منذ عهد السيد اللواء"رخ مي رع" وزير الداخلية في عهد الملك"تحتمس الثالث" من الأسرة 18، كلما سُئلت إحدي القيادات الأمنية علي مختلف مستوياتها عن سبب ارتفاع معدلات الجريمة، أو عن سبب الانفلات الأمني؟ تعللت وهي منتفخة الأوداج، متململة الانطباعات، بانخفاض مستوي المعيشة، وارتفاع نسبة الفقر في المجتمع، وإن كانت من العالمين ببواطن الأمور، عللت ذلك بارتفاع معدلات البطالة، وإن كانت من العاملين في الجهات الرقابية رفيعة المستوي تبرمت وهي تضيف إلي ذلك وجود الأحياء العشوائية داخل المدن الكبري، وكأن رجال الشرطة يشترطون علي المجتمع أن يكون بلا فقراء، ولا يوجد به عاطلون، وخال من العشوئيات حتي يمنحوه الأمن، لا أن يجعلوا المجتمع آمناً فينشط اقتصاده، فيرفع مستوي أفراده، تلك هي المغالطة المنطقية الأمنية، بينما أثبتت أحدث الدراسات الأمنية في الولاياتالمتحدةالأمريكية أنه لا علاقة بين مستوي الفقر، والبطالة، والأحياء العشوائية، بل وحتي ارتفاع نسبة تعاطي المخدرات في المجتمع، بارتفاع أو انخفاض معدلات الجريمة، او حدوث الانفلات الأمني التجربة الأمريكية أثبت د."فرانكلين زيمرنج" أستاذ الجريمة بجامعة كاليفورنيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية، في أحدث أبحاثه" كيف انتصرت نيويورك علي الجريمة؟" والمنشور في مجلة العلوم الأمريكية، عدد أغسطس 2011م، أنه قد انخفض معدل الجريمة في مدينة نيويورك، خلال العشرين سنة الأخيرة بنسبة اكبر من 80% دون القيام بأي إجراءات أدت إلي رصد حدوث ارتفاع في مستوي الفقراء، أو حل مشكلة البطالة، أو أي عمليات تطهير عرقية لسكان المناطق العشوائية بها، وبدون حتي أن تحقق الشرطة أي انتصار في حربها علي المخدرات، بل لم يتم تفعيل عمليات الاعتقالات العشوائية وهي ما تقابل عندنا القبض بدون رقابة قضائية تحت ستار قوانين الطوارئ فكانت التجربة النيويوركية التي خلاصتها أن معدلات الجريمة يمكن السيطرة عليها، وتقليلها، دون ربطها بقضايا اجتماعية، واقتصادية، واسعة الدلالة، فلم يسهم النمو الاقتصادي في تخفيض معدل الفقر، أو البطالة في مدينة نيويورك بشكل ملموس، كما أنه من الصعب أن يتم إحداث تغييرات في مستوي المعيشة ينعكس أثرها مباشرة علي الجرائم، فتم رصد تجربة أمريكية جديدة حطمت كل أساطير رجال الأمن القديمة، والتي يعتمدون عليها للتهرب من مسئوليتهم تجاه مجتمعاتهم، وتبرير الانفلات الأمني. تفنيد النظريات التقليدية! وضع د."زيمرنج" كل رجال الشرطة في مأزق فقد كشف خواء تصريحاتهم الصحفية، وأحاديثهم الفضائية، فقد زادت الكثافة السكانية، ومعها التنوع في المستويات العرقية العشوائية، وبالرغم من ذلك انخفض معدل الجريمة في عموم مدينة نيويورك! انخفاضاً ملحوظاً، كما انه رغم اقتران ظهور الكوكايين وانتشاره، منذ العام 1985م، حدث انخفاض ملموس في معدل العنف، حتي انه بدي كما لو كانت نيويورك انتصرت في حربها علي الجريمة، دون أن تنتصر في حربها علي المخدرات! ورغم ارتفاع عدد المعتقلين، انخفض عدد المسجونين في العام 2008م بنسبة 28%عن معدله في العام 1990م، فقد قل أعداد المجرمين العائدين لارتكاب الجريمة، حتي انخفضت نسبة الجرائم الي 80% دون حدوث أي زيادة في أعداد المسجونين، كل هذه الاستنتاجات أطاحت بالنظريات القديمة المبررة لارتفاع معدلات الجريمة، وبالتالي تتم عمليات السيطرة علي معدلات الجريمة عن طريق السيطرة علي العوامل التي يتزرع رجال الشرطة بأنها سبب تلك الزيادة، فعندما تكون الأسباب غير حقيقية، تصبح الوسائل المستخدمة بعيدة عن تحقيق أهدافها، وهنا تساءل د."زيمرنج" إذا لم تكن البطالة، وانخفاض مستوي المعيشة، والمخدرات هي أسباب يمكن عن طريقها مكافحة الجريمة، فما الوسيلة التي يتم بها ذلك؟. مدير أمن نيويورك توصل د."