قبل ثورة25 يناير بخمسة أيام ألتقيت بالفنان الكبيرمحمد حامد عويس ( 92 عاما ) في افتتاح معرض الفنان سمير المسيري في مركز الحرية للإبداع بالاسكندرية .. كان يستند علي كتف أحد تلامذته .. كان متماسكا نحيفا يبتسم للجميع ويتحدث معنا وأسرعنا لالتقاط الصور التذكارية معه وأنا اقول لنفسي لعلها آخر صور لنا معه .. بعدها اتصلت بي الفنانة والناقدة التشكيلية أمل نصر تخبرني بأن الأستاذ دخل العناية المركزة في مستشفي جامعة الاسكندرية .. شعرت بأنها الأيام الأخيرة للفنان الكبير.. كنت أود أن أعرف رأيه في ثورة 25 يناير2011 وهو الفنان الذي ولد فجر ثورة 19 و توج في لوحاته ثورة يوليو 52 . في مساء الجمعة الموافق 30 سبتمبر 2011 اتصلت بي ابنتي سحر تعزيني في وفاة محمد حامد عويس .. حزنت علي رحيل اخر فرسان الجيل الثالث من رواد الفن المصري المعاصر .. وتعجبت.. فلم يتصل بي أحد ليخبرني بذلك وسألت إبنتي : كيف عرفت برحيل عويس .. فأجابتني : من النت ( فيس بوك ) الذي كان مقطوعا وقتها عندي في مرسمي بالعجمي . في صباح السبت اتصلت بي من القاهرة الصديقة الناقدة التشكيلية فاطمة علي تعزيني في وفاة عويس ولعلها مشكورة قد اتصلت بكل فناني الاسكندرية تعزيهم فقد كان آستاذا لنا جميعا . في مساء الاحد بعد أذان المغرب تحاملت علي نفسي لم تكن صحتي علي ما يرام منذ أسبوع .. واتجهت من العجمي الي محطة الرمل حيث السرادق الكبير للعزاء بجامع القائد إبراهيم الذي يشهد كل جمعة مليونية الثورة مثل ميدان التحرير بالقاهرة. وحضر كل فناني الاسكندرية من جيلي والاجيال التالية .. كان جيلي كله هرما يعيش أيامه الاخيرة .. كل الذين عاصروا السنين الاولي لإنشاء كلية فنون الاسكندرية كطلبة والتي فيها كان حامد عويس احد اساتذتها المتألقين منذ افتتاحها عام 1957 كان السرادق صامتا والشيخ الذي يتلو القرآن الكريم في فترة راحة.. فسلمت علي الجميع بالأحضان.. الان نحن نسلم ونودع في نفس الوقت.. فقد اصبحنا اقرب للرحيل من أنفاسنا القادمة.. وبرحيلنا نحن جيل الستينات.. ينتهي العصر الذهبي للفنون الجملية في مصر الذي بدأ من جيل الرواد في اوائل القرن العشرين الي جيل الستينات .. والذي بدأ من القمة وانتهي الي الحضيض .. يتوسط هذا العصر الجميل جيل الوسط من العمالقه امثال حامد عويس وزملائه من جيل الأربعينات والخمسينات. لقاءات فارقة في عام 2000 التقيت بحامد عويس لقاء طويلا في تصوير الجزء الخاص به في الفيلم الذي كتبته وأخرجته لحساب مكتبة الاسكندرية بعنوان ( الريشه والقلم) ليعرض في حفل افتتاح المكتبة والتي سيكرم فيها ستة من مبدعي مصر هم: نجيب محفوظ، صلاح طاهر، محمد حامد عويس، حسين بيكار - مختار العطار - محمد حسين هجرس. في منزل عويس الذي رحب بنا .. دخلنا مرسمه ( بلكونة المنزل وقد أقفلها بالزجاج وحولها الي مرسم وهكذا كان مرسم بيكار ومراسم العديد من فناني مصر العظام ).. وقتها اتيح لي الاقتراب من عالم عويس .. صورنا