قد يشاهد المرء فيلما سينمائيا حديث الإنتاج وبعد أن ينتهي من مشاهدته فإنه يشعر بأن هذا الفيلم قديم أو تأخر عرضه لسنوات أو أن موضوعه لم يعد ذا قيمة رغم أن الفيلم قد يكون قد خرج توا من المعمل إلي صالة العرض. وعلي العكس من ذلك وفي أحيان كثيرة عندما يشاهد المرء أفلامًا جري إنتاجها منذ زمن قد يصل إلي عشرات السنين فإنه يشعر أنها حديثة الإنتاج ويتابعها بشغف واعجاب ويحرص علي مشاهدتها كلما حانت فرصة لمشاهدتها. ونحن نستطيع أن نقول عندئذ بان هذا هو الفرق بين الفن الحقيقي وأي نوع آخر من الفن الذي يولد متهالكا لا يقوي علي مقاومة الزمن أو الأعمال البراقة التي قد ترتبط بمناسبة معينة ثم ما لبث أن يخبو بريقها رغم ما يحصل أصحابها علي شهرة قد تستمر إلي أن يموت فتموت معه أعماله وفي نفس الوقت نري الكثير من الفنانين يموتون وتعيش أعمالهم بعدهم، وهذا ما جعلنا أيضًا نطلق عن بعض الأفلام السينمائية أنها من كلاسيكيات الفن السينمائي أي في وسع أي واحد منا أن يشاهدها في أي وقت وليس ما يمنع أن يجد نفسه يشاهدها مرات ومرات، ويكتشف المشاهد في كل مرة يشاهد فيها هذه الأفلام الجديد أو قيمة أكبر ويزداد تذوقه به. الارتباط بالواقع وقدلا يدخل هذا الأمر نوع الموضوع الذي يعالجه الفنان السينمائي أو الارتباط بالواقع الوقتي مثل معالجة أنواع من مظاهر الفساد السياسي المعاصر أو عشوائيات الأحياء الشعبية أو سلوك معين نتيجة ظروف طارئة يمر بها المجتمع وقد تصل هذه المعالجات إلي حد المباشرة أو المتاجرة بالواقع كما يحدث في الأفلام المصرية الحالية. وقد لا يدخل في هذا الأمر أيضًا مهارة المخرج التقنية وحدها أو توهج الممثلين وشهرتهم أو جرأة السيناريو وبراعته أو ابهار المناظر وسحر الموسيقي، فإن أي مهارة من هذه المهارات علي حدة لا تؤدي إلي وجود هذا الفيلم الذي يخلب لبنا ويعلي من ادراكنا الفني في أي زمان ومكان ويستحق أن نضعه بين كلاسيكيات الفن السينمائي. ومما يجدر الاشارة به أن قنوات المحطات التليفزيونية علي مستوي العالم تقوم بتوفير هذه التصفية للمشاهد والمادة تقييم الأفلام السينمائية وذلك بتكرار عرض الأفلام القديمة جنبا إلي جنب مع الأفلام الحديثة وهي مسميات أراها زمنية فقط وليست من ناحية القيمة، وبذلك تعطي هذه القنوات التي تختص بالعروض الفرصة للمشاهد المتذوق لمراجعة القيم والاحكام الفنية بل ومراجعة الفن والاستقرار في النهاية علي تقييم محدد للفيلم السينمائي الذي يشاهده. تراث الفن وصنع هذه الأفلام الجيدة لا يتأتي إلا بوجود فنانين سينمائيين حقيقيين علي دراية كبيرة بجوهر هذا الفن وأصوله ويعتبرون أنفسهم جزءًا من تراث هذا الفن ويستوعبون هذا التراث استيعابًا بليغًا وتكون لديهم رغبة حقيقية ليست في صنع أفلام يقبل الناس عن مشاهدتها مثلما يقبولون علي سلعة رخيصة رائجة خادعة في مظهرها أو مثلما يقبل القارئ عن صفحة الحوادث في بعض الصحف أو الأخبار المثيرة