آه يامسرح غرامي 1959 .. موظف في وزارة الصحة، الشئون المالية والإدارية، عرف زملائي أنني ممثل هاو فعرفوني علي الأستاذ عبدالمنعم، هو يحتل مركزا مرموقا، رئيس قسم الإجازات، رئيس قسم في تلك الأيام كان صاحب هيبة كبيرة، أما المدير العام فكان يعامل تماما كسكرتير عام الأممالمتحدة، أما وكلاء الوزراء فلم يحدث أن شاهدنا أحدًا منهم، كنا نسمع عنهم فقط. بدأت أشعر برهبة وزاد احترامي وإجلالي للأستاذ عبدالمنعم بعد أن عرفت أنه يمثل في المسرح القومي.. يا إلهي، هذا الرجل زميلي في الشغل يعمل ممثلا في المسرح القومي، أعمل في قسم الماهيات ولكنك لن تجدني هناك، عندما تسأل عني فسيقولون لك بشكل تلقائي ستجده في قسم الإجازات مع الأستاذ عبدالمنعم، ودعاني لأحضر عرضا في المسرح القومي، وكنت متشوقا لأراه وهو يؤدي أحدالأدوار، الحمد لله هاهو ذا يدخل المسرح، كان طويلا عريضا بشكل لافت للنظر، لماذا لم تصفق الناس؟.. لابأس.. سأصفق أنا.. فكرت للحظات أن أصيح.. ده أنا اللي بيسقف لك ياأستاذ عبدالمنعم، أنا زميلك بتاع قسم الماهيات، غير أنني لم أفعل لكي لا أسبب له إحراجا. كان يمسك بيده كرباجا وينظر بتهديد للممثلين الذين يقفون علي خشبة المسرح غير أنه لم يضرب أحدًا ثم خرج بغير أن ينطق حرفا واحدا، لا بأس، هو كومبارس لكنه يتمتع بشيء جميل، هو في النهاية يعمل مع هؤلاء الممثلين العظماء. بعد ذلك دعاني لحضور عرض آخر كان نقطة تحول في حياتي، العرض كان إعدادا مصريا عن مسرحية إيطالية اسمها ( الموت يأخذ إجازة) تأليف ألبرتو كاستيلو، الإعداد والإخراج كان للمرحوم الأستاذ فتوح نشاطي وبطولة كل عمالقة المسرح القومي. كان العرض علي خشبة مسرح محمد فريد بشارع عمادالدين، عدد قليل من المتفرجين تناثروا في أنحاء القاعة. إجازة عزرائيل كانت المرة الأولي في حياتي التي أشاهد فيها مسرحية أجنبية تقدم بالعربية الفصحي. فكرة المسرحية غريبة ومدهشة، لقد حصل عزرائيل، ملاك الموت علي إجازة أربعة وعشرين ساعة فقط ونزل ليقضيها علي الأرض بين الناس، طبعا لم ينزل بملابسه الرسمية وشكله المعروف كما يرسمه الرسامون، بل نزل علي هيئة شاب وسيم يرتدي ملابس أنيقة، محمدالدفراوي رحمه الله كان يلعب الدور، هكذا مرت علي الأرض 24 ساعة لم يقبض فيها عزرائيل روح أحد. وبدأت الناس تتحدث عن أحداث وحوادث غير مفهومة، منها مثلا سيارة تسقط من فوق جبل إلي الوادي وتتحطم تماما ويخرج منها ركابها جميعا سالمين. نزل ملاك الموت ضيفا علي أسرة، فتعرف علي شابة جميلة وحدث بينهما ما نسميه الحب من أول نظرة، وهنا بدأ عذابه، من المحتم أن تنتهي هذه العلاقة بعد عدة ساعات، هي لا تعرف أنه هو الموت، ويزداد عذابه عندما تخبره أنها تحبه وستظل تحبه.. ولكنك لا تعرفين من أنا.. فتقول، لتكن ما تكون ومن تكون أنا أحبك وعلي استعداد لأن أذهب معك إلي آخر مكان علي الأرض.. فيقول لها إن مكانه ليس علي الأرض، غير أنها تصر علي موقفها، هي تحبه.. وعلي استعداد