جاء خميس جندي المراسلة يجري مهللا يعلن عن عودة جناب البكباشي. مع الفرحة ارتبكت عليه توفيق. كيف ستشرح لزوجها وجود رجل غريب في البيت؟ وليته أي رجل، بل سياسي خارج علي القانون، تعلن حكومة جلالة الملك عن عقاب صارم لمن يتستر عليه! التفتت إلي كمال عبدالحليم فحيرتها الدهشة. لم تجد علي وجهه مظاهر خوف أو وجل، بل بدا متهللا بسماع خبر قدوم يوسف صديق. عبر رأسها وهي تتعجب خاطر سريع: كيف ويوسف بكباشي في جيش جلالة فاروق الأول، يمكن أن يقوم بتسليمه للبوليس السياسي؟ إلي حرب فلسطين كان يوسف زوج علية قد ذهب مع كتيبة البنادق السابعة مشاة إلي حرب فلسطين، وتركها في مسكنهم بثكنات (قشلاقات) ضباط الجيش في العباسية، مع ابنهما الصغير حسين. وبات شقيقها محمود توفيق الطالب بكلية الحقوق يقيم معها بصورة شبه دائمة. كان يوسف قد عود علية علي قراءة ما يقرأه، حتي أنه دفع إليها يوما ببعض كتب التكتيك العسكري والاستراتيجية وحرب العصابات! وكان يشرح لها باهتمام شديد ما يغمض عليها، وهكذا ارتبطت عليه بالقراءة. لم تشدها كتب القانون الجافة التي يدرسها شقيقها محمود في كلية الحقوق، لكنه كان يقتني دوما كتب شعر وأدب وسياسة جديدة، فراحت تشغل وقت فراغها بقراءة ما راقها من هذه الكتب، واجتذبتها رويدا مع القراءة لعبة السياسة، التي كان أخوها يهتم بها، مستعيدة زهو أيام مشاركتها وهي طفلة في مظاهرات مدرستها الابتدائية، حين أصدرت سلطات الاحتلال الإنجليزي قرارا بإيقاف الدراسة في مدارس البنات تمهيدا لإغلاقها، مدعية أن ذلك مراعاة لأصول الشريعة الإسلامية! وفي هذه المظاهرات راحت تردد القصيدة التي كتبها والدها في المناسبة. قطعوا هذه السلاسل عني/ إنني لا أطيق ثقل الحديد تلك الليلة تأخر شقيقها محمود كثيرا عن موعد عودته المعتاد فلفها القلق، ولما حضر كان مرتبكا، وعرفت منه أن أحد زملاء الكلية سيقضي معه الليلة، وربما استمر في البيت بضعة أيام حتي يسافر إلي بلدته. انقضت أيام أكثر مما توقعت عليه دون أن يسافر الضيف، ولفت نظرها خروج محمود مع ضيفه من المنزل، علي غير العادة، في الصباح الباكر وعدم عودتهما إلا في ساعة متأخرة من الليل. ولم تكن علية قد عرفت من هو ضيف شقيقها أو رأته وجها لوجه، حين قرأت في إحدي الصحف أنه مطلوب القبض علي محمد كمال عبدالحليم. كثيرا ما حدثها محمود عن صديق عزيز، ارتبط به منذ كانا زميلان في مدرسة حلوان الثانوية، له نفس الاسم. وفي أحاديثهما عن الشعر، الذي يتعاطاه محمود، حكي لها كيف وقف صدقي باشا رئيس وزراء المملكة المصرية عام 1946 يلقي أشعار كمال في أكبر قاعات مجلس الشيوخ: "يا أخي تنعم الكلاب لدي القوم/ ونشقي فيالها مضحكات أطلق الثورة التي تسكن الصدر/ وجفف دموعك الماضيات لن ينال الحقوق إلا أباة/ يتحدون معجزات الطغاة هي حرب الحياة إما حياة/ أو ممات يكن معني الحياة" وحكي لها كيف ارتعش صدقي وهو يقرأ الأشعار التي تحرك الشارع، وكيف ارتعش الشيوخ وتصايحوا: كيف يقال هذا الكلام؟ لماذا لم يسجن قائلها؟ ويومها كان كمال ابن العشرين عاما في السجن فعلا! وكانت هذه الأشعار أحد المبررات التي استخدمها صدقي باشا، عندما أقدم علي الحملة التي قام بها في 11 يوليو 1946 ضد القوي الوطنية، وسماها حملة مكافحة الشيوعية، واعتقل صدقي فيها كثير من المثقفين الوطنيين مثل سعد مكاوي وسلامة موسي وعبدالرحمن الشرقاوي وعصام الدين حفني ناصف وشهدي عطية وعبدالعظيم أنيس وأنور عبدالملك وعبدالمعبود الجبيلي ونعمان عاشور وعشرات غيرهم. ويومها كتب كمال قصيدته: "نحن في السجن وتحت الشمس أنصار الظلام هم أرادوا أن يظل الشعب عبداً يستضام وأردنا أن يعيش الشعب حراً لا يضام ولهذا فلنا السجن جزاء وانتقام ولهم تنصب رايات وأعراس تقام". الضيف هو كمال أطلعت علية شقيقها محمود علي طلب القبض المنشور في الجريدة، فصارحها بأن ضيفه هو محمد كمال عبدالحليم نفسه، وأنه هارب مجددا من البوليس السياسي. تناقشا في الأمر. كانت عليه مهيأة للموافقة علي اختفاء كمال عبدالحليم في بيتهم، فجدها ووالدها وزوجها لم يكونوا مجرد ضباط في الجيش المصري، بل كانوا يحملون بذور الثورة علي الأوضاع الفاسدة والإنجليز، كما أنهم جميعا قرضوا الشعر واستخدموه كأداة للثورة مثل أخيها ومثل كمال. انتهت عليه مع شقيقها محمود إلي أن بيتهم أفضل مكان يختبئ فيه كمال، فلن يرد علي ذهن رجال البوليس أنه يختفي في ثكنات ضباط جيش جلالة الملك. وظل كمال رغم الاختفاء في قشلاقات الجيش بالعباسية غارقا في نشاطه السري، فقد كان المسئول السياسي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في منطقة الإسكندرية. ولما كانت عليه تسأله لماذا يهمل كتابة الشعر، أو تحدثه عن المآخذ التي تثار بصدد شعره: لماذا يكاد يكون مقتصرا علي موضوع واحد؟ لماذا لا يحتفي بالخيال؟ و... كان يقرأ لها أبياتا من قصيدة قديمة له: "أنت تخلو إلي النجوم إلي الزهر إلي الطير حينما يتغني ربة الخمر باركتك فغنيت هراء ورحت تسأل دنا في سماء الخيال ضم جناحيك- تقع بيننا- فتصبح منا دع جمال الخيال وادخل كهوفا للملايين وأرو للكون عنا إنما الفن دمعة ولهيب- ليس هذا الخيال والتيه فنا". ورويدا صارت علية تشارك كمال ومحمود في نشاطهما السياسي. كان كمال يكتب المنشور السري بخط يده، وتقوم عليه بتخبئته في أسفل سلة الخضر، وترسله مع خميس جندي المراسلة إلي إبراهيم شقيق كمال، ليرسله بدوره إلي من يتولي إتمام طباعته. سلسلة الاتصالات الطويلة، في ظروف الأمان المعقدة، كانت تؤدي إلي ظهور المنشور بعد فوات وقت الحدث الذي كتب من أجله! ولما محصوا الأمر رأي كمال أنه لا مفر من أن يقوموا بطبع المنشورات فور كتابتها بأنفسهم، مباشرة في البيت، بطريقة البالوظة. كانوا يجهزون المواد اللازمة، ثم يرسلون خميس جندي المراسلة لشراء الثلج اللازم للبالوظة، وينخرطون في طباعة المنشورات الخاصة بالحدث وهو طازج... مرت الأيام وإذا بعلية تري صورة كمال منشورة في الصحف مع إعلان من وزارة الداخلية بمكافأة كبيرة (خمسون جنيها) لمن يرشد عنه. قدمت الصحيفة لكمال مازحة: "يبدو أن عهد الفول والطعمية قد انقضي، وأنني سأقبض بيدي خمسين جنيها مرة واحدة". رونيو بدلا من البالوظة اتسع النشاط ففكر كمال في استخدام مطبعة "رونيو"، بدلا من البالوظة. وفي اليوم الموعود للحصول علي المطبعة كان عليهم نقلها إلي المنزل. خرج كمال في الصباح الباكر ليحضر الرونيو، وكان الاتفاق أن ينتظر بها مموهة في إحدي قهاوي العباسية، لتأخذها عليه منه، وتعود بها إلي البيت. في ذلك الوقت كانت سونيا