في مقال سابق بجريدة القاهرة ودونما أية محاولات عبثية للتنبؤ والتكهن بشأن المشهد السياسي للجنة تأسيس وصياغة دستور مصر القادم، كنت قد أشرت إلي أن اللجنة ستشهد دونما شك أو لغط تعديلاً وتصحيحاً إما في معايير اختيار أعضائها، أو في تغيير الأعضاء أنفسهم، وهذا ليس من باب استباق الأحداث بقدر ما هو استشراف لإجراء سياسي بات مهدداً بالإيقاف والركون فترة طويلة، وهذا ما حدث بالفعل، فاللجنة ألغيت وسيعاد تشكيلها من جديد وفق ضوابط وشرائط ضابطة وحازمة لا لغو فيها. وحينما فاجأنا البرلمان المنتخب المتعدد المسميات والألقاب بين برلمان المرجعية الدينية وبرلمان الثورة وبرلمان المطالب رهن التحقيق، بإقراره تقسيم لجنة تأسيس الدستور بنسبة النصف بالنسبة لأعضاء مجلسي الشعب والشوري والنصف من خارج البرلمان دون وضع شروط وضوابط ينبغي توافرها في أعضاء اللجنة، كنت أستشرف أن مدنية الدولة الضاربة في الأزل ستنتصر في معركتها ضد مطامح فصائل معينة في النسيج المصري، لكن الأمر آنذاك والذي لايزال مستمراً أن مجموعة من الصحف التابعة لهذه الفصائل تؤكد أن إلغاء هذه اللجنة هو عصيان لإرادة الأمة وهم يقصدون بالأمة المصرية الأمة الإسلامية أو الجمهورية الإسلامية التي يصرون علي تشكيلها رغم أم مصر أيضاً كما هي تتمتع بمدنية تاريخية فهي إسلامية التوجه بغير صحافة موجهة. التعبئة العامة وحينما فشلت تلك الصحافة الموجهة من أحزابها وتياراتها الدينية في تحشيد الرأي العام حول شرعية اللجنة الملغاة، قررت أن تلقي بثقلها الصحافي لتعبئة الرأي العام نحو مرشحي الرئاسة، ولكن هذه المرة بوجوه وأقنعة جديدة أهمها قناع الكاهن، وقناع السادن. وكاد المواطن المصري الذي يوفر من راتبه بعض النقود للهرولة وراء الصحف الموجهة أن يتمزق بين رأي الكاهن الذي يصور له المعركة الانتخابية القادمة علي أنها غزوة دينية لإعلاء الإسلام، وبين رأي سادن يسيس له العملية الانتخابية باعتبارها خطوة مهمة للعودة إلي المرجعية الحاكمية. ولكن دولة كبيرة بحجم مصر التي لا يعرف عنها أحد قدرها ومقدارها لاسيما هؤلاء الكهنة وسدنة الصحافة الراهنة، إلا من قرأ وفطن كتابات المفكر الجغرافي الماتع الدكتور جمال حمدان لاسيما في كتابه شخصية مصر، بأن مصر سيدة الحلول الوسطي دون منازع وأنه دولة تشبه صحافتها منذ اختراعها، متعددة المشارب والمذاهب، فهي فرعونية الجد، وعربية الأب، وهي قوة بر بصحرائها الواسعة، وقوة بحر بسواحلها الممتدة، لكن ما تشهده الساحة الصحفية الآن لا يؤكد هذا التوصيف، بين انتزاع مطلق لبعض التيارات الدينية لاقتناص الرأي والحل والعقد دون الاعتراف بأن مصر هي التي دشنت للعالم العربية وكرست لصحافة المتناقضات والأضداد. وكان من الأحري علي وطن مثل مصر له رسالة تاريخية تنويرية ضاربة في القدم قدم التاريخ الإنساني نفسه أن تهتم صحافة الأحزاب الدينية أو السياسية ذات المرجعية الدينية بتنوير الشعب أولاً ثم بتنوير وتنويه البرلمان ديني المرجعية بضرورة السير علي خطي علمية وأسس منهجية قبل الشروع في اختيار أعضاء يقومون بصياغة دستور أمة بأكملها، وليس سوء الظن يدفعنا في هذا المقام بأننا نهاجم فصيلاً سياسياً بعينه، لأننا في البدء كلنا مصريون، وعند المنتهي كلنا في الهم والارتباك السياسي الراهن سواء. وكما قال المفكر الرائع جمال حمدان مصر ليست نصفاً بل هي وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي، ووسط في الموارد والطاقة، وفي السياسة والحرب، كان ينبغي الالتزام بقواعد معينة ونحن بصدد إنشاء دستور للبلاد، وهذا ما ينبغي أن يكون، بغير ممارسات صحفية موجهة من أولئك الكهنة والسدنة التي أشرت إليهم. صكوك الغفران الأخطر