أثناء ولاية ثروت عكاشة لوزارة الثقافة نشر صلاح جاهين رسما كاريكاتيريا علي صفحات جريدة الأهرام لثروت عكاشة وهو يجلس إلي مكتبه في وزارة الثقافة مبتسما وراضيا، بينما يقف أمامه أحد موظفي الوزارة قائلا: أما عملنا عمايل يا سيادة الوزير في مولد السيدة زينب.. أوركسترا القاهرة السيمفوني راح هناك وعزف السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. وفي الواقع فإن هذا الرسم الكاريكاتيري ورغم طرافته إلا أنه يعبر عن ملامح حقيقية في شخصية ثروت عكاشة الذي يعد المؤسس الفعلي لوزارة الثقافة التي تولي مقاليدها لمرتين، الأولي منذ عام 1958 وحتي عام 1963، والثانية منذ عام 1967 وحتي عام 1970، فلقد حاول ثروت عكاشة جاهدا أن يجعل الثقافة ممارسة يومية في حياة الشعب المصري مواجها الأصوات التي ارتفعت في مواجهته والتي تعتبر أن الثقافة والفنون الرفيعة أعمالا نخبوية لا تصل إلي الجماهير الشعبية، وأن تقديم الفنون الرفيعة نوع من الترف الزائد في بلد تصل نسبة الأمية فيه إلي أكثر من سبعين بالمائة، وأننا يجب أن نركز علي تعليم أبناء الشعب القراءة والكتابة أولا قبل أن نعمل علي ممارسة وتطوير هذه الفنون الرفيعة. وكان ثروت عكاشة يدرك أن هذه الدعوات ذات الرطانة الثورية العالية الصوت، يغفل أصحابها عن أمر مهم وهو أن تعليم الألف باء ليس هو الهدف في حد ذاته، ولكن أبناء الشعب يتعلمون الألف باء كي يقرأوا الأدب العالمي ويتذوقوا الفنون الرفيعة، ويطلعوا علي العلوم العليا ويطوروا معرفتهم بها، وأن اللحظة التي يتخلي فيها أي شعب في العالم عن تطوير الثقافة والفن والبحث العلمي، فإنه يحكم علي نفسه بالتخلف عن ركب الحضارة والتقدم ويتراجع في جميع مناحي الحياة اجتماعية كانت أو اقتصادية، وكان ثروت عكاشة يدرك جيدا أنه وزير ثقافة لبلد يسعي للتطور والنهوض وأن يحتل مكانة بارزة يستحقها عن حق في العالم المعاصر، ومن هنا كانت تلك المشاريع الضخمة التي عدت بحق كنوع من الصناعة الثقيلة في مجال الثقافة متمثلة في عدد من المشروعات لعل أهمها إنشاء أكاديمية الفنون لتقديم دراسات عالية وللمرة الأولي في مصر للسينما والباليه والموسيقي الأوركسترالية والأوبرا إلي جانب المسرح والموسيقي العربية، ثم تلا ذلك إنشاء معهدين أحدهما للنقد الفني والآخر للفنون الشعبية، وهي المعاهد التي جمعت فيما بعد في أكاديمية الفنون التي تعد الجامعة الوحيدة للفنون في الشرق الأوسط وأفريقيا، ودعمت هذه المؤسسة التعليمية الكبيرة بتأسيس أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة الباليه ومسرح الجيب لتقديم التجارب الجديدة في المسرح إلي جانب المسرح القومي الذي شهد نهوضا ملحوظا خلال فترة الستينات ومسرح الحكيم الذي تم إنشاؤه خلال هذه الفترة ليتخصص في تقديم الكتابات المسرحية الجديدة، بالإضافة إلي إصدار عدد من المجلات الثقافية كالمجلة والفكر المعاصر والمسرح والسينما والفنون الشعبية وغيرها مع حركة نشر واسعة لترجمة الكتب المهمة في التراث الإنساني قديمة ومعاصرة ونشر الإبداع المصري أدبا وثقافة وفنا ودراسات إنسانية وعلمية.. وصاحب حركة النشر النشطة هذه إقامة معرض دولي للكتاب يعد تاريخيا من المعارض الأولي للكتاب علي مستوي العالم، كما تم إقرار نظام التفرغ للفنانين التشكيليين وللكتاب مبدعين وباحثين ومترجمين. ولقد صاحب ذلك إنشاء قصور للثقافة في مختلف أقاليم مصر بما تحتويه من نشاط مسرحي ومعارض فنية وملتقيات ثقافية وأدبية ونواد للسينما. عاصمة ثقافية ومن عاش قاهرة الستينات يدرك جيدا أن ثروت عكاشة قد جعل من القاهرة إحدي العواصم الثقافية الكبري في العالم، كان بإمكاننا وقتها أن نحضر حفلتين أسبوعيا لأوركسترا القاهرة السيمفوني تخصص الحفلة الصباحية منهما للطلبة بسعر موحد خمسة قروش للتذكرة، ونحضر موسم الأوبرا الإيطالي ونشاهد عروض البولشوي وباليه لينينجراد وفرقة موسييف الذائعة الصيت للفن الشعبي علي مسرح دار الأوبرا، وفرقة «الأولدفيك» البريطانية العريقة علي مسرح الصوت والضوء بالهرم، وفرقة تساندريكا الرومانية للعرائس التي كانت الفرقة الأولي للعرائس في العالم وقتها، وكذلك مسرح موسكو للعرائس «مسرح ابراشوف» الذي يعد من أهم مسارح العرائس في العالم علي خشبة مسرح القاهرة للعرائس الذي تم إنشاؤه أيضا في تلك