يؤكد باولو فريري في كتابه "المعلمون بناة ثقافة" علي حقيقة أن التعليم عملية سياسية وليس عملية محايدة "، وهو ما يعبر عن حقيقة صعوبة فصل التعليم عن السياسة، سواء في عملية التخطيط ووضع السياسة التعليمية، أو في عملية الانتقاء المعرفي للمناهج المقررة، وتوزيع الطلاب علي التخصصات الدراسية المختلفة، أو في انعكاسات الصراعات الحزبية والقوي السياسية وتجاذبات جماعات المصالح علي الواقع التعليمي، أو في محاولة فرض السلطات هيمنتها علي المؤسسات التعليمية والأبحاث العلمية، أو في حقيقة أن التعليم يخلق شريحة واعية قادرة علي التفاعل مع الأحداث والقضايا الوطنية الجارية. وفي مصر لم تكن المؤسسات التعليمية بعيدة عن مجريات الأوضاع السياسية بتشابكاتها وتعقيداتها، فاتخذت القوي السياسية من التعليم حلبة لفرض وخلق المزيد من الأنصار ومناوأة التيارات السياسية الأخري، وفي مطلع القرن التاسع عشر كان مشايخ وطلاب الأزهر الشرارة التي أشعلت الثورات ضد الحملة الفرنسية. ومع أن حدة التفاعل الطلابي مع القضايا السياسية انخفضت في القرن التاسع عشر، إلا أنها بدأت تتصاعد خاصة بعد وقوع الاحتلال الانجليزي لمصر 1882، ونشأة الأحزاب المصرية 1907، ودعوة مصطفي كامل التحررية . وتمثل ثورة 1919 قمة التسييس للمؤسسات التعليمية، حيث أشعل الطلاب والمعلمون شرارة الثورة، وقادوا مظاهراتها، وأضربوا عن التعليم في المدارس والتعليم العالي وامتدت حركة تسييس التعليم خاصة في الجامعة في فترة الثلاثينات، حتي بدأت تمزق طلاب الجامعة إلي فئات متصارعة متنافرة، وكانت قضية استقلال الجامعة مجالا للصراع بين إدارة الجامعة وطلابها وبين الأحزاب السياسية، وأصبح العمل الأكاديمي للأساتذة طريقاً مؤديا إلي مقعد الوزارة، مما زاد من جاذبية الانخراط في العمل السياسي بالنسبة للأكاديميين. وعملت ثورة 23 يوليو علي إعادة صياغة المجتمع المصري، وباعتبار الأحداث الثورية قوي تربوية، فقد ألقي ذلك بمسئوليات كبيرة علي التربية، ووجهت السياسة التعليمية في إطار يخدم فلسفة الثورة، فوجهت في إطار يخدم الاتجاه القومي العربي وبعث التراث، وحرصت الدولة علي إحكام قبضتها علي الطلاب والهيئات كنقابة المعلمين منذ تأسيسها عام 1955 وقد تحولت الجامعات إلي ساحات للصراع السياسي في عهد السادات، نتيجة استغلال السلطات طلاب الجامعة كأداة لتقوية النفوذ، وضرب الخصوم، وفرض التوجهات السياسية والاقتصادية الجديدة. أدب محفوظ والأوضاع السياسية والتعليمية ويعكس أدب نجيب محفوظ تلك الأوضاع السياسية وانعكاساتها التربوية والتعليمية، خاصة منذ ثورة 1919، وهي الثورة التي عاصرها نجيب محفوظ تلميذا في المدرسة الابتدائية، وارتبط وجدانيا بزعمائها وحزبها وهو حزب الوفد. وكانت قضية الاستقلال عن بريطانيا وجلاء الاحتلال أهم القضايا التي تثير حماس الطلاب وتدفعهم إلي العمل السياسي، ولا يترددون في التضحية في سبيل التحرر الوطني " لابد من التضحية فالدم هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز" ( بداية ونهاية). الطلاب والمعلمون بين الثورتين ضعفت الحركة الوطنية في بداية عهد الاحتلال، نظراً لنفي وحبس زعماء الثورة العرابية، إلا أن هذه الحركة استعادت نشاطها مع ظهور "مصطفي كامل" مدعوماً من الخديو "عباس حلمي الثاني"، حيث طالب بالجلاء والدستور والاهتمام بالتعليم ورفض الخنوع والاستسلام . وقدم "محمد فريد" تضحيات كبيرة للقضية الوطنية، في ظل ظروف قاسية . وتعد ثورة 1919 نقطة تحول بارزة في التاريخ الوطني المصري، فهي أول تمرد شعبي واسع الاحتلال، وتجلت فيها الروح الوطنية بأوضح معانيها، واشتركت فيها طوائف الشعب كافة . وتشغل جزءا أساسيا من رواية بين القصرين لنجيب محفوظ، حيث انخرط طلاب المدارس العليا والثانوية في موجة المد الوطني، وامتدت تلك الموجة إلي تلاميذ المدارس الابتدائية بتحريض من طلاب المدارس العليا، حيث كانوا يندفعون إلي المدارس مطالبين " الإضراب .. الإضراب .. لا ينبغي أن يبقي أحد "، وتظاهر التلاميذ الصغار في أفنية المدارس لصعوبة اشتراكهم في المظاهرات. وكان طلاب مدرسة الحقوق بحكم ثقافتهم القانونية، وما تتمتع به المدرسة من تأثير فرنسي مناوئ للإنجليز، ومن مكانة اجتماعية منحت الطلاب ثقة بأنفسهم، باعتبارها المدرسة التي تخرج القادة والزعماء، أبرز