زيمرنج" إلي أن الحل الذي ترتب عليه هذا الانخفاض في معدلات الجريمة في مدينة نيويورك يرجع إلي ما قام به مديرو أمنها علي التوالي، حيث تم إنشاء وحدة لإحصاء الجرائم، وتحديد أماكنها، وإعداد الخرائط الأمنية اللازمة لترجمة الحالة الأمنية، حسب أماكن ارتكاب الجرائم وتحويلها إلي نقط سوداء، وقام السيد مدير أمن نيويورك بإعادة توزيع الدوريات الأمنية الثابتة، والمتحركة، وإعادة هيكلة رجال الشرطة التابعين لقوة مديرية أمن نيويورك بحيث يضمن تناسب تواجدهم مع النقاط السوداء التي تم تحديدها بالأسلوب العلمي الإحصائي الموضوعي، وهنا رصد المتابع د."زيمرنج" أن تنفيذ هذه الخطة تم بتسريح أعداد من رجال الشرطة، بلغ عددهم 4000شرطي، في العام 2000م، ولكن بالرغم من هذا حدث تراجع في معدلات الجريمة، فاستنتج أن مشكلة مدير أمن نيويورك مع الجريمة هي ليست في زيادة أعداد رجال الشرطة، بقدر ما هي إعادة هيكلة قوته وتوزيعها علي أساس خريطة الجريمة المعدة إعداد علمي، وقدم لأول مرة تعريفاً علمياً للجريمة التي تمثل انفلاتاً أمنياً، بأنها:" كل جريمة ترتكب في الشارع، ويكون المجني عليه فيها غير محدد من قبل الجاني مسبقاً، وإنما هو تعرض للجريمة بسبب تواجده غير المشروط في مكان ارتكابها"، تلك كانت خلاصة أبحاث متحصص في علم الجريمة، والقانون، نتيجة رصده وتفسيره لاحصائيات الجرائم في مدينة نيويورك خلال العقدين الأخيرين، وإجابته عن أسباب انخفاض معدلات الجرائم في نيويورك. الإحصاء الجنائي بين مصر وأمريكا يذكر د."زيمرنج" في بحثه أن مديرية أمن نيويورك تقوم بالتلاعب في البيانات حتي تبدو إحصائيات الجرائم أقل من الحقيقة، إلا أنه تمكن من التأكد من حقيقة الاحصائيات الجنائية عن طريق مقارنتها بإحصائيات أخري صادرة عن جهات غير تابعة لمديرية أمن نيويورك، مثل مديرية الصحة، حيث تحفظ بيانات جرائم القتل، وكذلك عند شركات التأمين، كمؤشر لجرائم سرقة السيارات، أما في مصر فالأمر يبدو مختلفاً فإذا قررنا تطبيق النظرية الأمريكية المجربة في مصر فسنصطدم بالعديد من المشاكل، والتي تتعلق أولها بكيفية إعداد الخرائط الإجرامية، وهي الخريطة التي ستحدد مكان تكرار ارتكاب الجرائم، ومواعيدها، فإذا افترضنا أن هناك إحصائيات للجريمة يمكن الرجوع اليها بعد عدة أعوام، فإن هذه الاحصائبات معيبة، حيث إن جميع الاحصائيات الجنائية لا تعبر عن حقيقة معدلات الجرائم في المجتمع، فالعملية من بدايتها تخضع لعملية تلفيق كبيرة، فجرائم السرقة بالاكراه يتم قيدها جرائم سرقة فقط، وجريمة القتل تقيد حادث تصادم، والطفل اللقيط بالحبل السري، يقوم ضابط المباحث بعمل الداية، ويقطع هو الحبل السري، حتي لا يقوم بعمل إخطار بالجريمة، هذا فضلاً علي جرائم لا يتم إثباتها أصلاً، كما أن جرائم التشكيلات العصابية، هي جريمة واحدة يتم قيدها أكثر من مرة حتي يتم غلق بلاغات سرقة قديمة، فتتحول إلي جرائم تشكيلات عصابية علي خلاف الحقيقة، وهناك مشاكل في تحديد الحدود الإدارية بين مديريات الأمن، وبعضها البعض، وأيضاً داخل المديرية الواحدة بين المراكز المتجاورة، وكم من جثث ملقاة في نهر النيل، أو الترع، والمصارف يتم إزاحتها لكي تدخل في نطاق المركز المجاور، بل هناك ضباط مباحث قاموا بتركيب أسلاك علي فتحات مصارف الترع في مصبات دوائرهم، لتمنع وصول الجثث اليهم، وعليه فإن عملية الاعتماد علي الاحصاء الجنائي، من أجل تأسيس شبكة الدوريات الأمنية التي تحقق التواجد الأمني عند أماكن ارتكاب الجرائم، سوف تمدنا بخرائط وهمية، لا تعبر عن حقيقة الجرائم، والصفة القانونية التي تمت عليها، كما أنها لا تعبر اصلاً عن حجم الجرائم الذي حدثت في المجتمع، خلال فترة زمنية محددة. هناك فرق بين هيكلة الشرطة بتطويرها، وهيكلة الشرطة بتطهيرها فالتطوير هو أن تكون الإحصائيات الجنائية معبرة عن واقع الجريمة في المجتمع، وهي القاعدة التي علي أساسها يتم إعادة نشر قوات الأمن، والدوريات في المجتمع.