستخدام بعض المواد، قطع من شبك صيد، نماذج صغيرة لأعلام دول، نماذج مجسمة لأشكال مختلفة من الأسماك، المزج في اللون بين التصوير والنحت علي سطح اللوحة،تحرك مصفاة تنثر بودرة اللون علي اللوحة، ثم تنفخها كمن ينفخ فيها من روحه. ثم استعراض للبيت الذي يشكل لوحة كبيرة الفنانة بشخصها جزء منها. ثم منضدة الرسم تعمل عليها الفنانة بتركيز شديد دون أن يبدو أن الكاميرا تشوش عليها. دور المونتاج أسأل المخرج هاشم النحاس كيف يعمل التشكيلي بكل هذا التركيز وحوله محمود عبد السميع بكاميرته ومعدات الإضاءة، كيف تندمج في لوحتها وحولها فريق عمل الفيلم، يقول النحاس : " هنا يأتي دور المونتاج الذي يوهم بالتلقائية، أستبعد غالبا بدايات اللقطات ونأخذ اللقطة من لحظة اندماج الفنان عندما ينسي الكاميرا ويركز كلية في لوحته، أحيانا عندما تكون هناك نظرة أو ابتسامة للكاميرا أستخدمها وأجدها مناسبة ومفيدة للفيلم." ونعود لفيلم " عروس البحر " حيث لا يتركنا المخرج تماما بدون معلومات، إذ ينتهي بلوحة مكتوبة عن الفنانة أزميرالدا حداد متي تخرجت والمعارض التي شاركت بها والمقتنيات. يأخذ المخرج اسم الفيلم من أحد عناوين لوحة للفنانة وجده موحيا وينصرف إلي أكثر من معني، ويشبه أغلب أعمالها ويتشكل منه عالمها الفني متنوع الأساليب. سيمضي الفنان علي طريقه محققا لنفس جهة الإنتاج بالتلفزيون المصري عملا عن النحات أحمد شيحا يبدأه بنحت علي حجر يحيلنا إلي الفن الفرعوني. أسأل المخرج عن كيف يتعامل مع إطار اللوحة التي ينقلها داخل إطار الصورة يقول بحماس : " أقوم بإلغاء الإطار، وأعمل إطاري الخاص، أتعامل مع اللوحة وكأني أصور واقعا يحدث أمامي، إطار السينما مختلف عن إطار لوحة الفنان، أنقل ما أشعر به تجاه اللوحة، وأؤسس للوحتي أنا، وهو نفس المنهج الذي أتبعه مع الأشخاص والأماكن الحية، أختار من اللوحة الأجزاء التي أشعر بها فقط من لوحة الفنان، ولهذا أحرص علي نقل إحساسي وليس إخبار المشاهد بمعلومات، قد تأتي مؤخرا أو في وسط الفيلم، أو لا تأتي المهم كيف أري اللوحة وأتذوقها وأنقل رؤيتي للمشاهد. المونتاج له دور كبير بدون لمسات المونتير كمال أبو العلا لم يكن فيلم "ألوان" ليخرج هكذا، اللوحة ساكنة وأنا أحرك الكاميرا علي أجزاء بعينها داخل الإطار، متي يتم القطع علي اللوحة ومنه إلي لوحة أخري، في كادر معين جزء من الثانية يحدده بإبداع المونتير الخلاق الذي هو صانع إيقاع الفيلم،إيقاع يتحقق بدون موسيقي تصويرية التي استعضت عنها بالمؤثرات الحية التي خلقت شريط صوت الفيلم من صوت البحر والرياح وهي التي ضبطت إيقاع الفيلم وشكلت إحساسي باللوحات حاولت إيصاله للمشاهد. في أعماله عن فنانين تشكيليين وأعمالهم قدم المخرج هاشم النحاس رؤية خاصة تحيي إبداع الفنان وتسهم في تذوق إبداعاته. اتبعت نفس منهج المخرج والمفكر السينمائي هاشم النحاس في كتابة هذه الزاوية عن جانب من أعماله المتعددة التي تحتفي بالإنسان البسيط كما في النيل أرزاق أو تسلط الضوء عل عملاق الأدب العربي نجيب محفوظ في " نجيب محفوظ ضمير عصره" أو علي مجموعة من رموز الفن التشكيلي المعاصر المهدد الآن من طيور الظلام الساعين إلي السلطة الآن في مصر.