ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أُصيب ببكاء هستيري في حضرة القائد إبراهيم.. الروائي سعيد سالم:
سمعت البحر يهتف مطالبا بإسقاط النظام
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 05 - 2011


في رواياتي حرَّضت علي الثورة.. لكنني لم أتنبأ بها
انتظرت اعتقالي.. وأوصيت زوجتي بإبلاغ القراء لو وقعت الواقعة!
ثورة 25 يناير أفقدتني الرغبة في الگتابة.. فأصبحت موثقا!
إعدام مشعلي الفتنة الطائفية فورًا سيوقف هذه المهزلة
أعترف بأن "الشيء الآخر" أسوأ أعمالي
أيام نجيب محفوظ التي طالما تغنيت بها في مقالاتي وحواراتي.. تمثل أجمل وأحلي أيام عمري
بوعي الكاتب المتجاوز حدود المكان، واستشراف المبدع المتجاوز تخوم الزمان.. سار الروائي السكندري سعيد سالم علي طريق الإبداع، ناهلا من عذب سابقيه في مصر والعالم، مستظلا بفيء قامات إبداعية وارفة كنجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ويوسف عز الدين عيسي، وغيرهم من بناة التاريخ الأدبي المصري وصانعيه.. لكنه طوال الوقت كان حريصا علي رسم لوحته الخاصة، الاستثنائية، غير مكتفٍ بمنجز الأدب المصري، فاتحا كوة سحرية علي الأدب العالمي الحديث، كما يقول الكاتب الكبير أنيس منصور، في مقال نشر منذ أيام، تحدث فيه عن سعيد سالم، الأديب الذي فاجأه؛ لأنه يلاحق الأدب الحديث جدا في فرنسا.. مرتكزا علي إحساس عميق بمعاني المكان والزمان والوجود والحياة والموت.
وفي هذا العدد، تحاور "أخبار الأدب" سعيد سالم.. الذي عاش أحداث الثورة في حضرة القائد إبراهيم بالإسكندرية، وأصيب ببكاء هستيري عندما رأي الجماهير تحتشد، نافضة عن نفسها إرثا ثقيلا من الذل والهوان والانكسار، فنسي وهن الشيب، وتجاوز أحراش الشيخوخة، رافعا قبضته في الهواء، سائرا بين الشباب الهادر، وقبل أن يتسلل التعب إلي روحه، سمع البحر يهتف معه مطالبا بإسقاط النظام!
وهنا.. يستعيد سالم ذاكرة الثورة، مؤكدا أنها أفقدته الرغبة في الكتابة الإبداعية، رافعا صوته للمطالبة بإعدام مشعلي الفتنة الطائفية.. متحدثا عن علاقته برموز الفكر والأدب المصريين، خارجا بنفسه من "طابور" الذين تنبأت أعمالهم بالثورة، مكتفيا بأن أعماله حرضت عليها.. لكنها لم تتنبأ بها.. ويتنقل سالم في هذا الحوار، بخفة الحرف النابض، وصخب الإبداع الكاشف، من قضية حياتية، إلي إشكالية إبداعية، تغزل أمواج الثورة، بهدير الإبداع.. فإلي الحوار.