الطلاب المشاركين في الثورة وحرضوا طلاب المدارس الأخري علي الاشتراك " دعا الداعي إلي الخروج فخرجوا متظاهرين، وتوجهوا إلي مدرسة المهندسخانة فسرعان ما انضمت إليهم ثم إلي الزراعة، فهرع طلابها إليهم هاتفين كأنهم علي ميعاد، ثم إلي الطب فالتجارة، وما إن بلغوا ميدان السيدة زينب حتي انتظرتهم مظاهرة كبيرة انضمت إليها جموع الأهالي وتعالي الهتاف لمصر والاستقلال وسعد، واشتركت جميع المدارس في الإضراب "، وقد تظاهر الطلاب مركزين مطالبهم في الجلاء والدستور والاستقلال، ولم يتوقف نشاطهم عند رد الفعل العشوائي، بل نظموا أنفسهم في لجان مثل لجنة الطلبة العليا، لتنسق الأنشطة السياسية للطلاب، وقد استشهد فهمي أحمد وهو يقوم بالإشراف علي تجمعات طلبة المدارس الثانوية. ويقترن مستوي الحماس لثورة 1919 بالمستوي التعليمي، فكلما ارتفع المستوي التعليمي زادت المشاركة الايجابية في الثورة، فنجد "فهمي" الطالب بالحقوق أكثر المتحمسين، حتي دفع حياته ثمنا للاشتراك في الثورة، بينما كانت أسرته تتبني موقفا متعاطفا وأقل حماسا من ناحية الأب وياسين، ويقتصر تعليمهما علي التعليم الابتدائي، بينما كانت الأم وابنتاها أكثر تسامحا ومسالمة للإنجليز، وهن قد حرمن من التعليم إلا القشور، مما يجعلهن أقل وعيا وإدراكا بأبعاد القضية الوطنية، حتي وصل بهن الأمر إلي صب الغضب علي سعد زغلول نفسه، لأنه سبب الشر كله. واستنكرت الأم توعية المعلم للتلاميذ بواجباتهم الوطنية وحضهم علي المساهمة فيها. وإذا كان المعلمون، كما يذكر "باولو فريري" ليسوا مجرد متخصصين تقتصر مهمتهم علي تدريس المواد الدراسية، بل يجب أن يدرسوا هذه المواد " بحكمة وكفاءة، لكي تتضمن في الوقت ذاته تصميمنا علي التغلب علي مظاهر الظلم الاجتماعي". فقد ساهم المعلمون في ثورة 1919،سواء بتشجيع الطلاب علي الاشتراك فيها وغرس الروح الوطنية وحب التضحية في نفوس النشء حيث " تطوع كل مدرس يلقننا درسا في التربية الوطنية، مستهينا بأمنه وسلامته ومستقبله "( قشتمر)، أو بالإسهام المباشر بالإضراب عن التدريس والتظاهر مع بقية طوائف الشعب. وهو ما كان يعرضهم للعقاب والفصل(يوم قتل الزعيم). الطلاب بين ثورة 19 وثورة 52 وإذا كان الطلاب هم المحرك الأول لثورة 1919، فإن دورهم كان أقل فاعلية في بداية ثورة 23 يوليو 1952، باعتبارها ثورة اعتمدت علي ضباط الجيش واتخذت الحركة الطلابية بعدا جديدا قوامه تأييد الثورة وحمايتها من أجل إحداث التغيير المنشود، وتحقيق أهداف ومبادئ الثورة متغاضين عن تجاوزاتها، حتي وقعت الطامة الكبري في 1967، فاستعادت الحركة الطلابية نشاطها كما حدث في مظاهرات عام 1968، من أجل إحداث تغييرات جذرية في الوضع القائم علي كافة المستويات. لم يكن نجيب محفوظ يتعاطف مع ثورة 23 يوليو بقدر تعاطفه مع ثورة 1919، وفي الوقت الذي يمجد فيه حزب الوفد وثورة 1919، فإنه غالبا ما يقرن الإيجابيات بالسلبيات عند تناول ثورة 23 يوليو، ومن ثم تبدو علاقة السياسة بالتعليم باهتة في أدب نجيب محفوظ بعد ثورة 23 يوليو . وعلي الرغم من تحمس الطلاب للثورة بما وفرته من فرص للتعليم والارتقاء الاجتماعي، وتحدي للقوي الاستعمارية، فإن أجهزتها البوليسية لم تكن تميز أحيانا بين المؤيدين والمعارضين، وطاردت هذه الأجهزة الطلاب دون رحمة، إذا اشتمت أي ميول سياسية تخرج عن إطار الثورة(الكرنك). ويمكن تفسير المساهمة الفعالة للطلاب في ثورة 1919 بعدة أسباب منها: ارتفاع نسبة الوعي المترتب علي التعليم وما صحبه من تفتح فكري، ومنها المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الطلاب في ظل استبداد القصر والاحتلال، حيث عانوا من فرض المصروفات الدراسية بعد إلغاء المجانية وتضييق فرص التعليم، وتوجيهه بما يخدم سياسة الاحتلال، فكان اشتراكهم "وهم نتاج الطبقة الوسطي" تعبيرا عن الآمال التي تتوقعها هذه الطبقة. ويعد موت فهمي تلميحا للمردود الاجتماعي الضعيف الذي حصدته الطبقة الوسطي بعد اشتراكها في الثورة. وعلي الرغم من أن مجمل الحركة الطلابية إبان ثورة 1919 كانت تصب في صالح حزب الوفد وزعمائه فقد تخلي الوفد عن البعد الاجتماعي للتعليم، فلم يطرح سياسة تعليمية تتيح تعليماً إلزامياً مجانياً للجميع، وهو ما يلتقي مع التوجه العام للوفد الذي لم يعط للقضية الاجتماعية الاهتمام الكافي.