قد يختلف البعض حول انتماء موجة كاسحة من أفلامنا الجديدة إلي ما اصطلح عليه بالسينما المستقلة. قد يرويها بعيدة عن المعايير التقليدية للمسمي الذي إرتبط أساسا بالاستقلال عن استوديوهات هوليوود الكبري التي تخرج من رحمها جميع الأفلام المنتجة علي الطريقة الأمريكية التقليدية. لكن ورغما عن الجدل فإنه بالتأكيد هناك أوجه شبه كثيرة بين تيار جارف من السينمائيين تبعنا وبين أقرانهم ممن يسمون بالمستقلين في مختلف أنحاء العالم. مع نهاية القرن الماضي بدأت تظهر لدينا علي استحياء أفلام مصورة بكاميرا الفيديو لها طابع فني وتتيح لها طبيعة التقنية وقلة التكلفة حرية أكبر في التجريب والتجديد. وظل هذا التيار ينمو يوما بعد يوم وعاما بعد عام وتكاثفت الأفلام وتميز البعض وانتشرت في مواقع العروض الثقافية وتم تناقلها عبر وسائط تكنولوجيا واتصال أحدث. وتطورت أساليب وقدرات صناعها كما تطورت إمكانيات الكاميرات والمونتاج تقنيا وتوالي إدخال البرامج التحديثية عليها. وحاز العديد من أفلامها علي جوائز كثيرة في مهرجانات محلية وإقليمية ودولية مهمة. ومؤخرا بدأت بعض هذه الأفلام تغزو دور العرض المصرية حتي ولو بنجاح محدود. وتنوعت مصادر التمويل ولكنها لم تأت غالبا من خلال شركات الإنتاج المصرية الكبري والتي تمتلك دور العرض ولديها أقسام للتوزيع والتسويق ويحتكر كل منها عدد من النجوم. وهؤلاء النجوم التي تنتج أفلامنا المستقلة بعيدة عنهم غالبا, هم في الحقيقة آفة آفات السينما المصرية. وأحد الأسباب الرئيسية لتدني مستوي غالبية أفلامنا التي يلهث صناعها لإرضاء سيادتهم وتحقيق طموحاتهم ونزواتهم ورغباتهم الشخصية في أفلام تنتسب إليهم في الواقع أكثر من انتسابها لمخرج أو رؤية. وهؤلاء النجوم يبتلعون ما يعادل ثلث أو نصف ميزانية الفيلم فتتقلص كل إمكانيات الإنفاق الواجبة علي باقي العناصر لتحسين المنتج وخروجه في أفضل صورة ، فضلا علي إنهم يتعاملون مع السينما علي اعتبار أن واجبها الأساسي هو تدعيم نجوميتهم وشعبيتهم، وتثبيت صورتهم المزيفة علي الشاشة التي احتلوها كأي طغاة يستأثرون بكل شيء ولا يتركون للآخرين سوي الفتات ماديا وأدبيا. حاوي بطوط يأتي المخرج إبراهيم البطوط كأكثر فناني هذا الاتجاه التزاما، بل وتطرفا في تجنبه التام للتعاون مع النجوم بمختلف مستوياتهم. وهو في سبيله إلي صنع سينما تخصه وتعبر عن رؤياه وتتيح له التخلص من قوالب أفلامنا التقليدية، يعتمد في الغالب علي وجوه جديدة مع قلة من المحترفين، البعيدين تماما عن فكرة النجم وأيقونيته ومنهم حنان يوسف. وهو قد يعتمد أيضا علي شخصيات حقيقية لتقوم بأدوار شبيهة بما تلعبه في الحياة. وقد ينتج عن هذه المسألة اكتشافات بارعة مثل اختياره للراقصة السكندرية المغمورة في دور حنان في فيلمه الأخير حاوي. ولكن الاعتماد علي البعض من غير الموهوبين يكون سببا في فتور الأداء وضياع الأثر. كما أن التفاوت في مستويات الأداء التمثيلي يسبب حالة من الارتباك في مستوي بعض المشاهد. والحقيقة أن التمثيل مثل الرقص كما تصفه حنان في حوارها بالفيلم لا يمكن أن يعلمه أحد لأحد ، فالموهبة والاستعداد هما الأساس. ولا علاقة بين طبيعة الوجوه ومميزاتها وبين القدرة علي التمثيل. وربما يكون التفاوت في مستوي أداء الممثلين هو أبرز عيوب فيلم «حاوي». ولكن هذا العيب لا يبدد جهد المخرج الفنان الموهوب الدءوب ولا يخفي نزعته التجريبية الجادة وارتباطها بفكر