عندما ذهب إلي مقابر القطامية لزيارة والده في ذكراه السنوية، سأل التربي أمين.. إيه أخبار الميتين؟؟ هل هم تحت السيطرة، وكل واحد نايم في المقبرة؟ قال زي الفل وكويسين.. بس خرج بعضهم ليشموا الهواء وعادوا بعد المشاركة في الاستفتاء وكانوا زعلانين وخايفين من البني آدمين الوحشين.. وفجأة ومثل أفلام الأكشن الأمريكية رأي المرحوم والده بالجلابية يخرج من القرافة واستقبله بلطافة.. وقال أسعد الله نهارك، هل صحيح سقط نظام مبارك؟ فقال صحيح، فأغمي عليه من شدة التفاريح، وخرج الموتي من القبور.. كأننا في يوم النشور وهم يهللون ويهتفون ويكبرون سقط مبارك.. يا ألف نهار مبارك، ثم سأل ميت فصيح.. هل مبارك في إجازة ليستريح أم تخلي بصحيح؟ قال له: تخلي وتنحي، فرقص الميت فرحاً وجري لينقل هذه الأخبار الطيبات إلي عبدالناصر والسادات، وتمطي بعض الأموات ليعلقوا علي المقابر الزينات، وقام ميت من الحزب الوطني يهدد بالويل والهلاك، وأهدي لمبارك أغنية اخترناك، فهجم الميتون علي هيكله والجمجمة، ولم يتركوه إلا عظاما محطمة، ثم تقدم المتحدث الرسمي باسم مدافن القطامية ونط وقال هيلاهوب وفتح اللاب توب ليعلن هذا الخبر المهم علي موقع القرافة دوت كوم. تأتي هذه الفانتازيا المدهشة كمدخل إلي عالم كاتبها المؤلف والشاعر المثقف ياسر قطامش، الذي جاءت أحدث إصداراته بعنوان «مذكرات ثائر ساخر» ذلك الكتاب المسكون بالوهج والبريق، بالجموح والطموح والتمرد والعصيان، بأنفاس الناس وهمس الليالي، وعذاب النهارات. احتفال أسطوري في هذا السياق تحولت الأفكار والكلمات إلي احتفال أسطوري رقصت فيه الشياطين مع الجنيات والعفاريت، واستحضروا روح المعرفة، ليمزقوا أقنعة الزيف ويكشفوا وجه الحقيقة المراوغة. صدر هذا الكتاب في القاهرة، أخبار اليوم قطاع الثقافة ديسمبر 2011 ويحتوي كما كتب المؤلف علي مجموعتين من المقامات الحلمنتيشي.. الأولي بطعم الثورة والثانية تتنبأ بالثورة، أما المجموعة الثالثة فهي مقالات من أرشيف قطامش الصحفي قبل 25 يناير، وتأتي المجموعة الرابعة بعنوان «من مفكرة دبوس بن مقروص» وهي صورة طبق الأصل لما نشر تحت عنوان شكشكة بجريدة الوفد، قبل الثورة، وينتهي الكتاب بصفحات من مفكرة «موكوس بن ملحوس» وهي أيضاً صورة طبق الأصل لما نشر بأخبار اليوم، قبل وبعد الثورة. تكشف كتابات المؤلف عن كيان ثري يموج بالوعي والثقافة والمعرفة يمتلك حضوراً لافتاً وموهبة خصبة متجددة مستوياته اللغوية عميقة مدهشة، ذات خصوصية متفردة تبدو شرسة لاذعة.. لكنها أخاذة ساحرة بسيطة وساخرة لذلك تأتي الأفكار والرؤي كقرارات بامتلاك الذات والمصير، وتظل الاشتباكات الجريئة الساخنة مع السلطة والسياسة والاستبداد هي تساؤلات وإجابات ورفض إنساني مثير لاستلابات الوعي والروح وأحلام الإنسان. وفي هذا الإطار يأخذنا عالم ياسر قطامش إلي نقطة ذهبية نلمس فيها هارمونية التوازن بين المتناقضات.. تلك الحالة التي تمنحه شرعية الانتماء إلي سحر الفن وهمس الشعر، وجماليات