سألته في البداية عن رأيه في "الهوجة" التي سادت بين كثير من الكتاب، وهو نفسه من بينهم، الذين يدَّعون أن أعمالهم الأدبية الأخيرة قد تنبأت بالثورة، فقال: هناك فعلا بعض الروائيين والقصاصين، كبارًا وشبابًا، تنبأت أعمالهم بالثورة، كما أن هناك مَنْ يبالغون في ادعائهم، أما أنا فلم أدّعِ أبدًا أنني تنبأت بحدوث الثورة بهذا الشكل، بل إنني أصبت ببكاء هستيري هو مزيج من شكر الله وفرحة عارمة وعدم تصديق عند نزولي للمظاهرة في ميدان القائد إبراهيم لأول مرة، ورؤيتي للآلاف من جماهير الشعب الثائرة التي سدت الطريق من شاطئ البحر حتي الشوارع الرئيسة والفرعية بالإسكندرية، ولا أبالغ إذا قلت لك إنني سمعت البحر وهو يردد معنا الهتاف بإسقاط النظام.. وما زلت، حتي هذه اللحظة، لا أصدق أن الثورة التي لم أتنبأ بها قد قامت ونجحت! آخر زادي
قلت له: ما الذي أدهشك في الثورة ودفعك لعدم التصديق حتي الآن رغم مرور نحو أربعة أشهر عليها؟
بعد لحظة صمت لاسترجاع المشهد الاستثنائي، قال: لم يبلغ بي التفاؤل يومًا أن الثورة ستحدث بهذه القوة والعظمة والرقي والتحضر، وحتي إن تصورت حدوثها، فإنني لم أكن أصدق أنني سأعاصرها وأعايشها وأنا أقترب من السبعين، وإنما كنت أراها في الخيال حلمًا عزيز المنال، تحقق بدماء شهدائنا من الشباب الذين قادوا الجماهير إلي ميادين الثورة بأقاليم مصر كافة، وليس بميدان التحرير أو ميدان القائد إبراهيم وحدهما.. إن أحدًا لا يتصور أنني ذبت في المظاهرة وأنا أصرخ مع الشباب رافعًا قبضتي في الهواء مرددًا معهم هتافاتهم، ولم أشعر بنفسي إلا في الإبراهيمية حين أحسست أن ظهري قد سقط مني، فاتجهت إلي أول "تاكسي" ليعيدني إلي المنزل منخلع الظهر، منشرح الصدر، مفجوعًا - من شدة الفرحة - إلي الطعام، وكأنني ، كما يقولون- "آكل في آخر زادي"!
تحريض غير مباشر
قلت: ولكن ألا تري أن أعمالك مهدت لمثل هذه الثورة.. حتي لو لم تكن تتخيل حدوثها بالطريقة التي تمت بها؟
وبعد تنهيدة قصيرة بددت ما بدا علي وجهه من تجهم ممزوج بالزهو، قال: قامت أعمالي الروائية الثلاثة الأخيرة، بصفة خاصة، علي طرح أشكال الفساد والانهيار الشامل لكل أحوال البلاد، وعجز الشعب عن مواجهة دنس السلطة الطاغية المستبدة، ورضوخه لسطوتها وجبروتها وقهرها، واستسلامه لليأس والتخاذل وأحلام اليقظة، والاكتفاء بالدعاء إلي الله.. هذا ما أدعيه، وهو تقريبًا ما قاله النقاد في دراساتهم المنشورة عن هذه الأعمال. لقد عبَّرت عن ذلك بأشكال فنية تُعدُّ تحريضًا غير مباشر علي الثورة في "الشيء الآخر" عام 2004 و"الحب والزمن" عام 2007 وأخيرًا "المقلب"عام 2009. وقد أوضح الدكتور حامد أبو أحمد في دراسته عن "الشيء الآخر"، وكذلك في حوار له مؤخرا بمجلة "الإذاعة والتلفزيون"، وجريدة "الأهرام"، هذا الاتجاه بقوله: "أود أن أقول إن الثورة كانت لها تجليات سابقة عليها، وتجليات جاءت أثناءها، وتجليات بعدها، فهناك كثير من الكتاب والشعراء والمسرحيين تنبأوا في أعمالهم بأن الثورة آتية لا محالة، ومنهم علي سبيل المثال المرحوم (إدريس علي) في رواية "تحت خط الفقر"، ورواية أخري حول هذا الموضوع، وكانت تتناول الأوضاع في ليبيا ولكنها صودرت، وهناك أيضا (سعيد سالم) في روايته "الشيء الآخر" حيث أشار إلي أن هناك عصابة تحكم مصر مكونة من20 أو40 شخصا، وتحدث عن العجز المطلق لدي الناس تجاه هذه العصابة.