وقتيا بل تحتدمهم الرغبة في إبداع عمل فني يستولي عن وجدان المشاهد ويتغلغل في أعماقه ويستمر علي احداث هذا التأثير. لابد من المعرفة الكاملة بالموضوع الذي يطرحه فنان الفيلم، وإذا توافرت هذه المعرفة علي سبيل المثال لدي كاتب السيناريو والمخرج وأصبح كل شيء أمامهما واضحًا ومنطقيا عندئذ لا يعوزه سوي الشكل الذي يفرض نفسه ويلتحم بمادة الموضوع ويصبحان شيئًا واحدًا ينبض بالحياة ومن ثم ينبض بالفن، فإن هذا التناغم ولا أقول الالتصاق ضروري فهو مفتاح الباب الذي يجعل فنان السينما يستطيع من خلاله أن يتوغل إلي عالم الحقيقة. الحقيقة الخالدة وأنا لا أعني هنا الحقيقة المألوفة التي لا تبغي سوي الاخبار ولكني أعني الحقيقة الفنية الخالدة التي تعني الكثير أي أنه في كل مرة تجري فيها مشاهدة العمل الفني يتعرف المشاهد علي جزء من أجزائها والتي لا تنتهي وقد لا يتحقق هذا إلا من خلال ما نطلق عليه بالتواصل الفني. ونعني بالتواصل الفني أن يكون المبدع لديه إدراك بالتراث الذي سبقه بحيث يستفيد من هذا التراث ويدرك أنه سوف يكون جزءًا منه ومكملا له وذلك بالإضافة والقاء الضوء عليه من خلال عمله الجديد، فالمبدع لا ينفصل عما سبقه وعندما تحدث المقارنة بين ما حققه وبين ما تم قبله فإنه بذلك يلقي الضوء علي ما سبقه وكذلك فإن ما سبقه يلقي الضوء علي عمله، وعلي سبيل المثال فإننا نجد في الشعر مثلا في قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر العظيم «ت.س. إليوت» فإنه يضمن في قصيدته أبياتًا من شيكسبير ودانة وأوبرا «تريستان وإيزولد» لفاجنر وأبياتا من قصائد الرمزيين الفرنسيين، فهو بذلك يضفي معاهدة ومعني جديدًا عن هذا التراث وفي نفس الوقت يساهم بما يضمنه في جلاء وقوة المعني الذي يرمي إليه. القيمة والتأثير ويقودنا هذا إلي الحديث عن البناء الفني وكثيرا ما أشرت إلي أن الأفكار كثيرة ومتاحة لكل مبدع حتي لو اشترك عشرات المبدعين في اختيار فكرة واحدة ومعالجتها فإن كل معالجة لابد أن تختلف عن الأخري وقد تتفوق عليها من ناحية القيمة والتأثير وقيمة العمل الفني وتأثيره لا يحدث إلا من خلال البناء، فالفن هو بناء، وكلمة بناء لا تعني معني معينا ولا تعني شكلا معينا، فالعمل الفني لديه حرية اختيار الشكل وطريقة البناء ولكن ما يقدمه الفنان في النهاية نطلق عليه بناء مثلما نقول إن البيت بناء والقصر بناء والهرم بناء والقصيدة بناء والرواية بناء والمسرحية بناء واللوحة بناء والسيمفونية بناء والتمثال بناء، ولكن بناء كل شيء من هذه الفنون يختلف ليس في كونه بناء ولكن حسب رؤية المبدع، يقول قيس الزبيدي وهو مخرج سينمائي ومونتير وباحث من أصل عراقي وجنسية سورية في كتابه المهم في رأي «الوسط الأدبي في السينما وسيلة أم غاية؟» وهو يتحدث عن البناء وقبل كل شيء ينبغي توفر ومعرفة كافية في أصول البناء الدرامي للحكاية، والذي يحدد أسلوب وطريقة سرد الحكاية، فابتكار حكاية هو