لوحاته صغيرة الحجم في مرسم البلكونة.. واللوحات الكبيرة اخرجناها من وراء كراسي الصالون .. لم تكن له لوحات معلقة علي الحوائط .. وسألته عن الاسكتشات فأخبرني : ليس لدي اي اسكتشات .. ولا انفذ لوحات تحضيرية .. كانت مقتنياته الفنية عبارة عن تمثال تراكوتا لمعزة واولادها من ثماثيل محمود موسي .. ولوحة صغيرة بريشة سيف وانلي .. وكان علي خلاف دائم معهم .. ولكنه ظل يعتز بفنهم دائما .. صورنا حديثا له استغرق نصف ساعة .. اخذت منه للفيلم ثلات دقائق فقط قال فيها :( الحقيقة أن فني مرتبط بحياتي مع الناس .. وبحياة الناس انفسهم .. في كل الفنون لازم يكون فيه بطل .. ولازم يكون البطل انسان .. وفي فني أنا حددت البطل بتاعي أنه يكون في العلم والعمل .. يعني الناس الشغيلة والناس اللي بيكدوا والناس اللي بيعلموا والعلماء وغيرهم .. وفي الواقع الفنان ملوش عمر .. يعني مقدرش أقول كده أن من سن كذا يكون الفنان علي المعاش فيه .. الابداع يمتلك حياة الفنان .. يعني طول مانا بشتغل بأحس أني عايش ). في هذا اللقاء سلط عويس بقعة ضوء مهمة علي معالجته لخلفيات لوحاته لم تكن واضحة لي ولا للكثيرين.. وباح لي بالسر قال :( انظر الي خلفية لوحاتي .. ولتكن لوحة( حماة الحياة ) التي رسمتها عام 1967 بعد النكسة وأثناء حرب الاستنزاف والشعب يحمي الوطن .. الخلفية خلف البطل قسمتها الي اجزاء .. أعلي يمين اللوحه رسمت في فراغها القرية وهي الاساس للحياة وتحتها المصانع وتحت المصانع العمال ..وفي فراغ خلفية يسار اللوحة .. رسمت بالترتيب السد العالي وهو رمز التحدي والمستقبل والطاقة واسفله شجرة باسقة ونجيل اخضر يلعب فيه الجيل الجديد .. وفي الفراغ اسفل البطل الممسك بمدفعه.. رسمت جموع الشعب المصري بمختلف اطيافه من فلاحين وعمال وأفنديه وعجائز وشباب وأطفال .. رسمت الحب والزواج والعمل واللعب .. وهكذا تجدني قد وظفت كل فراغات اللوحة في مضمونها محافظا علي البناء المتين لها .. بحيث لا يصيبها الترهل او الازدحام . قبل ذلك بسنوات في عام 1997 صورت له مشهدا امام متحف محمود سعيد يتكلم فيه عن محمود سعيد بمناسبة مئويته التي انجزت فيها بالتعاون مع وزارة الثقافة مجلدا ضخما شاملا وفيلم فيديو عن الرائد الكبير محمود سعيد والذي تاثر وتعلم عنه حامد عويس الكثير وقال عنه في الفيلم : ( هو في الحقيقة الكلام عن أستاذنا الكبير محمود سعيد يعني ما فيش اثنين يختلفوا من ناحية علي أنه فنان وأستاذ ورائد كبير . أنا من رأيي أني لو حطيت محمود سعيد في القيمة الفنية بتاعته ..