تقدمي يناسبها. وربما لهذا يستحق البطوط وعن جدارة جائزة سامي السلاموني للابتكار والتجديد كأحد أهم جوائز مهرجان جمعية الفيلم الذي كنت أحد أعضاء لجنة تحكيمه. وقد لفت انتباه اللجنة قدرة البطوط علي التعبير الحر سينمائيا ليرسم بالضوء والإيقاع والدراما رؤياه الصعبة عن بشر كالحواة أحيتهم الحيل والألاعيب من أجل البقاء علي قيد الحياة وعن مجتمع في حالة تجذر وتفسخ. لذا تتماس شخصيات الفيلم وتتجاور خطوطه، دون أن تتلاقي إلا نادرا.. يعجز الأب العائد عن مصارحة ابنته بأنه والدها. ويتجنب الشقيق شقيقته الراقصة ويكاد يتبرأ منها، لكنه لا يستغني عن نقودها لقسوة الظروف.. أما الأصدقاء الثلاثة فلا يلتقون إلا للحظات قرب النهاية. وتأتي الأضواء متسربة وكابية والأجواء ضبابية، كواقعنا الذي تعيشه. وتتجمع السحب وتتكاثف حتي نصل إلي مشهد النهاية الأقرب إلي تابلوه درامي علي الكورنيش حيث تتجمع كل الشخصيات خلف العربة الكارو التي تعتليها فرقة «مسار إجباري» الموسيقية لتصوير أغنيتها. هاهي السحب تتلاقي وتنذر بالمطر. وها هي الشخصيات المنسحقة المختنقة تتجمع. أليس هذا نذير بثورة في فيلم تم تصويره قبلها؟ جمال أسماء بطموح أقل في التجديد والتجريب يحصد عمرو سلامة عددا من أهم الجوائز، منها السيناريو. ولكن الأهم في رأيي هي جائزة جمهور جمعية الفيلم والتي تجاوزت في تقديرها للفيلم تقدير لجنة التحكيم. ولتؤكد أيضا أن هذا النوع من السينما في طريقه للتواصل بقوة مع الجمهور. كجدارية ضخمة ثرية بالتفاصيل ينسج المخرج المؤلف عمرو سلامة فيلمه من شظايا لقطات تنطلق فور تلقي أسماء مريضة الإيدز للسؤال: "عرفي نفسك". تنساب بعدها الأحداث بإيقاع سينمائي بارع وبقطعات محسوبة للمونتيرعمرو صلاح حيث ننتقل من جلسات العلاج الجماعي بين زملاء المرض إلي حوار بطلتنا مع المذيع الشهير محسن السيسي- ماجد الكدواني- .. إلي مشاهد من حياتها في بيتها الريفي ثم شقتها في الحارة الشعبية بالمدينة.. الي عملها في نظافة المطار حتي يكتشف زملاءها سرها. كما ننتقل في الزمن من ذكريات صباها إلي حكاية زواجها.. إلي أزمة زوجها الراحل مع المرض، منطلقين الي الحاضر عن زميلها في العلاج الجماعي الذي يسعي للزواج منها.. إلي حكاية ابنتها التي تكاد تتطابق قصة خطوبتها مع قصة أمها. عبر هذه الانتقالات في الزمان والمكان لا تتكسر الحكاية بقدر ما تتصل وتتكامل. ولا تأتي الانتقالات لتقطع السرد ولا لتوصله وإنما لتشكل الحدوته وتشيد معمارها بالتناقض والتوافق بين الحالات والأزمنة. أثناء مناقشة لجنة التحكيم لسيناريو الفيلم تحفظ البعض علي جوانب من منطقية الحدث أو رسم الشخصيات وخاصة شخصية البطلة التي رأوها مفرطة في المثالية. ولكن الحقيقة أن هذه المثالية نابعة من طبيعة خاصة ومبررة بمنطقها الذاتي، رسمها السيناريو بلمحات وومضات كاشفة عن طبيعتها العفوية والبريئة وتربيتها الحرة من أب طيب حنون ..