كثير من أشكال الأدب العربي ظلمته مؤسسات الثقافة المصرية الرسمية وغير الرسمية بإهمالها له، منها الشعر "الحلمنتيشي" مما أدي لتراجعه في القرن العشرين والحادي والعشرين. الشعر "الحلمنتيشي" هو لون من ألوان الشعر، يعتمد علي السخرية والفكاهة، عن طريق مزج اللغة العربية بالعامية، علي طريقة أغنية عبد الحليم الشهيرة "وحقك أنت المني والطلب... والله يجازي اللي كان السبب"... يهتم الشعر الحلمنتيشي أيضا بفن معارضة القصائد، وهو فن معروف ومعترف به، وفيه يكتب الشاعر قصيدته علي وزن قصيدة أخري شهيرة، إما بهدف معارضتها والرد عليها، أو بهدف السير علي نهجها، مثل قصيدة الشاعر حسين شفيق المصري وهو من الرواد الأوائل للشعر "الحلمنتيشي"، حيث أطلق كلمة "حلمنتيشي" علي ما كان ينظمه من شعر هزلي وفكاهي في فترة العشرينيات من القرن الماضي، ويبدو من الكلمة أنها كلمة منحوتة من كلمتين (حلا) من حلاوة الشيء، و(منتيشي) من (نتش) الشيء إذا جذبه، و"النتاش" في العامية المصرية هو الفشار أو الكذاب، وبهذا تكون الكلمة أما أن تعني "النتش الحلو" أو "الفشر اللذيذ"، بدأ المصري بمعارضة "المعلقات السبع" التي نظمها الشعراء الجاهليون بقصائد أطلق عليها "المشمعلقات"، ثم نظم قصائد أخري يعارض بها القصائد المشهورة في الشعر العربي قديمه وحديثه وسماها "المشهورات"، وبدأ - مشعلقاته- بمعارضة للشاعر الجاهلي -طرفة بن العبد- في معلقته التي مطلعها: لخولة أطلال ببرقد ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد فعارضها المصري بقوله: لزينب دكان بحارة منجد تلوح بها أقفاص عيش مقدد وقوفا بها صبحي علي هزازها يقولون لاتقطع هزازك واقعد ونماذج أخري عديدة لشعراء الحلمنتيشي الذين من أشهرهم من المعاصرين الراحل شوقي ابو ناجي، وعمر عسل، وعبد الحليم مصطفي علام، ومصطفي رجب، وسمير القاضي، وياسر قطامش، وعمرو قطامش. يحاول الشاعر الدكتور حسن طلب تحليل الشعر الحلمنتيشي، لإيضاح أسباب ابتعاد المؤسسات الرسمية عنه قائلا: "هي قضية هامشية لأنه وسط بين الفصحي والعامية كذلك يشبه فن المونولوج أكثر منه شعرا، فالحلمنتيشي ليس أغنية وليس تمثيلا بل أراه يدرج تحت الفنون الشعبية، لأن الشعر يقوم علي فن اللغة، بينما الحلمنتيشي ليست له لغة واضحة المعالم كعامية حداد وبيرم وجاهين مثلا، ولا كشعر الفصحي. كذلك الحلمنتيشي يعتمد علي فن الإلقاء والإضحاك وهي النكتة أو القفشة، فهذه ربما تبعده عن المعايير الحقيقية للشعر الذي يتسم بالرصانة أكثر، بالإضافة إلي أنه لايوجد قامة كبيرة موجودة بيننا الآن ربما آخر شخص نعرفه هو الدكتور مصطفي رجب، فالحلمنتيشي أراه بعيدا عن إدراجه ضمن فنون الشعر العربي". سألت الدكتور خالد أبوالليل أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، عن تعليقه علي أن البعض يري أن الشعر الحلمنتيشي يجب أن يعامل كشعر شعبي، فعقب قائلا: "من وجهة نظري الشعر الحلمنتيشي هو من أشكال الشعر الرسمي وهو امتداد للشعر العربي ولا يمكن اعتباره شعرا شعبيا وإن استمد موضوعاته من موضوعات الشعبي وهي موضوعات العامة والغلابة معتمدا علي لغة بسيطة وقريبة، لكن يجب أن نفرق بين شعرا يحمل خصائص وأشكال