حقول أنه أحد ثلاثه رواد عملوا الفن المصري الحديث هو ومحمد ناجي وراغب عياد .. محمود سعيد يعني مع هذا الوضع المميز والحقيقي في الحركة الفنية الا أنه كان انسانا جدا وخصوصا نحو الفنانين الصغار .. وكان يرعاني ويحتضنني .. ويقتني من كل الفنانين الواعدين في الحقل الفني .. واهدي كل هذه الاعمال لمتحف كلية الفنون الجميلة بالاسكندرية). وفي راحة من التسجيل باح لي حامد عويس بسرآخر لم أكن أعرفه من قبل قال لي: (في الفترة المبكرة من حياتي لم أكن أضع ألوانا كثيرة في لوحاتي التي يغلب عليها اللون الواحد القاتم في كثير من الاحيان لأحقق قوة التعبير والدراما في عملي الفني .. وعندما شاهدها محمود سعيد قام وأحضر علبة ألوان فخمه ما كنت أقدر علي شرائها وقدمها لي قائلا: لون لوحاتك .. الألون روح اللوحة .. لم اتكلم .. كنت قادرا علي تلوين لوحاتي وعندي الوان كاملة في مرسمي المتواضع ..ولكن الفنان الكبير اعتقد اني لااملك مجموعة الوان كافية لذك اكتفي برسم لوحاتي بلون او اثنين .. وعلي كل حال أخذت علبة الالوان وانا فخور بها حتي الان.. وانجزت بها اهم اعمالي الفنية). الاقتراب الفارق الثالث لي مع حامد عويس كان مع الصديق الفنان الكبير والناقد والباحث في الفنون التشكيلية عز الدين نجيب عندما ذهبنا الي منزل حامد عويس في شارع جرين بمحرم بك في ربيع 2003 ليقوم عز الدين نجيب بإعداد المادة العلمية لكتابه عن حامد عويس الذي كلف بوضعه لسلسة كتب أفاق الفن التشكيلي التي يشرف عليها الفنان الكبير مصطفي عبد المعطي وتصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة .. وكلفت بتصوير كل أعمال حامد عويس التي سبق لي تصويرها من قبل اكثر من مرة وبوسائط مختلفة.. وفي هذه الزيارة باح لي عويس بسر ثالث لم أكن اعرفه من قبل.. ولا ادري لماذا يبوح لي حامد عويس بأسراره.. قال لي وكان عز الدين مشغولا بالكتابه في ناحية اخري من الحجرة ولا ادري هل سمعنا ام لا: (تعرف ياعصمت لوحة ابي هذه التي رسمتها له عام 1943 بعد وفاته وقبل ان اتخرج في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة بعام. . ورسمتها بتأثير من أستاذي احمد صبري.. عن صورة فوتوغرافية لابي كان يرتدي فيها الجلباب .. فحولتها الي بدلة.. ولا ادري لماذا فعلت ذلك .. وانا دائما افتخر بأنني فلاح ابن الريف المصري العظيم ببني سويف ) . لقد التقيت بالفنان الكبير الراحل بعشرات المرات منذ التحاقي بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية عام 1962 وحتي اخر مرة قابلته فيها قبل ثورة 25 يناير بخمسة ايام .. وكان لنا مواقف من التوافق ومن الاختلاف كثيرة .. ومواقف من القبول والرفض أكثر.. ولكنه يظل ذلك الاستاذ العظيم الذي علم اجيالا وتربع في أعلي المواقع القيادية وحصل علي أعلي الجوائز والاوسمة والتقدير .. فنان ولد فنه المتوهج مع ثورة يوليو 52 .. ورحلت روحه المتألقة مع ثورة يناير 2011 .. وكنت اود ان اسأله عنها وان يحكي لي مزيد من حكاياته واسراره التي لم يبحها لأحد غيري. كتب عز الدين نجيب في نهاية كتابه الهام والوحيد عن عويس يلخص رحلة هذا الفنان الكبير وما ناله من تكريم في حياته: ( بقدر ما أخلص الفنان عويس لفنه ووطنه ، فقد أعطاه هذا الوطن وهذا الفن الكثير ، بدءاً من أول منحة تعطي لفنان من الدوله للتفرغ للفن عام 1957 ، التي تركت بصماتها القوية