الدراما حيث تأتي مقاماته كمفارقات ثائرة ترتكز علي الفعل الواضح والحوار الساخن والتصاعد المتوتر، ورشاقة مفاهيم الكاريكاتير والجروتسك، التي تتوافق مع وقائع زمننا الشرس، وحقائقه الملوثة. إذا كانت رائحة الوطن وعذابات الناس هي الملامح الأكثر حضوراً في تيار كتابات المؤلف، فمن المؤكد أنه يعشق مصر يذوب حباً في نيلها وشوارعها وحواريها ويندفع بقوة نحو الحياة يبحث فيها عن المعني وعن الوجود والهدف والدلالات، وكما يشير في مقدمة كتابه مذكرات ثائر ساخر، فانه يري نفسه رجلاً ليلياً منفلتاً، تعود علي السهر حتي مطلع الفجر خارج البيت يجيد التأقلم مع أي ظروف، ويحب الاستمتاع بكل دقيقة من عمره، يهوي لقاء أصدقائه الأدباء والشعراء الساكنين في كتب مكتبته العامرة، يدخل معهم إلي عالم مسحور من ألف ليلة وليلة، ليري ويلمس وينطلق علي آفاق الوعي الرحب. شهدت البدايات الأولي ميلاداً صاخباً لتيار من الرومانسية العارمة، تبلور عبر إدراكه لطبيعة كتاباته الثائرة الساخرة التي تحايل لنشرها بالرمز تارة وفي صحف المعارضة تارة أخري، ورغم مرور السنوات الطويلة التي تزيد علي العشرين، فهو لا يزال يري نفسه هاوياً، فقد تخرج في كلية الهندسة وتعامل مع الطوب والزلط نهاراً وتعاطي الحبر والأوراق ليلاً حتي أدمن الصحافة ورائحة ورق الجرائد والكتب والمجلات القديمة التي منحته فيضاً من المعرفة بأسرار اللغة، والمقدرة علي الرؤية الجدلية والتحليلية لأحداث المجتمع وحركة التاريخ.. وإذا كان المؤلف لم يخطط ليكون كاتباً صحفياً ثائراً في يوم من الأيام إلا أنه يؤكد أن مجهوده وموهبته قد فتحتا أمامه المسارات لدخول حلبة الملاكمة الصحفية فأحرز فيها انتصاراً لا بأس به، وتعلم من الأساتذة الكبار كيفية الصياغة الجذابة، واختيار العناوين كما أن موهبته الشعرية وحبه للغة العربية وعشقه للتاريخ وهوايته للسخرية، ودراسته للهندسة قد صنعت كاريزما خاصة لكتاباته. السلطان مبارك يهدي المؤلف كتابه إلي شعب بيته الكريم.. فيقول.. إلي وطني الأصغر إلي زوجتي وأبنائي الأربعة الذين رأيت فيهم نموذجاً مصغراً من مصر الثائرة، فهم أيضاً ثائرون علي باعتباري ديكتاتوراً مثل السلطان مبارك ولولا الملامة لخلعوني وأجبروني علي التنحي والتنازل عن ممتلكاتي لأني أسيء استغلال منصبي وسلطاتي وأعيش مشغولاً دائماً بأوراقي وكتاباتي وأشعاري وطموحاتي. مهما فعلتم من مظاهرات مليونية لخلعي من أريكة الحكم العائلية.. فلن أهرب مثل زين العابدين، ولن أتنحي مثل مبارك عن منزلي، فاحمدوا الله الواحد القهار، لأني لست مثل القذافي وصالح وبشار.. إلا كنت ولعت فيكم بالنار.. يكفيكم عذاب ما أكتبه من مقالات ومقامات.. وأهدي كتابي إليكم لعله يكفر بعض خطيئاتي لديكم. تثير مذكرات الثائر الساخر إيقاعات جدلية واضحة تمتد من الخاص إلي العام، من الواقع إلي السلطة، إلي اهتراءات السياسة وعذابات الإنسان، وتظل روح مصر وملامح شخصيتها ساكنة في قلب الثراء والعمق ودلالة الصياغات حيث تنطلق البراءة الظاهرية المراوغة إلي مستويات أعمق تموج بالبوح والوعي، وشراسة المواجهات.. تلك الحالة التي تتضح عبر هذا المشهد السياسي الساخر. قال لي صديقي حسني: ابنتي الصغيرة ليلي معجبة جدا بما تكتب، لكنها سألتني سؤالاً محرجاً.. قلت، ما هو.. لا داعي للحرج، قال: سألتني هو عمو موكوس شكله عامل كده ليه؟ في الصورة الكاريكاتيرية المنشورة مع مقالته ظهره معووج وكتفه ملووح، وشكله يقطع القلب زي ما يكون مش لاقي ياكل أو مراته خلعته، قلت وبماذا أجبت عليها؟ فقال لم أعرف كيف أجيبها.. فقلت له.. قل لها إن عمو زمان كان أبيض وشعره سايح وعينيه خضراء وصحته زي البمب، طول بعرض لكن اللعنة أصابته وحلت عليه بعدما تعين موظفاً في الحكومة، فأصيب بجفاف في السيولة وتضخم في الشريان المالي وانسداد في أوعية الميزانية، وتدهورت حالته أكثر لما عمل جمعية واشتري كيلو لحمة، وبعدما أكلها اكتشف أنها لحمة حمير وراح يشتري لتر بنزين عشان ينتحر ويولع في نفسه، ولكن لسوء حظه لقي البنزين غلي، ومن ساعتها أصيب باكتئاب. وينتهي المقال المشهدي القصير برؤية جروتسكية كاشفة تتقاطع مع تشوهات الواقع، وميلودراما أحداثه، حيث يعود صديقه حسني في اليوم التالي ومعه عشرة جنيه فكة.. هدية من الصغيرة ليلي التي جمعت التبرعات من زميلاتها لتساعده.. وفي هذا السياق تتضح أبعاد ثقافة المؤلف وتوجهاته الإنسانية وقراءته الفلسفية، وامتلاكه لمفاهيم البناء الدرامي، ومقدرته علي رسم لوحات العذاب الإنساني، بعد أن تحول القهر إلي فانتازيا، والوجود إلي هراء وعبث.. ففي يناير 2010 كتب يقول أصبح رأسي عبئا ثقيلا علي جسمي يجب التخلص منه، فهو مليء بوزن إضافي من الأفكار والهموم والتساؤلات، ولا يتركني أهنأ بالراحة، فكرت أن أخلع رأسي وأتركه في الدولاب، وأذهب للعمل بدونه.. لكن هل سيضحك الناس أم يخافون مني؟ أم سيقبضون علي بتهمة المشي بدون رأس، وترويع الآمنين وازعاج السلطات؟ وإذا لم أخلعه هل سأدفع ضريبة لأني أحمل أشياء ممنوعة؟ أم سأدفع غرامة لأن رأسي آيل للسقوط ويحتاج إلي ترميم وتنكيس؟ لابد أن أرتاح من رأسي قليلا ولو بخلعه قبل النوم لأنعم بأحلام هادئة، لكن ماذا لو ضبط رأسي وهو يسير دون رخصة أو يقف في الممنوع؟ وأمسكوا به ووضعوه علي كرسي الاعتراف، ليقر بأني شاعر، أتعاطي مكيفات المشاعر، وعندي رصيد في بنوك المتنبي وأمرئ القيس، لا يقل عن 500 قصيدة علي مدي ربع قرن. إذا كانت هذه الحالة العبثية المدهشة تنتهي بإدانة قانون الضريبة العقارية، وسياسات يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق، فإن ايقاعات ثورة 25 يناير تتبلور من خلال تقاطعات الماضي والحاضر، التراث والتاريخ، وأوهام الواقع وأحلام المستقبل، ويأتي ذلك عبر الجماليات المتدفقة لحركة الفلاش باك والمونتاج المتوازي حين يقول: اتجهت إلي الأزهر، مررت علي صديقي تقي الدين المقريزي في حارة برجوان، ثم ذهبت للشيخ عبدالرحمن الجبرتي، وجدته في منزله بالصنادقية، يتابع أحداث ثورة 