الفنون الشعبية وبين شعر يعتمد علي موضوعات العامة أو تخص الشعب والتي لا يمكن اعتبارها شعرا شعبيا، وإلا لكان من الأجدي اعتبار الشعر العامي من الشعر الشعبي أيضا، فالشعر الحلمنتيشي هو من الشعر الرسمي وليس الشعبي لأنه يحمل خصائص الشعر الرسمي"، وأضاف أبوالليل أنه يقدر الشعر الحلمنتيشي لأنه يؤدي رسالة هامة جدا ربما يعجز عن توصيلها الكثيرون، فهذا الشعر لابد من احترامه وإعطائه حقه. الناقد والأكاديمي الدكتور محمد عبدالمطلب له رأي مختلف في الشعر الحلمنتيشي، يقوم عليها رفضه لإدراج الحلمنتيشي ضمن الشعر الرسمي، يقول عبدالمطلب: "حقيقة أنا لا أفهم المقصود من مصطلح "الحلمنتيشي"! فأنا أفهم الشعر الفصيح بكل أنواعه وأجناسه، كذلك الشعر العامي بأنواعه وأجناسه، لكن ما أفهمه أن الحلمنتيشي هو نوع من الهزل والعبث لايؤدي لشيء، فلا أجد سوي شعر ياسر قطامش الذي يقدم فكرة جيدة، يمكن أن تؤثر في القارئ ويحتفظ بها ولا أعرف لماذا أدرجه ضمن الشعر الحلمنتيشي؟! فالحلمنتيشي هو نوع من الهراء لا أكثر وسيفتح الباب للجميع والمسألة أصبحت تسويقا لكتابات لن تدوم وستنتهي وتموت فنحن الآن لا نذكر شيئا عن الشعر الحلمنتيشي فهو شعر وقتي واستهلاكي وقلة من أجادوه". من أشهر شعراء الحلمنتيشي المعاصرين الشاعر ياسر قطامش والذي لايعرف بالتحديد اسباب إهمال المؤسسة الرسمية للحلمنتيشي قائلا : "ربما لأننا دوما ننظر للشعر علي أنه رومانسي أو عاطفي أو وطني إنما الذي يخلط الجد بالهزل لا يقدر جيدا، رغم أن المجتمعات الأوروبية تقدر هذا النوع من الشعر الساخر، بدليل منح جورج برنارد شو وهو كاتب ساخر جائزة نوبل، والذي رفضها حين قدمت له وقال: "إن هذا طوق نجاة يلقي به إلي رجل وصل فعلا إلي بر الأمان، ولم يعد عليه من خطر"، لكن للأسف المجتمعات العربية لا تقدر هذا النوع من الأدب أو الشعر الساخر وتنظر له نظرة قاصرة". تساءلت لماذا أنتم كشعراء حلمنتيشي لم تؤكدوا علي وجودكم وأهمية هذا الشعر؟ أجاب قطامش: "كثيرا ما حاولت وتكلمت كثيرا في البرامج، لكن أعتقد أن الأمور بدأت تتغير ففوز أحمد رجب بالجائزة يعطي تفاؤلا فقد تكون بداية تصحيح الأوضاع وقد نتفاجأ بفوز كتاب ساخرين وشعراء حلمنتيشي". عن رأي الدكتور حسن طلب في أنه يري أن الشعر الحلمنتيشي يجب أن يدرج تحت الشعر الشعبي، علق قطامش قائلا في انزعاج: "مع احترامي لرأيه، لكنه غير مدرك للشعر الحلمنتيشي جيدا، لأن الشعر الساخر لابد أن يكتبه شاعر متمكن جدا من الفصحي وكذلك العامية ليستطيع المزج بينهما بحرفية، ولايستطيع كتابته أي شاعر عادي، فبيرم التونسي له شعر حلمنتيشي، ومنذ العصر العباسي والشعر الساخر موجود، أيضا الشاعر حسين شفيق المصري هو أول من أبدع هذا اللون من خلط الفصحي بالعامية، فهو نوع عريق وراق لكن نظرتنا له تحتاج أن تتغير". من أشعار قطامش التي كتبها منتقدا الإجراءات الحكومية الخاصة ب: تعويم الجنيه المصري، قصيدة "حكاية المرحوم جنيه"، يقول في جانب منها. لقد غرق الجنيه فادركوه وهيا الآن يا قوم الحقوه فهب الناس وانتفضوا جميعا بأطواق النجاة لينقذوه وقالوا: ما الحكاية؟ قلت: هذا جنيهكو المخستك.. اسعفوه مع الدولار واليورو والين مضي لسباحة.. فاستكروده من الشعراء المعاصرين أيضا الدكتور مصطفي رجب، الذي أرجع الأسباب إلي الفساد، قائلا: "السبب أن المؤسسات الرسمية الذين يتولونها يصلون لمناصبهم بقواعد غير معروفة، فمن هو مرشح أحمد عبدالمعطي حجازي لرئاسة لجنة الشعر بالأعلي للثقافة، إنه ظل سنوات طويلة ينافق النظام السابق بعدة آليات مرة بالضرب في الإسلاميين ومرة بالضرب في النظام الناصري، رغم أنه كان أحد أعمدة نفاقه في ديوانه الأول والثاني في بداية الستينيات وأواخر الخمسينيات وكان يتغزل في الاتحاد الاشتراكي العربي! فحين قدم ذلك لمبارك أعطي اللجنة ومجلة "إبداع" وبذلك اختير له في عضوية اللجنة من يتوافقون مع أفكاره باستثناء أفراد محترمين معروفين، فكيف يرجي من لجنة علي رأسها مثل حجازي ان تكون من الحكمة بحيث تميز فنون الإبداع المختلفة بعضها من بعض فلقد ظلت هذه اللجنة تعارض الاعتراف بالعامي لأكثر من 40 عاما إلي أن جاء الوقت الذي علا فيه صوت الأبنودي ورضا فيه النظام الرسمي به وهنا منح الأبنودي جائزة التقديرية ثم مبارك وبقي شعراء العامية الآخرون مثل نجم وسيد حجاب خارج نطاق التكريم الرسمي الحيادي. الحلمنتيشي إشكاليته أن رواده الحقيقيين قد ماتوا، والمبدعون الآن الحقيقيون خارج القاهرة، فهناك من المعاصرين شوقي ابوناجي ومحجوب موسي باسكندرية وانا بسوهاج وميكي ماوس، اما في القاهرة فلايوجد سوي قطامش وهو شاعر مجدد بالحلمنتيشي وله حضور اعلامي، معني هذا ان هذا الشعر الحلمنتيشي ليس له من يدافع عنه وليس في رواده من لديه الاستعداد ان ترضي عنه السلطة حتي يحصل علي جائزة حجازية". في تعقيب علي رؤية قطامش لفوز الكاتب الساخر أحمد رجب علي جائزة النيل لهذا العام، في أنه قد يكون مؤشرا إيجابيا للاهتمام بالكتابة الساخرة، يعلق رجب قائلا : "ما لم يتغير تشكيل المجلس الأعلي للثقافة وقانون منح الجوائز فستظل جوائز الدولة بلا اي قيمة ولا اي دلالة، فأساليب الوصول إليها معروفة جدا، فأظن أن منح رجب جاء في غفلة من الزمن لأنها في توقيت الثورة ولكنها في الآداب وهي إهانة للأكاديميين الذين أفنوا حياتهم في الأدب لكن الجائزة تركتهم إلي صحفي رغم احترامي لرجب واهتمامي بكتاباته فهو مبدع وليس مجتهدا أكاديميا". أما تعليقه علي كلمة طلب في إدراج الحلمنتيشي ضمن الفنون الشعبية، يقول: أنا مع الدكتور طلب في أنني آخر من يكتبوا "الحلمنتيشي" كما كتبه الرواد، لكنه شعرا ملتزما بالقافية والوزن تماما ولا يختلف عن التقليدي إلا في وجود بعض الكلمات العامية، وهذا لون من التجديد في شكل القصيدة، كان معروفا في جميع العصور العربية، فالفنون الشعبية هي ما يتردد علي ألسنة عوام الشعب، ولا يعرف له قائل مثل "حسن ونعيمة"، و"السيرة الهلالية"، لكن طالحلمنتيشي معروف مؤلفه. يقول رجب في قصيدته " قصة الكمساري عبد الجبار مع غريمه الحاج نصار": روحوا لفيفي التي قد شعللت ناري فبشروها بأني صرت كمساري قولوا لها : إنني ما زلت أعشقها برغم ما كان من عمي وأصهاري إذ أخبروها بأني راجل بجم وليس لي شغلة كالحاج نصار له ببولاق دكان ومحمصة مؤجران ، وفيللا ذات أسوار لقد قضي عمره في الأصل صرمحة مثلي ، وبرطع من دار إلي دار.