بل إنه هوالفيلم المصري الوحيد الذي نال جائزة مهرجان قرطاج الكبري ، التانيت الذهبي عبر تاريخ مسابقاته الدولية . وقد سبق أن فاز بها المخرج المصري توفيق صالح ولكن عن الفيلم السوري (المخدوعون) . كما فاز يوسف شاهين بجائزة قرطاج ولكن عن مجمل أعماله . أما رضوان الكاشف فقد حصل علي جائزته الثانية وهي التانيت الفضي وليس الذهبي كما يعتقد البعض . حصل (ميكروفون) أيضا علي جائزة أحسن فيلم عربي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كما نال جائزة أحسن مونتاج من مهرجان دبي . ولكن كل هذه الجوائز وغيرها هي ليست فقط السبب في اختياري له كأهم فيلم مصري شاهدته خلال عام كامل. ولكن لأسباب عديدة منها أيضا أنه بنجاحاته المستمرة يتوج مسيرة السينما المستقلة في مصر ويلقي الضوء عليها ويمنح دفعة أكبر لفنانيها . ويلقي عليهم بمسئولية كبيرة تجاه تطوير الفيلم المصري والخروج من حدوده الضيقة وآفاقه المظلمة التي ساقه إليها التيار التجاري المسيطر والمفسد لغالبية إنتاجنا السينمائي . استشراف المستقبل ولكن يظل تحليل هذا الفيلم بعناصره وأفكاره هوالذي يكشف عن أهميته الكبري ، وعن تميزه الفني ، ويؤكد علي ضرورة إتاحة أكبر فرصة ممكنة له في العرض العام لنشر أفكاره وطرح رؤيته الجديرة بالتأمل في ظل واقع اجتماعي في أمس الاحتياج لهذا النوع من الفن والأفكار . وقد تزايد شعوري هذا تجاه الفيلم بعد الأحداث المؤسفة التي وقعت بالإسكندرية ليلة رأس السنة . والتي تكشف عن غياب متعمد لدور الفن والثقافة في كشف أمراض المجتمع ونشر الوعي بين أفراده وتقوية أمنه بالمفهوم العميق لمسألة الأمن التي تتجاوز حدود دور الشرطة بمختلف أفرعها لتتحول إلي مسئولية قومية يلزم أن تتعاون فيها جميع الأجهزة والجمعيات والمؤسسات الحكومية والأهلية . في فيلم ( ميكروفون ) يعد الإيقاع السريع والقطع الحاد والعرض شبه التسجيلي هي وسيلة المخرج لعرض حكايته التي تستعرض عالما من فرق الغناء المستقلة في مدينة الإسكندرية . فيشاركون في الفيلم غناء او تمثيلا بشخصياتهم الحقيقية وجانبا من حكاياتهم الشخصية . ويأتي اختيار مدينة الإسكندرية والتعرض لتفشي التيار الرجعي والمتطرف بها عنصرا مشتركا بين هذا الفيلم وفيلم داود عبد السيد ( رسائل البحر ) الذي لا يقل عنه قيمة ولا أهمية . ومن هنا تلوح لنا القدرة الحقيقية للفنانين الجادين المهمومين بقضايا هذا الوطن في التوقع والتنبيه للمخاطر التي تهدده . ندخل إلي عالم ( ميكروفون ) عبر كاميرا شاب وفتاة يسعيان لصناعة فيلم يسجل الواقع باستخدام كاميرا مخفية في علبة كارتون .ولكن هذا الالتزام بواقعية الصورة لا يلغي جمالياتها ولاقدرتها المتمكنة علي التعبير عن الإسكندرية بأسلوبية جديدة وبتفاصيل بصرية معبرة ومؤثرة تصنعها رؤية المخرج المؤلف أحمد عبد الله وترصدها بمهارة كاميرا طارق حفني التي تنجح في أن تجعلك تري المدينة التي صورتها كاميرات كثيرة وكأنك تراها لأول مرة . فالتفاصيل البصرية الصغيرة تصنع لوحة فسيفسائية للمدينة . ولا شك أن تشكيل وتركيب هذه القطع الصغيرة المتناثرة أنجزه المخرج بالتعاون مع المونتير البارع هشام صقر لتجميع شتات هذه المواد التي من الواضح أن قدرا منها تحقق بالارتجال والإبداع العفوي إلي جانب نسبة ليست بقليلة اعتمادا علي سيناريو محكم ومحدد . إن هذا التوليف البارع وهذا المزيج الصعب جدا هوالذي يحقق لهذا الفيلم أسلوبيته وحداثيته . والجميل انها نابعة من طبيعة موضوعه وفكرته ذات الطابع المتشظي . فالشكل هنا لا ينفصل عن المضمون أوالموضوع الذي يتشكل من خطوط وعلاقات تتجاور وتتقابل وتتوازي وتتقاطع لتشكل صورة معبرة جدا عن الإسكندرية اليوم .. وعن قطاع من شبابها يواجه الرجعية والتزمت الاجتماعي بالسعي وراء مزيد من الحرية .. والطموح في التحقق إبداعيا في مجالات الفن المختلفة والحديثة. حالة تعبيرية تتسع الحالة التعبيرية للفيلم لتشمل جيلا بأكمله من شباب المثقفين ومحبي الفن في حالة من الحصار يبحث عنهم ويتوغل في عالمهم شاب عائد من أمريكا - خالد أبوالنجا - . وهويعمل مع مؤسسة تسعي إلي تشجيع الفنانين في الإسكندرية ولكن هذه المؤسسة نفسها عاجزة عن أن تجد من يشجعها . ومن خلال رحلة هذا الشاب الشخصية مع والده وخطيبته - منه شلبي - أومع الفرق التي يتعامل معها تتشكل لديه صورة لكثير من المتغيرات التي وقعت في الوطن . فبعيدا عن حالة الانفصال التي يعيشها مع والده وخطيبته .. وبعيدا أيضا عن مشاهدات مستقلة من واقع الحياة المصرية مثل الشاب الواقف أمام لوحة الدعاية لمرشح الانتخابات للحفاظ عليها وللترويج لصاحبها بالميكروفون .