أسوأ أعمالي حظا
كان سعيد سالم يتحدث بطلاقة، قبل أن يُطرق قليلا وكأنه يتذكر شيئا كان قد نسيه، ثم يضيف بلهجة أقرب إلي التهكم:
"الشيء الآخر".. إنها أسوأ رواياتي حظا في التوزيع، رغم أهميتها النسبية مقارنة بسائر أعمالي الروائية.. فقد توفي ناشرها بعد صدورها بفترة قليلة، وقد حزنت عليه كثيرا لأنه كان رجلا ذا خلق رفيع، هو الدكتور رؤوف سلامة موسي، نجل المفكر الكبير سلامة موسي، وبوفاته لم أحصل علي أي مقابل مادي للرواية، باستثناء 200 جنيه حصلت عليها في الأيام الأولي لصدور الرواية كمبلغ تحت الحساب.. ولم أحصل من الورثة سوي علي عدد قليل من نسخ الرواية، وقمت بإهداء ما حصلت عليه إلي الأصدقاء بسخاء لم يعهده أحد بي؛ فأنا أعترف ببخلي الشديد في هذا النوع من الإنفاق! وقد فكرت في إعادة إصدار الرواية لتتاح للقراء، وخاطبت دار نهضة مصر لتتولي هذا الأمر.. لكنها لم ترد عليّ حتي الآن.
حديث مقلب الزبالة!
قلت له: وماذا عن "المقلب"؟ ألم تحرض فيها علي الثورة؟
فرد بحماس: حرّضت بالتأكيد، ولكن بتكنيك مختلف؛ فقد جعلت مقلب الزبالة يتكلم، كما عبرت عن بعض المشاهد بأسلوب كتابة السيناريو والحوار للوسائط المرئية، بل أستطيع أن أدعي أنني أسير علي هذا النهج التحريضي منذ زمن طويل، ويؤكد الدكتور السعيد الورقي علي ذلك بقوله: "القضية التي انشغل بها النص في رواية "المقلب"، هي القضية نفسها التي شكلت منذ الثمانينيات رؤية وموقف سعيد سالم: فساد الواقع والحياة والوجود، والحاجة إلي التغيير من خلال طرح الحلول، ووقوف سلطة الأشرار في وجه المثاليين أصحاب الحلم بالتغيير.
وإذا كان النص في الروايات السابقة للكاتب يتقنع بالرمز ودلالاته، فإنه هنا يصرح مباشرة بالموقف، ويستخدم الرمز للأبعاد الوجودية التي تقدم شيئا من التفلسف في الموقف؛ لهذا نجد النص لم يتحرج من أن يعدد وجوه الفساد في قوله: "هناك نغمة إحباط
تسود المجتمع. الناس يائسة من كل شيء. حكومات فاشلة. فساد يستشري في أجهزة الدولة. غلاء شديد. حريات مكبوتة. لا كرامة لمواطن في قسم شرطة أو في مستشفي حكومي. خيوط الثقة تقطعت بين الجميع بحيث صار كلٌّ يتوقع الشر من الآخر أو يتربص به. يحاول استغلاله لتحقيق منفعته العاجلة".
سعيد سالم التايواني!
سألته عن قصة سعيد سالم التايواني، كما يطلق عليه، فقال بتحفز ممزوج بضيق وإحباط:
هذا الرجل، الذي يطابق اسمه اسمي بمحض صدفة سيئة، ينغص عليَّ حياتي الأدبية فوق ما تتصور، وقد أطلق عليه صديقي الكاتب المصري محمد عبد المجيد الذي يعيش في النرويج ويرأس تحرير مجلة "طائر الشمال"، اسم: سعيد سالم التايواني.. فهو يكتب في موقع "اليوم السابع" كلاما يمجد فيه النظام السابق ورئيسه ورموزه الفاسدين، وقد علمت مؤخرا أنه شقيق رجل الأعمال الهارب حسين سالم، المطلوب للمحاكمة في أخطر قضايا الفساد وعلي رأسها جريمة تصدير الغاز لإسرائيل "برخص التراب"، وتقاضي عمولات خرافية من إسرائيل هو وبعض رؤوس الفساد في النظام السابق.. ولطالما رجوت خالد صلاح رئيس تحرير "اليوم السابع"، من خلال عشرات الرسائل الإلكترونية، أن يطلب من هذا الرجل كتابة اسمه ثلاثيا، أو أن ينشر صورته مع مقاله حتي يفرق الناس بيني وبينه، وأخبرته أن بعض أهلي وأصدقائي قد بدءوا يشكون في مصداقيتي بسببه، وفي النهاية لم أجد حلا للتمييز بيني وبينه، سوي أن أضيف ، مضطرا ، إلي اسمي في كل مكاتباتي لقب "الروائي السكندري"، رغم رفضي التام لهذه التسمية الإقليمية السخيفة للأدباء، التي لا توجد إلا في مصر.