خلق حر غير ملزم وخلق عقلي لا يقدر، ولكن طريقة بنائها الدرامية يمكن أن تحسب بدقة متناهية، فالسيناريو عملية معينة، فيها عناصر مميزة تصنع النص الجيد بشكل عظيم، وبالامكان تحليل هذه العناصر والبرهنة عليها ذهنيا، مع التأكيد بأن مشاكل كل نص مختلفة. ورغم هذا الكلام فإنه قد ينطبق علي« عنصر واحد في بنية الفيلم السينمائي ولكن البنية نفسها قد لا يفسرها هذا الكلام بما لها من أهمية عظمي، يقول جان موكار في كتابه «Kapial aus der poetik» حيث يحدد سمة أساسية للبنية، من السمات الأخري لهذه البنية طابعها النشط والديناميكي، وتستمد البنية نشاطها من أن كلا من العناصر في الوحدة الكلية له وظيفة محددة تدمجه في المجموع الكلي البنائي وتربطه به، وتنشأ ديناميكيتها من أن هذه الوظائف وعلاقاتها التفاعلية خاضعة بمقتضي طابعها النشط لتحولات مستمرة وهكذا فالبنية ككل تجد نفسها في حالة حركة لا تنتهي، علي خلاف المجموع الكلي التخليصي الذي يتداعي إذا تعرض لأي تغيير. التقنية الفنية ويعني ما عرضناه من آراء بالنسبة للبنية أو البناء بأن الموهبة وحدها أصبحت غير كافية، الموهبة قد تؤخر القدرة علي الإبداع ولكن الثقافة الواسعة توفر القدرة علي التقنية الفنية العالية التي تعطي للعمل الفني قيمة كبيرة وتجعله يختلف عن بقية الأعمال خاصة التي تتناول نفس الموضوع. الموهبة هي بمثابة التوهج والضوء المشع الذي يريد أن يفجر المتلقي ولكن الثقافة هي التي تحدد مسار هذا الضوء وتضعه في بؤرة التأثير، ولا يمكن تحقيق هذا الأمر إلا من خلال بصيرة مثقفة ثقافة عالية لديها الوعي بالماضي والحاضر، ونحن هنا نعني بالماضي ليس الماضي الزمني ولكن الماضي الثقافي أو ما نطلق عليه «تراث الإنسانية» والحاضر هو قيمة هذا التراث في ضوء المتغيرات الآنية. ومن خلال ما قلناه فإن الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع بأعماله الإبداعية أن يفتح مغاليق أعمال سابقة استعصت علي فهم معاصريها وأن يحيل التجارب السابقة إلي أعمال ناضجة ليست فقط من أجل الريادة فقد خرجت عن كونها تجريباً إلي حقيقة فنية يستطيع أن يتذوقها المتلقي المعاصر. الروح العالمية الفنان الحقيقي هو الذي نجد في أعماله الروح العالمية الشاملة أو البعد الإنساني الذي يجد كل فرد نفسه فيه، فهو لا يهتم بما حوله في بيئته ولكنه بعمق الرؤية والمهارة الفنية يستطيع أن يحول الخاص إلي عام، فليست العشوائيات التي يعالجها هي مجرد عشوائيات محلية ولكنها عشوائيات عالمية وأشخاصها الموصمين نجدهم في كل زمان ومكان. إن الشخصية الإنسانية في أي عمل فني لا تحددها ملامحها الخاصة فقط بحيث لا تنطبق إلا علي البيئة التي نشأت فيها ولكنها تنطبق علي الإنسان بوجه عام، فالطبيب ذو الخبرة العميقة والتجارب الكثيرة والمحب للإنسان الذي نراه في فيلم كيروساوا الرائع «ذو اللحية الحمراء» عندما يعطي درسا للطبيب الشاب المتعالي علي البيئة التي يعمل