الفترة وقدم عروضا مرموقة مازلنا نشاهدها حتي الآن ولعل «الليلة الكبيرة» خير شاهد علي ذلك. في تلك الستينات الذهبية كان يمكننا أن نشاهد معرضا لهنري مور في القاهرة وأن نشاهد أول أوبرا تترجم وتؤدي باللغة العربية وبأصوات أوبرالية مصرية، وهي أوبرا «الأرملة الطروب» لفرانز ليهار في خطوة مهمة توقفت للأسف الشديد مع رحيل ثروت عكاشة عن وزارة الثقافة. أما في مجال السينما فلقد شهد إنتاج أفلام القطاع العام تطورا ملحوظا في الإنتاج السينمائي الفني الرفيع المستوي وخلال هذه الفترة ظهر عدد من أهم أفلام السينما المصرية لست في مجال ذكرها، ولكنني أكتفي بالإشارة إلي أن ثروت عكاشة كان هو المحرك الأساسي لإنتاج فيلم «المومياء» لشادي عبدالسلام الذي يعد ايقونة السينما المصرية، وهو الفيلم الذي وضعها علي خريطة السينما العالمية واختاره نقاد العالم كواحد من أفضل مائة فيلم في الأعوام المائة الأولي من عمر السينما، وقد وصل حماس ثروت عكاشة لهذا الفيلم بأنه كان تقريبا مدير الإنتاج الفعلي لهذا الفيلم. نادي السينما وفي مجال الثقافة السينمائية قام ثروت عكاشة بتأسيس نادي القاهرة للسينما الذي أصبح أكبر ناد للسينما في العالم وضم في عضويته أكثر من ألفي عضو، ولدعم هذا النادي في سابقة كانت هي الأولي والأخيرة «للأسف الشديد» من نوعها، أرسل نقادا متخصصين إلي الخارج لشراء أفلام متميزة للعرض في نادي السينما الذي أصبح بدوره مركزا لانطلاق حركة نوادي السينما في جميع أنحاء مصر وفي قصور الثقافة التي كانت تقدم عروضا أسبوعية للأفلام الفنية رفيعة المستوي من مختلف أنحاء العالم بمصاحبة نقاد وسينمائيين متخصصين لتقديم هذه الأفلام وشرحها والاحتكاك بجمهور الأقاليم والنقاش والتفاعل معهم ثقافيا وفنيا، ولقد شارك في هذه الجولات عدد كبير من النقاد والسينمائيين المصريين الذين جابوا جميع أنحاء مصر من شمالها إلي جنوبها وأذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر خيري بشارة وسمير سيف وعلي عبدالخالق وسمير فريد وكمال رمزي وسامي السلاموني ورفيق الصبان وفتحي فرج وهشام أبوالنصر ومدكور ثابت وكاتب هذه السطور والكثيرين غيرهم، وكان مثقفو مصر وفنانوها يتطوعون لإدارة قصور الثقافة ويملأونها فنا وإبداعا وثقافة. ولقد تم ذلك كله وأكثر منه خلال فترتين فقط من تولي ثروت عكاشة لوزارة الثقافة وخلال سبعة أعوام فقط تفرغ بعدها لأعماله الموسوعية الضخمة مثل «العين تسمع والأذن تري» و«فنون عصر النهضة» و«موسوعة الفن الإسلامي» وغيرها من الأعمال المؤلفة والمترجمة التي تتجاوز السبعين كتابا وتشكل موردا ثقافيا كبيرا ومراجع أساسية في الفن والثقافة. لقب فارس يميل الكثيرون لإطلاق لقب فارس علي ثروت عكاشة مستندين إلي خلفيته العسكرية كضابط في سلاح الفرسان، وأنا أربأ به عن ذلك، حيث سيتساوي بهذا القياس مع يوسف السباعي الذي عمل كضابط في نفس السلاح وتولي وزارة الثقافة من بعده وعاش تخريبا في مؤسساتها وتنكيلا بمثقفي مصر، ولكنني أميل إلي اعتبار ثروت عكاشة فارسا بالمعني المطلق للفروسية في عصورها القديمة، فهو ككل فرسانها معرّض لأن يصاب في كعب قدمه تماما كآخيل في إلياذة هوميروس.. وكعب آخيل «غير المحجب» عن ثروت عكاشة في رأيي تمثل في محاولته لدمج المثقفين في نظام عبدالناصر، بدلا من اعتماد المنابر الثقافية المستقلة لهم المدعومة من دولة كانت تضع لنفسها أهدافا تقدمية كبيرة ثم توكل تنفيذها إلي أجهزة بيروقراطية بليدة وفاقدة الثقة تماما بالمثقفين المصريين كما كان يفترض بها أن تكون، ولذلك ومع تغير اتجاهات الرياح في نظام الحكم في مصر وتحول الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية أنور السادات الذي بدأ باستخدام مصطلح «شواذ المثقفين» ثم انتهي إلي مصطلح «المثقفين الشواذ» وبفهم مماثل تقريبا لمقولة جوبلز وزير دعاية النازي «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» كان من السهولة بمكان العصف بهذه المؤسسات الثقافية التي بذل ثروت عكاشة الغالي والنفيس في إنشائها، وتحولها إلي هياكل فارغة من مضمونها ومحتواها.. وبدلا من أن نقدم بيتهوفن في مولد السيدة زينب كما حلم ثروت عكاشة ورصد حلمه صلاح جاهين، أصبحنا نخشي من تقديم شعبان عبدالرحيم بمصاحبة فرقة «حسب الله» علي مسرح دار الأوبرا.