حين نلتفت إلي الوراء ونبحث عن المرأة الاستثناء عبر التاريخ نجد أن فيض هذه الفنانة لا ينقطع إذ لكل عصر نسائه اللائي زينّ الماضي القريب من عصرنا والبعيدة النادرة، فكون قلادة نفيسة لكل منهن بريقها الخاص المختلف والمتنوع الذي يخطف العيون والألباب نتيجة لأعمالهن الفذة المتميزة. وفي الأغلب يجمع أولئك النسوة قناعة واحدة وخيط واحد متين وقاعدة لانطلاقهن وهي حب الوطن. لآخر مرة مدت الفنانة التشكيلية عفت ناجي يدها المرتعشة لتمسك بيد الفنان التشكيلي السكندري عصمت داوستاشي تلميذها وصفيها.. توصيه ببيتها ومرسمها ولوحاتها وتؤكد له بقولها: «لازم يكون منزلي متحفا لأعمالي».. وأشارت إلي لوحتها «وداع سيوك» وقالت: «لن أتمكن من إكمالها.. ولكن هل تعجبك حقيقة»؟ الفنانة تسأل التلميذ وهي الأستاذة؟.. ثم طلبت من «داوستاشي» اختيار إحدي لوحاتها كهدية وكانت دائما ما تهديه بعضا من أعمالها.. وأعمال أخيها الفنان التشكيلي محمد ناجي وزوجها رائد الخزف سعد الخادم. يقول داوستاشي: رحلت إلي ربها عن تسعين عاما من الإبداع بعد هذا اللقاء بشهر واحد ويأسف الفنان السكندري لعدم تحقيق أمنيتها في إقامة متحف لها في الإسكندرية إذ يوجد متحف يضمها وزوجها سعد الخادم بحدائق القبة. وكانت أمنيتها أن يقام متحفها في فيلتها بالإسكندرية حيث مسقط رأسها. الجذور ولدت الفنانة بقصر الأسرة بحي محرم بك بالإسكندرية وكان في ذاك الوقت شقيقها الوحيد محمد ناجي رائدا لفن التصوير المعاصر والذي ولد عام 1888 ويكبرها بسبعة عشر عاما إذ ولدت عفت ناجي بتاريخ 12/4/1905 وتوفيت في 3/10/1994 ومثل بنات البيوتات الأصيلة تركت المدرسة في سن السابعة عشرة وبدأ ت في تلقي دروس الرسم والموسيقي واللغة الفرنسية في المنزل علي يد مدام ترانسن. عايشت هذه الفنانة منذ نعومة أظفارها قصص الجن والسحر والعفاريت والأفعال العجيبة المدهشة لتلك المخلوقات التي نحتت صورهم وأشكالهم في خيالها الصغير. تجلس مع مربيتها الجارية السودانية والتي اعتقت وظلت متمسكة بالحياة مع هذه الأسرة.. التي اعتبرتها كأحد أفرادها مع تعلقها بالطفلة عفت. وفي حجرتها التي تقع في الدور الثاني من القصر كانت تجلس الطفلة مع مريبتها لتصف لها الطقوس الشعبية السودانية، والمصرية علي حد سواء، السبوع، ليلة الحنة، الموالد، والذهاب إلي الحمام الشعبي السوداني المسمي ب «الجمرة»، ألوان الثوب السوداني الزاهية وطريقة الدندشة السودانية، وعدد الأزياء التي تغيرها العروس، والرقصات المختلفة وأسمائها، طفلة متفتحة المسام والسمع والحكي والاستيعاب.. كل هذه الدانتيلا الفولكلورية وتخزين هذا العالم الجميل «المخيف» الغامض في حكايات المربية المثيرة المغموسة في خيال ساحر خصب ينتقل سريعا إلي عفت، في صور وتهويمات تمور بدخان المباخر والأشكال الضبابية الغائمة. بعد سنوات قليلة.. وفي طور الشباب تحلقت حياتها بين فطاحل الشعراء والأدباء الفرنسيين تقرض الشعر من سن الثامنة عشرة وكلما تقدم بها السن بدأت في كتابة قطع نثرية تحمل سمة التصوف. تفتحت في مرسم أخيها محمد ناجي فنان يواكب المدارس الأوروبية في تناولاته التشكيلية في عبقرية فذة. وكانت أولي خطواتها خارج مصر إلي إيطاليا للدراسة في أواخر الأربعينات بقرية «انتكولي، ديكورادو» تحت إشراف الفنان العالمي أندريه لوت الذي تأثرت بسحر خياله كما غلب لبها رسوم الفنان الفرنسي سيزان في مسطحاته ولكن هناك جانبا في لوحاتها يحمل دائما زخما شعبيا تمتد جذوره في البناء الروحي لعفت ناجي. الأزمة واجه الأخوان أزمة