الله يرحم الأدب!
كان الحديث قد بدأ يأخذنا بعيدا عن الأدب، وعن الثورة، فأردت أن أعود به إلي هذه المنطقة المتأرجة مرة أخري، فسألته: هل لديك إيمان راسخ بأن الأدب قد ساهم إيجابيا في قيام الثورة؟
اعتدل في جلسته، وكأن السؤال باغته، أو أعاده إلي منطقة كان قد تركها منذ قليل
مضطرا، فازداد حنينه إليها، وقال ضاغطا حروف كلماته: سؤالك هذا يذكرني بمقولة إبراهيم عيسي الشهيرة في جريدة "الدستور" عام 2005، أو ربما في جريدة "صوت الأمة" علي ما أذكر.. قال بالنص: "إن الأدب قد مات.. الله يرحمه".. وتمادي في التعبير عن يأسه قائلا: "لم يعد للأدب أي دور، ولم تعد للأدباء أي أهمية، سواء لدي المواطنين في المجتمع، أو القراء في الحياة، أو حتي الأجهزة التي تخشي تأثير المثقفين"! لكنه لم يلبث أن تراجع أمام تفجر طاقات المقاومة عند الكتاب قائلا: "أشعر الآن بسعادة حقيقية، فندائي اللاهث علي الأدباء أن يستيقظوا لقضايا وطنهم لم يذهب سدي... ها هم الأدباء قد عادوا بمظاهراتهم ضد الاستبداد والتوريث والتمديد وأمسيات وندوات وتجمعات وقصص وروايات.. أحمد فؤاد نجم الرائع ومعه زينة شباب ورجال الأدب المصري الذين يطبطبون علي مصر وينفخون فيها قبلة الحياة.. محمد المخزنجي، صنع الله إبراهيم، إبراهيم عبد المجيد، سعيد سالم، علاء الأسواني، أحمد الخميسي، حسام فخر، رضا البهات، يوسف أبو رية، جار النبي الحلو، وآخرون..... وبعد تنهيدة طويلة، قال سعيد سالم مجيبا علي السؤال بحسم: نعم. إيماني راسخ بدور الأدب والأدباء، وإلا فلماذا أعيش؟!
جلطة "الحب والزمن"
قلت له: كادت روايتك الأخيرة "الحب والزمن" تودي بحياتك.. فخلال كتابتها طاردتك أمراض المرارة والحسرة، من هول ما رأيت واكتشفت من مظاهر الفساد الظاهر والمتواري، فماذا تقول عنها وعن تلك الحالة التي دخلت فيها أثناء كتابتها؟
بصوت استعاد هدوئه ورصانته، قال: "الحب والزمن" هي الرواية رقم 14 ضمن قائمة رواياتي، وقد استمرت عملية التحضير لها وكتابتها لمدة عامين، تجرعت خلالهما المرارة والحسرة وأنا أنقب في كل مكان، سواء مطبوع أو إلكتروني، بحثا عن معالم وعناصر الفساد في مصر؛ لأكتشف ما يقشعر له البدن، ويرفع الضغط، و"يفقع المرارة".. حتي أصبت بجلطة حادة في القلب، لم أكد أفيق منها حتي أصبت بسرطان في البروستاتا شفيت منه فيما بعد - بحمد الله، ولكنني بقيت منعزلا عن الحياة الأدبية عدة أعوام، وكنت علي يقين أن ما عرفته عن كم وكيف الفساد في البلد هو المسئول عن هذه الأمراض الخطيرة التي كادت تفتك بي.. والرواية كانت بمثابة إنذار بنكسة ثانية أسوأ بكثير من نكسة 67 تطيح بمصر وتدمرها تماما وتعود بها إلي الوراء سنين طويلة، مقدما أدلتي علي ذلك، من خلال قصة رجل يقوم بمغامرة خطيرة غير مسبوقة؛ لأنه يرغب في تغيير حياته من جذورها بعد أن تجمدت وفسدت وتعفنت، وإلي جانب الرغبة فإنه يمتلك الإرادة علي إحداث هذا التغيير.