في أمر صحافة الكهنة والسدنة أنهم في الوقت الذي لم ينتبهوا فيه إلي تصريح الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانونياً والشرعية بقوة الميدان بأننا سحرة فرعون، راحت تكرس جاهدة لصكوك الغفران من جديد، ولكن هذه المرة ليس بشأن لجنة تأسيس الدستور، بل بخصوص غزوة عزل الفلول أو المحسوبين علي النظام، فكل صحف التيارات الدينية التي بزغت للوجود عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير أخذت تحذر المواطنين بلهجة شديدة بأن منح أصواتهم لرموز النظام السابق لهو خروج علي الطاعة الدينية. وإلي هذا الحد من الخوف أصبحت فصائل صحفية كثيرة في مصر تخشي الفلول، ذلك المصطلح العبقري الذي أنجز عقب نجاح الثورة، والأدهش أن المتهمين بالفلولية اكتسبوا قدراً رائعاً من الشجاعة السياسية في مواجهة حملات معاً ضد الفلول، بل وأصبحوا قادرين علي الدفاع عن أنفسهم بأنهم جزء من نظام الدولة وليسوا رعايا تابعين لنظام سياسي بعينه. فما رأيته وشاهدته عبر أعمدة صحفية طيلة الأسبوعين الماضيين كفيل بأن يصور هذا الفزع المرتقب من عودة بروتوكولات النظام السابق متمثلاً تحديداً في السيد عمر سليمان، أو الفريق أحمد شفيق، أو السيد عمرو موسي، وغيرهم ممن يتربص بالظهور مجدداً علي المشهد السياسي. وتكفي حدة المناقشات والمساجلات التي شاهدها المصريون في الجلسة الاستثنائية لمجلس الشعب التي قادها أصحاب اللحي والجلابيب والتي انتهت بإقرار مشروع قانون يقضي بالعزل السياسي لكل من شغل أو عمل في منصب رئيس الجمهورية أو نائبه أو رئيس للوزراء أو نواب رئيس الوزراء أو الوزراء أو أمين الحزب الوطني المنحل أو شغل منصباً بمكاتبه السياسية أو أمانته للسياسات وذلك لمدة عشر سنوات خلت من الحادي عشر من فبراير لعام الثورة المصرية المجيدة. ولأن بعض الصحف السياسية ذات التوجه الديني فقدت بريقها كما فقدته من قبل أحزابها وتياراتها من قبل هرولت من جديد إلي تحذير المواطنين من خلال أقلام مألوفة ووجوه معروفة من عودة طغاة النظام السابق، وكان من الأفضل أن تتحدث هذه الصحف عن وعود نوابها أثناء الانتخابات التشريعية في تحويل التراب ذهباً وفي جعل سمك البحر يقفز مباشرة إلي أفواه المواطنين، لكن هذا لم يحدث، بل هذا لم ولن يحدث ولقد لعب المرشحون وقتها علي قاعدة أن الشعب يعاني فقدان الذاكرة التدريجي، وفي الوقت نفسه ارتدي المجلس ونوابه ثوب الفارس المغوار وهو يطعن الحكومة ممثلة في وزرائها بشأن قضية التمويل الأجنبي فقط. صداع "القومية" وإذا اجتهدنا في رصد وتحليل موقف صحافة كهنة وسدنة التيارات الدينية في مصر لوقفنا علي بعض المؤشرات والحقائق، فبالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين التي لم تنل حتي لحظتنا الراهنة شرعية الوجود الرسمي من وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية اللهم إذا كانت الدكتورة نجوي خليل التي تصدر قرارات عشوائية غير مدروسة قد منحت صك الغفران أعني وثيقة التواجد الرسمي والشرعي للجماعة دون علمنا أو علم الصحافة القومية الرسمية التي تشكل صداعاً مزمناً في رأس مجلس شوري المسلمين. فهذه الجماعة تخشي أن ينالها سهم الحظر والمنع من جديد علي يد أحد منتقمي الفلول كما يزعمون ويظنون ظن السوء. وبالنسبة للجماعات الإسلامية والتيارات السلفية التي ظلت مختبئة في جحورها خوفاً من بطش اللواء حبيب العادلي وكبار مساعديه فهم أنفسهم بدأوا يتنسمون نسائم الحرية والعدالة أيضاً وشرعوا في البناء والتنمية والإصلاح وفقاً لمرجعياتهم وأيديولوجياتهم الفكرية، وأيضاً بناء معسكراتهم التاريخية ولكن هذه المرة علي مرأي ومسمع من المجتمع. فهؤلاء أيضاً يخشون