ابنة شقيقة عليه في زيارتها، فانتهزت الفرصة وأفهمت الشغالة أن سونيا خطبت، وأن عليهم إحضار مستلزمات حفل الخطوبة. واصطحبتها هي وخميس جندي المراسلة في تاكسي إلي مكان قريب من القهوة التي يجلس عليها كمال. وذهبت الشغالة مع خميس وأخذا الرونيو المموه من كمال، ليعود الثلاثة أدراجهم بالتاكسي إلي القشلاق، بينما الشغالة تزغرد طوال الطريق، فرحة بإحضار لوازم خطوبة سونيا! وعلية غارقة في ارتباكها، تتقاذفها ذكريات المأزق الذي داهمها مع وصول يوسف صديق علي غير توقع من فلسطين، فوجئت بكمال وزوجها يتحاضنان ساعة دخوله، وظهر أن كل منهما يعرف الآخر. إذ سرعان ما انتقل حديثهما إلي السياسة، فقد كان يوسف عائدا بعد الهزيمة في الحرب وهو أكثر سخطا، يدعو إلي عدم ترك الإنجليز يشعرون بالأمان في منطقة القناة، ووجوب شن حرب عصابات عليهم هناك. امتدت نقاشات السياسة و الشعر بين يوسف العائد من محنة الهزيمة: "إن اختلاف الرأي فيما بيننا/ قد ضيع الحق المبين فضاعا من لي بمن يرضي النفوس جميعها/ ويصحح الأحداث والأوضاعا" وكمال الهارب من الحكومة الداعي إلي الثورة: "أرانا نجمع الأشواك- ما للشوك ريحان دمانا فوق هذي الكف برهان ونيران وهذا الظلم لا يرضاه إنجيل وقرآن أخي ما الصبر إن الصبر كفران وخذلان ولكن يكسح الأوشاب والأدران طوفان". ومع العمل وامتداد نقاشات الشعر والسياسة ترسخت قناعة لدي كمال ويوسف بضرورة تغيير الأوضاع، فالبناء المتهدم لا يجدي معه الترميم. كما ترسخت قناعة بأن الخلاص لن يكون إلا عن طريق الجيش، فالأحزاب الموجودة غير قادرة علي تغيير الأوضاع علي نحو إيجابي... . وفي أوائل إبريل 1948 وزع عبدالعظيم أنيس في الإسكندرية منشورات ثورية عنونت للمرة الأولي: "تسقط الملكية وتحيا الجمهورية"، ولما سألوا د.عبدالعظيم أنيس كيف يأخذ علي عاتقه هذا الأمر الخطير أبلغهم: "إن كمال عبدالحليم، المسئول السياسي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في منطقة الإسكندرية، هو الذي كتب المنشور". ظل كمال يواصل نشاطه وهو يقيم ببيت يوسف صديق في ثكنات جيش جلالة الملك. وفي أحد الأيام طرق جندي لا يعرفونه باب الفيللا، وسلمهم رسالة قبل أن ينصرف علي عجل، اتضح أنها من مجهول تقول ليوسف: "تخلص من صديقيك الجديدين. مرتضي المراغي وصلته معلومات". كان المراغي وزيرا للداخلية تلك الأيام، وكان يوسف قد حدث ضابطين عن الأوضاع المتردية في البلاد، سعيا إلي تجنيدهما ضد السراي، وكان يوسف علي موعد وشيك معهما. لما قرأ كمال الرسالة المجهلة قام بحرق كل الأوراق التي يمكن أن تدل علي ممارسة أي نشاط، ودفن الرونيو في أرض فضاء تمتد أمام الفيللا، وغادر المكان فورا. وبالطبع خلف يوسف موعده مع الضابطين. بعض يوم وصدر قرار بنقل يوسف صديق إلي السودان. ثار وغضب وفكر في عدم تنفيذ أمر النقل، فتلقي نصيحة- صريحة وليست مجهلة هذه المرة- من تنظيم الضباط الأحرار بتنفيذ القرار.. كان هذا التنظيم نافذا بحكم اتساع عضويته علي كثير من مؤسسات المجتمع المصري، ومنها مكتب وزير الداخلية. دارت الأيام وشاءت الأقدار أن يكون يوسف صديق مع جنوده هم الطليعة التي قبضت علي قادة الجيش جلالة الملك فاروق أثناء إعدادهم خطة مواجهة حركة الضباط الأحرار ليلة قيام ثورة يوليو..