مالية حادة حين مات الأبوان.. واضطر إلي بيع بعض الأثاث ذي القيمة التاريخية وبعض الأفدنة وفدان من أرضهما.. ثم اضطرا إلي هجر المدينة والحياة في «أبي حمص» لضغط المصاريف وتخلت عفت عن ترفها وارستقراطيتها ونزلت مع الفلاحات تضع البذور في أرضها بثوبها الفلاحي المزركش!! يساعدها ابن عمها حسين ناجي الذي أحبته وبادلها شدة عاصفتها نحوه، واستقرت جرحا غائرا في روحها.. وقد وقف أخواها محمد ناجي في وجه هذا الزواج ومنعه بشكل باتر! تبادلت مسطحات لوحاتها محاكاة الطبيعة وروحها التي ازدادت رقة ورهافة سافرت إلي باريس وعرضت في معارضها، وعادت إلي مصر وكانت أول فنانة يقتني منها متحف الفن الحديث لوحة رقم 13. لم تعد تلك المتعجرفة، شذبها الحب والفن، والحياة مع الفلاحين، هي تفكر بالفرنسية وتكتب بها وتتكلم العربية وتتواصل مع كل ما هو مصري أصيل، وبدأت في ممارسة التأليف الموسيقي «كونشرتو البيانو» وكانت مقطوعاتها تذاع في الإذاعة المصرية تلقي النثر والشعر بالفرنسية في الندوات والمحافل العامة. وفي ذات الوقت تعلن صراحة عن فلسفتها الجمالية حين تقول: إن التقاليد الشعبية والعمل اليدوي الذي توارثته الأجيال عن طريق الحرفيين هذا هو الذي يجب أن يكون عماداً للفنون المصرية الحديثة. مشروع إبداعي استمرت عفت ناجي في رفض فكرة الزواج والارتباط، بعد صدمتها العاطفية الأولي حتي قدم لها أخواها محمد ناجي صديق الفنان التشكيلي سعد الخادم سليل العائلات الارستقراطية، فهو ابن أخت الفنان التشكيلي السكندري الكبير محمود بك سعيد وكانت عفت تكبر سعد الخادم بسنوات قليلة، وتم زواجهما في سنة 1954. وسعد الخادم هو الأب الشرعي والراعي الأساسي للفن الشعبي في مصر كان باحثا في التراث ومنقبا في دهاليزه البعيدة التي تغلغلت في روح الشعب المصري بإبداعاته التلقائية عروسة المولد والحصان، عودة الحجيج والمحمل علي واجهات المنازل، خمسة وخميسة ضد الحسود، قُلة السبوع، والعروس الورقية، تحرق بعد أن تثقب بأسماء كل من «نظر» وماسماش علي النبي. قرأ في كتب السحر والأعمال ومغزاها.. كان باحثا أكثر منه رساما عبر عن الفن الشعبي، بأشكاله الشتي في أعماله الفنية المتنوعة خاصة خزفياته الرائعة، وكان الزواج الذي فجر طاقات الإبداع وأصبحت عبقرية رائدة علي المستوي العالمي كانت تتجادل في لوحاتها مع الفن الحديث ومدارسه، أول فنانة عبرت عن «الأوبجكت» أي الصورة النحتية باستخدام الخامات البارزة عن مستوي اللوحة، ويتداخل مع هذه الحداثة في الإبداع، حس محلي دامغ في أشكاله البدائية الكف والأحجبة من الحلي وفرو الحيوان «تيجان» شعبية ومفردات بلغة السحر من الصعب الغور إلي أسرارها وفك طلاسمها إلا بمعرفة الفنانة التي استعانت بكتب السحر وتحدت مكنوناتها ومنزلقاتها المفاجئة ومزقت بعضها وقامت بلصقها علي لوحاتها متحدية قوة محتواها وقد هيمن علي اللوحة سحر خيالها، فهي مؤمنة إيمانا راسخا أن العمل عبادة وأنها الأقوي أمام أعتي الشياطين بإيمانها بالإنسانية والوطن والطبيعة. وتجد أن الفن يقوم علي مجموعة من الأساتذة يورثونه لتلاميذهم حتي يطوروه ويقدموه للإنسان ليسمو بروحه إلي الملأ الأعلي. ونعود إلي تعاويذ عفت ناجي التي كانت تضعها في مقدمة اللوحة مع خلفيات تجريدية ذات تقنيات حديثة ترقي إلي مستوي الندرة بين أعلام الفن، واستمر هذا التألق منذ النصف الثاني من الخمسينات وحتي وفاتها، لوحاتها تحوي ديناميكية الحياة والغموض لم تقف عند حدود الموروث تستفيد منه بقدر ما يخدم الفكرة المطلقة أو القيمة الشمولية للعمل.