25 يناير، التي ستدور وقائعها بعد وفاته بحوالي 200 سنة - علي اللاب توب، دخلت إلي صحن الأزهر لأصلي العشاء، فإذا بالإمام الشيخ حسن العطار يدعو إلي خلع ولي النعم الذي استكبر وطغي وتجبر، وسلط علي الناس المماليك والمنسر، سألته عن قصيدته.. «بالأزبكية طابت لي مسرات»، قال استغفر الله، لقد تبت عن الأزبكية منذ رحيل الفرنساوية، والآن يا أمير أسهر في ميدان التحرير، ذهبت إلي بيت الست وسيلة، المسمي بيت الشعر، بعطفة عنبة واستقبلني الشاعران عبدالمعطي حجازي، ومحمد إبراهيم أبوسنة، سألتهما: هل سيلقي رفاعة الطهطاوي بعض قصائده؟ فأجابا بالنفي.. ترنحت من النشوة مع أشعار أصدقائي سعد عبدالرحمن، عزت الطيري وماجد يوسف، وجاءت الست مديحة جوهر مديرة البيت.. قالت لي الهانم عاوزاك، ارتعدت خوفاً.. الهانم مين؟ سوزان مبارك؟ قالت لا الهانم وسيلة خاتون.. صاحبة الدار. هكذا عاش المؤلف حلما ناعماً مع الجميلة البيضاء وسيلة هانم خاتون، أفاق منه علي زوجته وهي تفتشه وتسأله.. مين وسيلة دي ياخاين؟ أد كدة ذوقك بلدي ومنحط؟ حوار لم ينشر مع المتنبي تمتد موجات الخيال، ويشعر القارئ بالسعادة عندما يسمع صوت ضحكاته، ويلامس معني الفن وحركة الزمن وحرارة المواجهات، تلك الحالة التي نتفاعل معها في المقامة الشقية المشاغبة.. «حوار لم ينشر مع المتنبي».. فتنتقل إلي مشارف الكوفة، خارج حدود الزمن المألوفة، عندما ذهب ياسر قطامش للقاء جدنا أبي الطيب المتنبي، فجلسا وحدهما في خيمة أنيقة، كان يدندن بأرجوزة وهو يشرب الكازوزة عرفه المؤلف من بريق عينيه، وشموخ حاجبيه ولحيته المخضبة برماد الذكريات، يدنو إلي الخمسين من عمره مشرقا، يرتدي جلبابا فضفاضا أخضر، وعباءة لونها أحمر، وعمامة مزركشة باللآلي مدندشة، وعبر الاشتباكات الساخنة مع السياسة الدولية والعربية التي اتخذت مساراً كوميديا، قال المتنبي بصوت عميق.. ألا تدري لماذا سميت بالمتنبي؟ فأجاب المؤلف، لأنك ادعيت النبوة، أليس كذلك يا شاعر القوة والفتوة؟ فقال.. أكد ذلك بعض المؤرخين، وكذبهم العديد من الباحثين وأضاف صاحب المقامة... ادعي البعض أنك فقط فتنت الناس بشعرك الجميل النمط، وأسلوبك الساحر «اللبط»، فقال لا هذا ولا ذاك، كل ما هناك أنني سميت بالمتنبي لقدرتي علي التنبؤ بالغيب والمستخبي، وبما سوف يحدث في عصركم هذا.. وخذ عندك هذا المثل.. فقال.. هات يا عسل، فاندفع المتنبي، قائلا: ألم أقل عن مصر «وكم ذا بمصر من المضحكات.. لكنه ضحك كالبكا». من المؤكد أن المقامة لاتنتهي عند هذا الحد، لكن أحداثها تمتد، وصراعها يتصاعد وتنوعها اللغوي يكشف عن مزج مدهش بين الشعر الرصين والنثر الرشيق، والصيغ الحلمنتيشي والعامية الراقية، وهكذا يظل الوعي الكاشف وتيار المشاعر المتدفق والحس الدرامي المتميز، هي الملامح الحاضرة بقوة في مؤلفات ياسر قطامش المتنوعة بين دواوين الشعر، والمقامات الثائرة والصور القلمية، والأشعار الساخرة، والتاريخ والقصص، والأعمال الدرامية الإذاعية والتليفزيونية.