بعيدا عن كل هذا هناك بالأساس هؤلاء الشباب الذين يسعون إلي أي وسيلة للتعبير عن أنفسهم حتي ولو بأغاني الهيب هوب بأسلوبها المستورد ، ولكن بسهولة توظيفها للبوح عما يجيش في النفس كبديل عن صيحات الغضب وزفرات الضيق . يتواصل محور جديد ويتضح في الصورة مع السعي إلي الإعلان عن هذه الفرق بالرسم علي الحوائط عبر المزج بين فن الجرافيتي والبوب ومن خلالهما أيضا تتكامل فكرة كسر القواعد التقليدية في الفن . فإذا كان فن الهيب هوب يتمرد علي فكرة التطريب والقواعد الموسيقية والمعمار اللحني من أجل إتاحة الميكروفون لكل الناس ليخرجوا ما في قلوبهم ببساطة فإن هذه الفنون التشكيلية هي أيضا ثورة في هذا المجال علي الموروث لإتاحة مزيد من الحرية والإنطلاق في التعبير . يصنع الفيلم مادته وأحداثه من خلال هذه الحكايات وعلاقات هؤلاء الشباب ببعضهم وبأسرهم وبالمجتمع وفي صدامهم مع المسئولين الحكوميين وغير الحكوميين . وهو يختار هذه الحكايات بعناية ويسردها باختزال وذكاء لتحتفظ بدلالاتها العامة دون أن تفقد طزاجة خصوصيتها وتعبيرها العفوي عن هؤلاء الشباب بأسلوب أقرب للدوكيودراما أومزج الدرامي بالتسجيلي . ويتم توظيف الفيلم داخل الفيلم في خدمة هذا المفهوم ببلاغة شديدة . فالفيلم الذي يصوره الشاب والفتاة هوالمادة الأساسية للفيلم الذي نشاهده . ولهذا فإن الخروج إلي حكاية الانفصال الذي يقع بين الشاب والفتاة هوأكثر ما يضعف الفيلم ، خاصة مع اعتمادها علي أساليب تجريدية خالصة في السرد . ولكن المخرج يحقق حالة من المصداقية للصورة والأحداث بالطابع العفوي الذي يفرضه عبر وسائل عديدة سواء في اختيارات الممثلين الذين يلعب بعضهم أدوارهم الحقيقية . بينما يؤدي بعضهم الآخر بتلقائية مدهشة وعلي رأسهم هذا الممثل الرائع الذي أدي دور صالح رئيس المركز الوطني بالإسكندرية .. والذي استطاع أن يقدم بامتياز نموذجا من المسئولين القادرين علي إفشال أي تجربة وإخراس أي صوت بأساليب في منتهي الخبث والمراوغة . حماسة شبابية الشباب في فيلم ميكروفون قادرون علي أن يغنوا وأن يبدعوا لكنهم لا يتمكنون من أن يرفعوا أصواتهم بالغناء أوأن ينشروا إبداعهم أيا كان نوعه . إنهم في حاجة حقيقية إلي ميكروفون أو وسيلة لتوصيل أصواتهم . ولكنهم في صدام دائم مع من يسعون إلي كتم أصواتهم في البيت وفي الشارع بل وحتي في المؤسسات الأهلية . وهكذا يعبر الفيلم عن رسالته العميقة الموجهة للمجتمع بأسلوب فني خالص وبمعادلات موضوعية في منتهي الذكاء والإتقان . لن تجد في الفيلم عبارة واحدة مباشرة أوخطبة حنجورية من النوع المعتاد . أوموقفا ميلودراميا يعبر فيه أحد الأبطال عن عجزه وفشله بالبكاء . بل ستشعر بحالة من المقاومة وحماسة شبابية لا تلين نحونشر فنهم ومواجهة مشكلاتهم . تمتد من بداية الفيلم حتي نهايته التي يتوجهون فيها إلي البحر حيث يستطيعون أن يطلقوا أصواتهم بحرية مع أغنيتهم التي تؤكد علي إصرارهم وصمودهم . ويتمكن أحمد عبد الله عبر البناء الدرامي والسينمائي بمونتاج بارع من أن يصعد بك في مشاهد ما قبل النهاية إلي التوحد مع هؤلاء الشباب ومع حلمهم في تحقيق حفلهم . وفي مشهد بارع يقع هؤلاء الشباب تحت حصار مادي يوازي الحصار المعنوي الذي يعيشونه والذي يحرمهم من أي ميكروفون . وهكذا مع ذري متصاعدة يتنقل بك الفيلم لتتضح الرؤي فتكتشف فجأة انك شاهدت تحفة سينمائية لم يكن ينقصها إلا أن تكون هذه الموسيقي وهذا الأسلوب الغنائي نابعا من تراثنا . وطبقا للموقع الالكتروني مصراوي فإنه في إحدي ندوات الفيلم يوم 17 ديسمبر قال المخرج احمد عبدالله " فيلم ميكروفون يحاول أن يقرأ، أويحلل الوضع الحالي بالاستناد إلي ما سوف يجري في المستقبل. نحن هنا الآن.. بسبب ما سوف يحدث". هل أدركت عزيزي القاريء لماذا يستحق هذا الفيلم ومن الآن أن يكون في مقدمة أهم الأفلام التي سيشاهدها جمهورنا في 2011 ؟.