ويفزعون من عودة النظام البوليسي الذي كان يتتبعهم ليل نهار وكانوا خير زبائن لمعتقلات أمن الدولة سابقاً، هذا في حالة واحدة أن يعتلي سدة الحكم رجل من رجال مبارك ويقوم بتنفيذ وصيته غير المؤكدة بتصفية الشعب الذي ثار عليه، وإن بعض الظن إثم. حتي التيارات الليبرالية التي راهن عليها المجلس العسكري في معركته الخفية ضد الإخوان أو في مناورات استثنائية مثل جنسية والدة المرشح السلفي حازم صلاح الذي تؤكد زوجتي لي أنها كانت تشاهد برامجه مرتدياً الجلباب الأبيض وطاقية الرأس وأقسم لها أنه لم يعرف للجلباب طريقاً، اللهم إذا كان قد أجري مسخاً للهوية علي طريقة جماعة الإخوان المسلمين التي تركت اسمها وشعارها التاريخي الإسلام هو الحل وتدثرت في قناع جديد اسمه الحرية والعدالة وكأنها بذلك تدفع عنها ذنباً أو إثما اقترفته، والله أعلم بمظانهم المخبوءة، شاركت في صياغة قانون العزل. وبلغة فقهية و بحكم تخصصي في التربية الدينية الإسلامية واللغة العربية دراسة وتعلماً وتدريساً جامعياً أيضاً أعرف أن مصطلح العزل هذا مواضعة فقهية مأخوذة من الشرع وهي حالة بين الرجل وزوجه تحدث خشية الإنجاب، وكان يحدث أيضاً هذا العزل بين السيد وإحدي سرائره المتعددات، ولكن هناك فرقاً كبيراً جداً بين المرأة الزوجة الحرة، وبين الجارية أو تلك التي يتسري بها سيدها وولي نعمتها، فالأولي لابد من أخذ إذنها في هذا العزل لأنها تملك قرارها أن تنجب أم لا. أما الثانية فلا يجوز لها ذلك، بل كتب التاريخ الإسلامي تشير إلي أن بعض خلفاء بني العباس وكذلك سلاطين وأمراء الخلافة العثمانية يعزلون خشية أن تلد الأمة سيدها ويكون هذا مؤشراً لشرائط الساعة. مواطنون لا رعايا وفي حالتنا المصرية الراهنة لم يتم ذلك الإذن بالعزل، لأن هؤلاء المتهمين بالفلول علي رأي أستاذنا المفكر خالد محمد خالد مواطنون لا رعايا، وليت هؤلاء الذين هرولوا وراء مطامح ربما تغدو شخصية في انتزاع الموافقة لمشروع كهذا أن يدركوا بأنهم يزيدوا من فرقة هذا الشعب، ومن توسيع الهوة السحيقة بين فصائل سياسية ودينية وأخري انتمت للنظام السياسي السابق وآخرين انضموا للحزب الوطني المنحل الذي ربما سيأتي يوم لا يعلمه إلا الله يعود من جديد في صور شتي مثله مثل الجماعة المحظورة التي بدت للنور وكأنها لم تغادر ضياءه يوماً واحداً. أما أن تخشي بعض التيارات والفصائل السياسية لاسيما الدينية فوز بعض المحسوبين علي النظام السابق، فهذا لا يجعلها أن تنتزع حق عزل بعض السياسيين من مباشرة الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات، وهذا وإن دل فإنه يدل علي رغبتهم وهوسهم المحموم في اقتناص مصر ومؤسساتها وإرغامها بالخضوع تحت كنفها. ولكن الشيء الذي يجعلني دائم الارتياب في صحافة السدنة والكهنة أنها تخلت تدريجياً عن مشروعها التجديدي في الإسلام والذي كان بحق حبراً علي ورق، واجتهدت بكل عزم وثقل في التصدي لأية محاولة تقوض وجودها وحضورها في المشهدين السياسي والاجتماعي، فمثلاً جماعة بحجم جماعة الإخوان المسلمين بدأت تفقد اتزانها التاريخي وقيمتها الثقافية في المجتمع، ذلك حينما بدأت تحارب بقوة وعنف عن طريق مواقعها الإلكترونية وصحافتها كل ما هو ذي صلة برجال الدولة ورموزها وحكوماتها المتعاقبة، بل تلاطم أمواجاً عاتية تريد أن تعزل شدتها لعشر سنوات مقبلة. وهذا ما يجعلنا نفكر مليا في تصريح المرشد حول سحرة فرعون الذين هم علي باطل بالضرورة في نظر الجماعة، فهل بالسحر وحده تسير البلاد؟ بالقطع لا، كما هل بات من ضروريات الخطاب السياسي أن نقتفي أثراً دينياً يعزز مواقفنا السياسية؟ مجرد تساؤلات قد لا تحتاج إلي إجابة، بل إلي يقين إما أن يدعمها أو يدحضها..