علي تجربته الفنية في فترة كان أشد ما يكون إحتياجاً للتشجيع والمساندة ، ثم اختياره في العام التالي مباشرة أستاذاً للفن بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية مع إفتتاحها عام 57-58 وترشيحه للعديد من المشاركات الدولية الهامة مثل مسابقة جوجنهايم عام 1956 التي توج بحصوله علي جائزتها من بين خمسة فنانين مصريين تم ترشيحهم لها في ذلك العام وكذلك ترشيحه للإشتراك في بينالي فينيسيا الدولي بإيطاليا في دورة عام 1952 وكان لذلك أثره البالغ في بلورة رؤيته الفنية آنذاك كما أسلفنا ثم في دورة 1958 كما رشح للإشتراك في بينالي الإسكندرية أكثر من مرة وحصل من خلاله علي أكثر من جائزة وتقلد منصب عميد كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في سنوات 1977 - 1979 وأنتخب كأول نقيب لفرع نقابة الفنانين التشكيليين بالإسكندرية وأخيراً تم تتويج ذلك كله بمنحه جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2000 ثم جائزة مبارك لعام 2004 . وقد أستطاع بموهبته أن يؤسس لنفسه مكانة مرموقة في عدد من المحافل الدولية فاتخذت أعماله مكانها اللائق بها في بعض متاحف العالم الكبري مثل الأرميتاج وبوشكين في روسيا ، ودريسدن بألمانيا ، والفن المعاصر بأسبانيا ، فضلاً عن متاحف القاهرةوالإسكندرية . إن محمد حامد عويس يتجلي علي صعيد الحركة التشكيلية المصرية التي تبدو مسلوبة الهوية - بتبعيتها لرؤي الفن الغربي وابتعادها عن القضايا الإجتماعية والموضوعات القومية صوتاً فريداً ، وسوف يظل كذلك ، ما لم يلتقط منه الشعلة فنان أو جماعة ، تحاول أن تعيد مجد جماعة الفن الحديث ، قبل أن يتحول فنه إلي ماض يليق فقط بالمتاحف ) . حامد عويس فنان ولد وعاش ومات في احضان ثورات مصرية .. وفنان لمرحلة من أهم المراحل التي عاشها الشعب المصري في الفترة من منتصف القرن العشرين الي نهاية حقبة الستينيات مع رحيل زعيمها جمال عبد الناصر الذي عبر عنه في لوحة من اجمل لوحاته وعبر عن المرحلة كلها في مجمل أعماله ، رمزا لهذه المرحلة في لوحات متألقة يكتب عنها عزالدين نجيب في كتابه الهام زالتوجه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر يقول : ( في وهج شمس المشروع الثوري النهضوي تبلورت شخصيات فنية كانت في نهاية الأربعينات مشروعات فنانين ، أو نبتات غضة تؤمن بالتغير الاجتماعي والجمالي معا ، وكانت في الخمسينات تمارس إلتزامها نحو المجتمع بشيء من التشنج الفكري ، أو أحادية النظرة نحو علاقة الفن بالإلتزام . أما في الستينات فقد اكتملت الرؤية الاجتماعية لديهم متعانقة مع القيم الفنية دون أن تكون إحداهما عبئا علي الأخري .. وفي وهج ذلك المشروع تألقت لوحات حامد عويس- ذات البناء الصرحي في واقعيتها التي تتصاعد إلي ذري البطولة الملحمية للعامل والفلاح وقوي الشعب المتضامنة دفاعا عن مكاسبها وأحلامها. تخرج محمد حامد عويس في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1944 ، وبعدها بعامين تخرج في معهد التربية العالي للمعلمين ، وفي عام 1947 شارك في تأسيس جماعة الفن الحديث بالقاهرة ، واشتغل منذ هذا التاريخ وحتي عام 1956 كمدرس في التعليم العام حتي حصل علي اول منحة لفنان متفرغ من إدارة الفنون الجميلة عام 1957.. وفي العام التالي عين في كلية الفنون الجميلة الوليدة بالإسكندرية ، كمدرس لمادة التصوير الزيتي ثم أصبح رئيسا لقسم التصوير الزيتي بها عام 1975.. وبعدها بعامين شغل منصب عميد الكلية حتي عام 1979). بحر الإسكندرية وجد هذا الفنان القاهري التأسيس نفسه سكندريا حتي النخاع ، وعن هذه العلاقة الجميلة بين المبدع والمدينة يقول عويس: ( المناخ الفني الممتاز لمدينة الإسكندرية يعمل بصدق علي شحذ الطاقات الخلاقة عند الفنان واستخدامها بكفاءة أعلي .. ويساعد علي تنمية الإحساس ومقدرته علي الخلق والابداع والإبتكار .. ويزيد من ثقتة بإعتباره مفكرا. إن فتيات محمود سعيد المتفائلة وهي تتهادي علي الكورنيش ، في رقة ودلال محبب إلي قلوبنا .. والوان سيف وانلي التي استعادت شفافيتها وصفائها من بحر الإسكندرية .. والبناء المتماسك الذي تميزت به لوحات محمد ناجي ما هي إلا لمحة عطاء الإسكندرية لأبنائها المبدعين .. لقد أضافت الإسكندرية إلي رؤيتي الفنية شيئا جديدا أثر علي ابداعي وجعله يبدو مختلفا ، فقد ظهر علي أعمالي الإحساس باللانهائية والصفاء . تلك معطيات الإسكندرية وبيئتها المميزة ، وبحرها الممتد إلي بعيد ، مصطحبا معه خيال المبدعين ، إلي عالم جديد ، في فن التصوير ) . ويؤكد الفنان والناقد التشكيلي السوري أسعد عرابي في مقال له بجريدة الحياة اللندنية في 18 فبراير 2004 علي المرحلة السكندرية في فن حامد عويس : (دخلت عوالم مدينة الأسكندرية في لوحات حامد عويس لتتجاوز تنظيراته، ولدرجة أن اعمال عام 1952: »النيل في أسوان« ثم »جالسة« و»الفتاة والقطة« و»الخياطة« و»العراف« كلها تحمل تأثيرات سيف وانلي المتوسطية الحبورة ذات الألوان المشرقة ، ثم يتحول نهائياً إلي الغناء الفردوسي الحضري تماماً كما هي تكوينات مارجريت نخله من مثالها لوحتي : »حديقة شعبيه« و»محطة فيكتوريا« وبدأ صخب الحياة الإسكندرية يعبر إلي موضوعاته من صيادي السمك إلي المراكب والشمس التي تحرق الأجساد العارية وعالم الشواطئ والمقاهي. لقد خلع في إحدي لوحاته ملاءة بنت بحري - المعروفة لدي محمود سعيد - ليضع في يدها كتاباً للدراسة ، محافظاً علي شاطئ محمود سعيد وأنفاس ثلاثياته : »بنات بحري« بغنجهن المتوسطي بالملاية اللف، لعل الأهم من كل ذلك أن لغته »التكعيبية« استعادت الضوء من طريق محمود سعيد واستعادت أصولها الفرعونية . وللأسف فقد شغلته عمادة الكليه فتوقف عن الإنتاج عشر سنوات ثم عاد مع 1979 يستنفد موضوعاته الأثيرة : من الحصاد إلي الصيادين ومن العمال إلي شاطئ الإسكندرية حتي منحته الدولة الجائزة التقديرية عن الفنون عام 2000) . وهذا يؤكد انتماء ابن مدينة