لأن تكون معه في أي مكان علي الأرض أو في السماء. يحاول إثناءها عن عزمها في مشهد رائع وصل فيه الدفراوي ونادية السبع رحمها الله إلي القمة في الأداء. وفي النهاية من أجل أن تقتنع، يخلع عن وجهه قناع البشر فيبدو وجه الموت الكئيب.. ولكنها ترحب بأن تذهب معه.. إنه الحب ليكن حبيبك من يكون وما يكون المهم أن تحيا معه. شعرت وأنا أشاهد العرض أن الكتابة للمسرح هي مهنتي الحقيقية التي كنت ومازلت أبحث عنها، فعندما تمارس فنونا عديدة في مجال الفن، تستولي عليك حيرة شديدة ناتجة من سؤالك لنفسك.. نعم.. أحب التمثيل الكوميدي.. وأقرأ بشغف، وأقول مونولوجات، وأغني، وأقدم فقرات فكاهية من تأليفي، وأكتب خطابات غرامية طويلة لحبيبتي عندما قرأتها أستاذتها قالت لها: حبيبك سيكون أديبا كبيرا. ولكن من أنا..؟.. أو بالتحديد ماذا أنا؟ الإجابة عن السؤال هذا هو العرض المسرحي الذي أجاب عن سؤالي ووضعني علي بداية الطريق، تأثير العرض المسرحي علي كان قويا إلي درجة جعلتني أقول لنفسي.. اجهز.. استعد.. أنت كاتب مسرحي لم يكتب بعد وعليه أن يكتب، إذا كان هناك عمل يتسم بكل هذا الجمال وهذه الصنعة الجميلة في مجال التمثيل والمسرح ,فلا بد أنه عملك.. هيا.. نجح المؤلف علي مستوي الصنعة في تحقيق التحدي الحقيقي الذي يواجه كتاب المسرح وهو الحفاظ علي ما نسميه، وحدات أرسطو الثلاث وهي: وحدة الفعل ووحدة المكان ووحدة الزمان. هذه الوحدات الشهيرة عندالمسرحيين The three unities of Aristotle التي يحاول الكاتب المسرحي بكل ما لديه من قوة تحقيقها أو حتي الاقتراب منها، اكتسبت قداسة عند قدامي النقاد إلي الدرجة التي جعلتهم لا يعترفون بعمل مسرحي لا تتوفر له هذه الشروط. وهذا ما عطل المسرح طويلا إلي أن جاء أخونا عبقري العباقرة شكسبير وأثبت أن الوحدة الحقيقية التي يجب الالتزام بها هي وحدة الفعل، أما وحدة الزمان ووحدة المكان فمن الممكن التعامل معهما بالمزيد من الحرية. وحدة الزمان تفرض أن تدور أحداث المسرحية في ليلة واحدة أو ثلاث ليالي علي الأكثر، ووحدة المكان كانت تحتم اختيار مكاناً لهذه الأحداث لا تغادره شخصيات العمل منذ بدء فتح الستار إلي نزولها. اتضح أنه لا أهمية فعلية لهاتين الوحدتين عندالمتفرج، مع تحذير شديد.. ليس معني ذلك أن تدور أحداث الفصل الأول مثلا في يوم محدد وأحداث الفصل الثاني بعدها بعام أو عدة شهور، يعني باختصار ليس من المحتم الالتزام بوحدتي الزمان والمكان غير أنه ليكن واضحا لديك أنك كلما التزمت بهما، كان عرضك المسرحي أقرب إلي القوة. نأتي الآن إلي وحدة الفعل، لكل مسرحية تيمة أساسية Themeيسميها الأستاذ لاجوس أجري، المقدمة المنطقية التي ستنبني عليها أحداث المسرحية هو فعل واحد لايجب أن تغفل عنه لحظة واحدة كل الأفعال الأخري يجب أن تصب فيه وتنطوي تحت جناحه لتزيده تأثيرا ولمعانا وقوة. كانت ليلة حاسمة في حياتي، في تلك الليلة اكتشفت أن العمل الذي أريده مهنة لي من بين فروع