بها ويهفوا إلي العمل في المدينة ليعالج الأثرياء إنما يعطي ذو اللحية الحمراء درسا رائعا لكل أطباء البشر الذين لا يدركون الرسالة الطبية لتخفيف آلام الناس خاصة البسطاء منهم في كل زمان ومكان والفساد الذي يبرزه فيلليني في فيلم «ساتيروكون» ليس مجرد فساد حدث في روما القديمة ولكنه الفساد والانحلال الذي نراه في عالمنا المعاصر فالروح الإنسانية الشاملة هي التي تمنح العمل الفني الخلود وتدخله في قائمة الكلاسيكيات. إن الشخصية الفنية في الأفلام يجب أن تنطق بما يجب أن تنطقه فالحوار السينمائي يستمد قيمته في التصاقه الشديد بالشخصية التي تنطق كلماته وتعلو قيمته أكثر كلما كان هناك تفاعل بينه وبين الصورة كأن يزيد من معني الصورة وعمقها أو يتناقض معها فيعطي معني مغايرا لما يقوله هو والصورة.. أي تكون العلاقة بين الحوار والصورة علاقة جدلية. «وتتألف الخواص المرئية للفيلم من عوامل متعددة» كما يقول آلان كاسبار في كتابه «التذوق السينمائي» وهو يحدد هذه العوامل عن الوجه التالي «خامة الفيلم والعدسات وزاوية التصوير ووضع الكامير والتأطير «تكوين الكادر» وحركة الكاميرا والجسم المصور والتوليف والمؤثرات البصرية والإخراج وربما نظر المرء إلي هذه العوامل علي أنها تهم صناع الأفلام لا متذوقي الفيلم السينمائي يبدو أن الحقيقة هي أن جميع الخواص المرئية يمكن أن يدركها رواد السينما الذين يبذلون الجهد لرؤيتها وما أن يتم التعرف عليها حتي تصبح مصدر الكثير من المتعة التي تستمد من السينما وفي بعض الأفلام حيث يستدل علي الحدث بعامل أو اثنين مرئيين فحسب، يصبح التعرف علي هذه الخواص المرئية أمرا حاسما في عملية الفهم.. «ارجع إلي كتاب.. التذوق السينمائي.. تأليف آلان كاسبار ترجمة وداد عبدالله». المونتير السينمائي ومن أهم العوامل في الفيلم هو المونتاج فهو القيادة الحقيقية لمجموعة العوامل التي أشار إليها كاسبار أو هو أداة التوصيل النهائية في الفيلم السينمائي.. فالمونتير يقوم بحذف ما يراه لا قيمة له من الحوار وأحداث الصورة ويضبط إيقاع المشهد بحيث يرفع أو بمعني آخر يعلي من قيمة الفيلم ويزيد من تأثيره ويعمل أيضا علي ربط المشهد بما يليه ربطا حتميا حتي لو اضطر إلي تغيير التسلسل الذي قام به كاتب السيناريو أو المخرج فالمونتير هو العين الثالثة أو العين الموضوعية التي لا تهتم بما يفرضه السيناريست أو المخرج وإنما الذي يهمه هو إخراج الفيلم في صورته النهائية ذات القوة المؤثرة. وقد كان الاهتمام بالمونتاج قديما اهتماما كبيرا حيث كان النقاش يدور في غرفة المونتاج أياما متواصلة بين المونتير والمخرج الذي يسمح له بحضور المونتاج حسب ما كان في نظام الإنتاج السينمائي في هوليوود وكان يتولي الإشراف عليه المنتج السينمائي الذي جمع كل هؤلاء الفنانين الذين شاركوا في صناعة الفيلم حسب رؤيته هو والتي يريد أن يحقق من خلالها عناصر السينما الثلاثة وهي الفن والصناعة والتجارة.