بني سويف الي الإسكندرية ، علاقتة برائد الهوية المصرية ، الفنان السكندري الكبير محمود سعيد ، وقد تأثر عويس بأسلوب محمود سعيد الفني ذلك التأثير الذي وضح في تشكيله لبناء الصورة ومعالجته للفورم الإنساني ونصوع وصراحة بالتته اللونية .. وكذلك اختياره لموضوعات البيئة في بعض لوحاته مثل تأميم القناة وعازفة البيانو وبائع السمك في الميناء الشرقي والملايا اللف ولوحات الوجه الإنساني إلا أن أعمال حامد عويس ، وخاصة الأخيرة ذات الجو الملحمي تنم عن شخصية فنية مستقلة ، تمزج الواقع بالخيال من منطلق فكري يمزج الإجتماعي بالسياسي ، كما فعل في لوحات معبرة مثل - البترول ذ الحرب ذ أمريكا ذ السد العالي وغيرها . عويس والبعد الاجتماعي وفي دراسة خاصة عن الفنان نشرت بمجلة إبداع القاهرية عام 1990 ، كتب عزالدين نجيب باعتباره أكثر المتخصصين في فن عويس ومتفق معه في أيديولوجيته وتوجهاته السياسية والاجتماعية .. يوضح ذلك البعد السياسي والاجتماعي في أعمال عويس فيقول : قد ذاعت شهرة حامد عويس في الخمسينات والستينات كفنان إشتراكي ملتزم بقضايا الكفاح الطبقي والتحرر الوطني وزيادة الإنتاج .. يواكب بفنه الكفاح الشعبي والتحولات المصيرية لبلده .. بدءا من أعماله الأولي التي عبر من خلالها عن المرأة الكادحة خلف ماكينات التريكو والخياطة ، إلي اعماله في مرحلة النضج عن عمال المصانع وعمال الدريسة في ريف مصر ، وإذا تجاوزنا أعماله في الأربعينيات التي يغلب عليها الطابع الرومانسي المليودرامي فإن مرحلته الواقعية الرصينة بدأت عام 1952 بعد إشتراكه لأول مرة في بينالي فينيسيا الدولي ممثلا لمصر .. وقد استطاع الفنان الكبير أن يبلور أسلوبا فنيا كما في لوحة الأنفوشي ، حيث يبدو الصياد يعرض حصيلة ما أصطاده علي سيدة بالملايا اللف وخلفهم مراكب الصيد هذا الأسلوب الفني يمثل التيار الفكري الواقعي .. أخذا أشكاله من واقع الحياة اليومية ، ليوظفها جماليا ، وتشكيليا ، لخدمة أهداف رمزية وتعبيرية ، مواكبا لأهم الانجازات ، والانتصارات ، التي حققها الشعب المصري في قضاياه القومية . كما في لوحة تأميم قناة السويس ، حيث تبدو صلابة الشعب المصري ممثلا في ثلاثة من أولاد البلد ، ممسكين بالعصي بديلا عن السلاح وخلفهم تبدو قناة السويس التي يحمونها بأرواحهم ) . تقدير عالمي نالت أعمال عويس اهتمام النقاد والدارسين ، ليس علي المستوي المصري فقط ، ولكن علي المستوي العالمي ، فقد كتب عنه الناقد الأسباني الكبير كارلوس اربان في مقدمة الكتيب الذي نشرته وزارة الاستعلام والسياحة في أسبانيا عام 1968 عن الفنان عويس : ( إن التصوير الذي ينبع من صميم العروبة والإسلام ، والذي يقدمه لنا محمد حامد عويس يمثل صوغا حيا لمشاكل تعاني منها البشرية جمعاء .. ألقي عليها الضوء في لحظة معينة وفي مكان معين ، وخلاصة القول ، فهو تصوير عالمي يقدر عالمية مشاكل النمو والحق المشروع في الدفاع عن النفس التي يواجهها الشعب المصري ) . ولتأكيد الحق العالمي في أعمال عويس ذات المضامين المحلية ، ما كتبه النحات الألماني فرنس كريمر في مقدمته لكتاب عن محمد حامد عويس أصدرته دار نشر الفنون بمدينة درسن الألمانية عام 1961 حيث يقول :( إن فن حامد عويس بجانب ما يحمله من صفات إنسانية عالمية ، إلا إنك حين تري لوحاته تؤمن أن صانعها لابد وأن يكون من مصر وذلك لما تزخر به هذه الأعمال من سمات شعب مصر وأمانيه) إن هذه الاستشهادات عن إبداع عويس لمصريين وأجانب ، تؤكد أن الفن الأصيل ، والمغرق في المحلية ، ومشاكل الوطن ، ينطلق من الذاتية المحلية إلي آفاق العالمية ، تعني الجنس البشري ككل ، ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي نالت به أعمال عويس تقدير المحافل الفنية الغربية ، والتي أصدرت عن فنه العديد من الكتب ، وهو تكريم لم ينله الفنان في بلده التي ظل يعبر عن قضاياها طوال عمره كله .. وأخيرا يحصل عام 2001 علي جائزة الدولة التقديرية والتي رشح لها لسنوات سابقة . البحث الدائم لقد إنشغل حامد عويس منذ وقت مبكر في محاولات البحث عن شكل جديد لفنه .. فنري في لوحة السيدة والقطة التي رسمها في مراحله الأولي يستفيد من المدارس الفنية الحديثة ، كالتكعيبية ، والتعبيرية ، والحوشية ، وغيرها وهذا ما نراه ايضا في معالجته للوحة ماكينة الخياطة ، فقد قسم وجه السيدة الجالسة أمام ماكينة الخياطة إلي نصفين احدهم مضاء بأمل واه ونصفه الاخر مظلم بقسوة الحياة التي تتمثل في وضع السيدة المحصور بين السقف والقفص أسفل الصورة .. وكأن الدنيا قد ضاقت بها وانطبقت علي رأسها .. وسيعمق الفنان معالجته هذه التي ستنضج مع لوحات الفترة المتأخرة ، خاصة عقب هزيمة 1967 حيث واصل الفنان معالجاته هذه التي ستنضج مع لوحات الفترة المتأخرة حيث واصل الفنان تضمين أعماله ، ذلك المحتوي الإجتماعي والسياسي الذي يبعث روح المقاومة ، ويتجاوز الهزيمة .. وتمجيد الروح الإيجابية الكامنة في الشعب متمثلا في لوحته عن الزعيم جمال عبد الناصر وقد التف حوله الشعب العربي . وفي الدراسة القيمة التي كتبها الفنان د. مصطفي عبد المعطي في كتالوج المعرض التكريمي للفنان عويس المصاحب لبينالي الإسكندرية في دورته التاسعة عشرة عام 1997 يكتب عن محمد حامد عويس قائلا :( نجد أن عبد الناصر يتصدر الصورة يخطب في جمع من المواطنين عددهم كبير يناسب الحدث لكن أهم ما في هذا العمل أن الفنان عويس جمع في ملامح هذه الجموع الغفيرة كل الملامح التي يمكن أن تصادفها في الشارع المصري وفي الحقل وفي المصنع ، وفي الجامعة بل في وجوه ربات البيوت ). وهذا حقيقي فالفنان قد رسم وجوه الناس المحيطة به وكما قال لي في احدي المرات: (لقد رسمت مائة وجه) زوجتي وأصحابي وجيراني والعاملين في محيط حياتي.. فالشعب هو الأصل في كل لوحاتي والإنسان المصري هو بطلي أولا وأخيرا ) . وقد أوضح هذا المفهوم د. مصطفي عبد المعطي حين شرح بدايات عويس الفنية فيقول :( نهل من أساتذة