وظروف حياتية جميلة جعلتها ترتبط بمن تحبه وتعشقه بجنون. وتقبل منه أي شيء إلا أن يمنعها عن العمل الذي تشعر بأنه جزء من ذاتها وكيانها. إن تصوير السيناريو لأسماء يعكس فهما حقيقيا للشخصية وللواقع وللمجتمع الذي لم ينغلق كلية، فمازال به نماذج مضيئة وتقدمية بالفطرة كشخصيات علي قدر كبير من الجمال والقوة.. قد تواجه بصلف ورجعية وتيار متخلف عات. ولكنها قادرة علي مقاومته حتي آخر نفس كما رأينا ومازلنا نري في ساحات التحرير والقضاء. ميكروفون الفرح بالنسبة لجائزة أحسن فيلم كان هناك اتجاه من البعض لحجبها. كانت الأفلام التقليدية في نظرنا معظمها دون المستوي. وكان البعض يري أن الافلام الجيدة كلها تدخل في نطاق التجريب ولا تحقق التكامل أو الاكتمال في العناصر.. وكنت رافضا لاتجاه الحجب علي طول الخط. فمن يري أن السينما تعود إلي الخلف ويرغب في إنذارها لا يدرك هذه الجهود الكبيرة التي يقوم بها صناع الأفلام المستقلة لتحقيق رؤاهم وفكرهم الجريء ولغتهم السينمائية المتطورة في مواجهة قوي السوق المتخلف المسيطرة والمستشرية. كان من المستحيل أن تحجب أي جائزة أساسية في مسابقة هذا العام التي تعد في رأيي الشخصي كعرس سينمائي حقيقي لجيل يكشف عن مواهبه وقدراته ويستحق منا التكريم والتقدير والتشجيع. وبعد نقاش طويل جاءت أغلبية الأصوات مؤيدة لحصول فيلم «ميكروفون» علي جائزة أحسن فيلم. وكانت المفاجأة أن زعيم التيار الداعي لحجب الجائزة نفسه أعطي صوته مؤيدا معنا للفيلم ومتراجعا عن فكرة الحجب التي كان هو صاحب الدعوة إليها. وهذا أجمل شيء يمكن أن يحدث في لجان التحكيم الحضارية وهو أن يكون النقاش والحوار سبيلا لإضاءة المناطق المعتمة في الأفلام والكشف عن تعانق الافكار مع الأساليب والبحث عن مواطن الجمال وإدراكها والتحقق منها. وهو ما يؤدي إلي إعادة الحسابات والتراجع من قبل أصحاب العقول المتفتحة والنفوس الكبيرة القادرة علي تقبل الرأي الآخر. ثورة حتي النصر استطعنا خلال النقاش ان نكشف عن أن الحالة التعبيرية لفيلم «ميكروفون» تسعي للكشف عن جيل بأكمله من شباب المثقفين ومحبي الفن في حالة من العزلة والاختناق . إنهم يسعون إلي أي وسيلة للتعبير عن أنفسهم حتي ولو بأغاني الهيب هوب بأسلوبها المستورد. ولكن بقدرتها علي التعبير بسهولة عما يجيش في النفس من هموم، وكأنها الترجمة الغربية لعديد النسوة في الأحزان أو غضب الرجال في المعارك. تتواصل محاور الفيلم مع السعي إلي الإعلان عن هذه الفرق بأسلوب الرسم علي الحوائط عبر المزج بين فن الجرافيتي والبوب والهيب هوب. من خلالهما أيضا تتكامل فكرة كسر القواعد التقليدية في الفن فإذا كان فن الهيب هوب يتمرد علي فكرة التطريب والقواعد الموسيقية والمعمار اللحني من أجل إتاحة الميكروفون لكل الناس ليخرجوا ما في قلوبهم ببساطة، فإن هذه الفنون هي أيضا ثورة علي الموروث التشكيلي، لإتاحة مزيد من الحرية والإنطلاق في التعبير . وعلي الرغم من الأسلوب السينمائي البسيط والمتحرر أيضا من أي قيود شكلية إلا أن المادة الثرية والشخصيات المتعددة والأسلوبية المتوحدة تتيح للفيلم أن تتصاعد محاورة وتتكامل وحداته. وبتمكن هائل من المخرج أحمد عبدالله يوازن بين العلاقات ويتابع الخطوط. وتبدو الحكايات كلها كإصداء وترديدات واستكمال لبعضها. فمن حكايات الفرق الموسيقية ومشكلاتها وأزمات أفرادها نتابع صورا متنوعة لجيل وشريحة تنعدم لغة التواصل بينهم وبين مجتمعهم بل وأسرهم وتنكمش حياتهم ويضيق عالمهم. ولكنهم يستطيعون بروحهم الشابة أن يكسروا الحصار. في مشهد بارع يقفز أحدهم من شرفة بيته المحتجز فيه لنجد أصدقائه يتلقفونه علي ملاءة كبيرة. وفي النهاية ورغم تكاتف قوي الامن والرجعية علي منعهم من الغناء يتمكنون أيضا من إطلاق أصواتهم. فيلم ميكروفون كان تأكيدا ثوريا قبل قيام الثورة علي أن اصوات الشباب سوف تنطلق وتصدح، مهما كانت محاولات كبتهم أو إخراسهم أو حرمانهم من أي ميكروفون.