الفن جميعا، هو مهنة الكتابة للمسرح. ليس لأنني أجيدها بل لأنني وبكل صدق لا أعرف عنها شيئا. هكذا بدأت رحلة التعرف علي هذا الفن، أو بالدقة ، فن صياغة المسرح الذي أنا علي يقين أنني ممتلئ به.. نعم، سأكتب للمسرح، ولكن ما هي فكرة «تيمة» مسرحيتي الأولي، يا لها من حيرة ويا له من عذاب. مسرح التليفزيون وعند ظهور مسرح التليفزيون شاهدت علي مسرح الهوسابير عرض مسرحية "العش الهادئ" وكان يمثل فيها الصديق القديم أحمد عبدالحليم الذي دعاني لمشاهدة العرض، الواقع أنني تعرفت عليه عندما كان جارا لي في المنيرة بالسيدة زينب، مشاهدة عروض مسرحيات الحكيم بالتحديد تشعر المؤلفين المبتدئين والهواة بأنه من السهل جدا عليهم كتابة عروض مسرحية مماثلة، وعندالممارسة يكتشفون كم أن الحكاية صعبة. بعدالعرض سألني أحمد: إيه رأيك..؟ أبديت له إعجابي الشديد به وبالعرض غير أنني انسحبت من لساني وقلت: أنا أستطيع كتابة مسرحية أفضل من هذه. من المعروف عن أحمد عبدالحليم أنه أكثر خلق الله أدبا وتهذيبا ولذلك قال لي بأدب: والله الواحد مش عارف انت بتعمل إيه بالظبط.. انت بتمثل وبتخرج مع الهواة ولكنها المرة الأولي التي أعرف فيها إنك بتكتب مسرح كمان. فقلت له: أنا لسه ما كتبتش.. بس حاكتب.. فقال بغير أن يبدو عليه أي استهانة بكلامي: خلاص.. اكتب مسرحية.. وتعالي قدمها عندنا في مسرح التليفزيون.. الست أمينة هي المسئولة عن قراءة المسرحيات.. سأطلب منها أن تهتم بقراءتها. وكانت المسرحية الأولي «عابدين كومبلكس» أستطيع الآن بعد مرور حوالي خمسين عاما، أن أشهد أمام الله والتاريخ أنها لم تكن فقط مجرد مسرحية رديئة بل لعلها كانت أكثر النصوص المسرحية رداءة علي مر العصور «أعدت كتابتها بعد ذلك عدة مرات لم تعد رديئة جدا أصبحت رديئة فقط» لم يكن الجزء الناقد في عقلي والخاص بمراجعة ما أكتبه قد بدأ في الدوران بعد، نحن نكتب المسرح ونشاهد ما نكتبه في نفس اللحظة، ليس هذا هو المهم، الأكثر أهمية أن نري ما نكتبه بأعين المشاهدين، أنت الوحيدالذي يري نفسه من الداخل، والمطلوب هو أن تكون لديك القدرة علي مشاهدة نفسك من الخارج. تقدمت بالمسرحية لمسرح التليفزيون وبعد عدة شهور طلبت من أحمد عبدالحليم أن يعرف لي مصيرها فسأل بدوره السيدة أمينة التي قالت له إنها رفضتها ثم طلبت منه أن أعيد تقديمها بعد تغيير اسمها. بعدها سافر أحمد إلي لندن للالتحاق بالمعهد الملكي للفنون الدرامية. وبدأ المشوار، أنا ومعي عابدين كومبلكس نمشي في شارع الضباب. في ذلك الوقت لم تكن ماكينة التصوير قد اخترعت بعد، ولذلك كانت نسخ العمل الفني (بعد إذنك، حا نسميه فني) عرضة للضياع وكان المتاح فقط هو كتابة ثلاث نسخ علي الآلة الكاتبة بالكربون، ذهبت بالمسرحية للأستاذ عبدالفتاح البارودي الناقد المسرحي في جريدة الأخبار فقال لي: هي فين الدراما اللي في المسرحية.. انتم كلكم ما تعرفوش دراما لأنكم شيوعيون.. اتفضل لما تعرف دراما ابق تعالي لي.