كبار وفنانين عمالقة كل أساليب الفن وأسرار تقنياته الأكاديمية ، مؤمنا بأن الوقوف علي مفردات لغة التصوير ، تسهل له كيف يصنع قضاياه الفكرية في قوالب فنية عظيمة .. لكننا هنا نري بوضوح أن الفنان عويس لم يستطع أن يتعايش فكريا مع الرؤي التأثيرية والطبيعية والتي كانت تؤكدها التعاليم الأكاديمية بمدرسة الفنون الجميلة في ذلك الوقت .. وتخرج بتعاليم أكاديمية غاية في الصرامة .. لكنه لم ينتم إلي هذه التعاليم فكريا .. فهي بالنسبة له نؤكد رؤي أوروبية .. فالموضوع إما منظرا طبيعيا.. او جسدا عاريا.. أو طبيعة صامتة .. أما الفنان عويس فقد آمن منذ البداية أن الفن لابد وأن يبقي قضية .. وليس هناك أسمي من قضية الإنسان ). ورغم تأثر الفنان عويس بالفنان الرائد محمود سعيد من سعيد من حيث طريقة بناء اللوحة ، وتشكيل فورم عناصرها ، إلا أن لحامد عويس منهجإ فكريا وجماليا آخر ، يناقض أعمال محمود سعيد ويوضح مصطفي عبد المعطي في نفس دراسته التي نقتبس منها هذه السطور.. ( للفنان عويس رأي في بنات بحري للفنان العظيم محمود سعيد.. بنت بحري في الملاءة اللف تتمخطر في دلال.. وعن هذه الصورة رسم عويس علي نهجها لوحة لبنت بحري وقد خلعت عن نفسها هذه الملاءة وامسكت بيدها كتابا مندفعة في حركة واضحة إلي الجامعة، نحو العلم والمعرفة بينما نري في خلفية الصورة بنات بحري بملاءاتهم اللف التقليدية كالتي رسمها محمود سعيد وكأنها أصبحت شيئا من الماضي). فالإبداع عند حامد عويس فكر يتشكل بالقيم الجمالية في بناء اللوحة الفنية التي لابد وأن تحتوي إنسانا ما .. يطرح قضية تمس الواقع المعاش للفنان والذي يستمد موضوعات أعماله دون أن يقع في الدعائية أو الخطابية متمشيا مع التطور الطبيعي للحياة والمتغيرات العامة . ويحدد الناقد الفني الروسي أناتولي بوجدانوف في كتابه - الفنون التشكيلية في جمهورية مصر العربية - والذي ترجمه د.أشرف الصباغ وقدمه في سلسلة ( أفاق الفن التشكيلي ) التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة - يناير 2000 - ( يشعر عويس بضيق المساحة في اللوحة ، فيسعي إلي توسيع حدود المجال المحدد بالإطار والمخصص للرسم ، ويجري ذلك علي حساب ز قطع ز التعبير عند حواف الحواف .. وبالتالي تذكرنا اللوحة آنئذ بلقطة سنيمائية متوقفة ، وكثيرا ما يمر خط القطع علي القامات البشرية القريبة جدا من الأماكن الأمامية في مقدمة اللوحة ومن ثم تبدأ الأحداث تتقلب أمام أعيننا وراء حدود اللوحة ، مولدة الخيال بالتسجيل المفاجيء للمرء بكل ما فيه من واقعية الحياة ، وفي الوقت نفسه فإن الدراسة الدقيقة للبناء العام والتوزيع الماهر للكتل الأساسية ، والبقع الضوئية ، تساعد علي تفادي الوقوع في عدم الإكتمال ، ومن هنا تحديدا تمتلك تكوينات عويس الفنية كافة خصوصيات العمل الفني التام والضخم من أساسه).. ويؤكد: (إنني لم أر فناناً يتحدث بحب وتفاؤل عن بلده كما أري ذلك بوضوح في أعمال الفنان محمد عويس) .