طائرة لحقيبة الهانم!
سألته: هل هناك وقائع معينة أحزنتك، أو أغضبتك، أكثر من غيرها خلال رصدك لمظاهر الفساد بهذه الرواية؟
فقال: وقائع لا حصر لها وكلها قاتلة، لكنني لن أنسي ما حييت تلك الواقعة التي عبرت عن كيفية إدارة هؤلاء المجرمين لأموالنا وممتلكاتنا والتعامل معها كما لو كانت مصر "تكية" يحق لهم استنزافها دون واعز من ضمير أو لحظة خوف من الله.. ومن هذه الوقائع، ما فعله المدعو "أمير رياض" رئيس مجلس إدارة شركة خدمات البترول الجوية، حيث أمر بإعداد طائرة تسع خمسين فردا، تجهز بأحدث أطقم "السرفيس" المستوردة لزوم السادة الركاب، ودفعت تكلفتها من المال العام المتروك في يده، كما لو كان ملكية خاصة، وذلك لنقل وزير البترول وأسرته، ونائب رئيس مجلس الوزراء وأسرته، إلي مرسي مطروح لقضاء المصيف هناك، والمثير للدهشة أن زوجة الوزير نسيت حقيبتها، وعلي الفور أصدر رياض أوامره بإقلاع طائرة أخري سعة اثنين وخمسين راكبا لحمل حقيبة الهانم فقط، وتوصيلها إلي مرسي مطروح، وقد أقلعت الطائرتان في اليوم نفسه خاليتين! وربما يتساءل بعض القراء عن كيفية حصولي علي هذه المعلومات، رغم أنها وغيرها كثير كانت، ولا تزال، متوافرة لمن يبحث عنها.. فقد حصلت عليها من الملف الذي رصدته المجموعة البحثية للحركة المصرية من أجل التغيير"كفاية" عن حالة الفساد الحاكم في مصر خلال ربع القرن الماضي، وقد أشرف علي هذا الملف المفكر العظيم الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، وكنت قد ذكرت في بداية الرواية أنني سأعرض علي القارئ من خلال نسيج السرد والحوار والمونولوج الداخلي والرسائل نماذج مرقمة لأنواع الفساد وملابساته وأبطاله ورموزه (كلهم في السجن الآن بلا استثناء) ، وقد جاءت هذه الواقعة تحت عنوان: الملف رقم 8.
لا أمني ولا مادي!
قلت له: هذه الرواية نشرت مسلسلة في جريدة "الدستور" حين كان يرأس تحريرها إبراهيم عيسي.. فلماذا لم تنشر في كتاب حتي الآن؟
قال: السبب الأول أن ابراهيم عيسي، الصحفي الوحيد في مصر الذي كان يجرؤ علي نشر هذه الرواية في ذلك الوقت، اتفق مع إحدي دور النشر علي إصدارها في كتاب بعد الانتهاء من نشر الحلقات
في الجريدة، وقد تم ذلك الاتفاق خلال وجودي بالمستشفي، وأبلغ به إبني علي الإيميل.. ولكنني ظللت أتصل بعد خروجي بالروائي المشرف علي هذه الدار، وكنت أسأله عن سبب التأخير، هل هو مادي أم أمني، فينفي السببين، مما جعلني في النهاية أنتهز الفرصة مدفوعا بالسبب الثاني - فأبعث إليه طالبا إلغاء هذا الاتفاق.
اعتراف صريح بالخوف
سألته: ماذا تقصد بالسبب الثاني الذي دفعك إلي طلب إلغاء الاتفاق؟
أطرق قليلا، قبل أن يقول بصوت خفيض: أقول لك الحق ودون خجل إنني شعرت بخوف شديد مع ازدياد جرعات البطش والقهر والسجن والتعذيب من قبل السلطة بشكل هستيري أقرب إلي الجنون، خاصة تجاه الكتاب والمفكرين والصحفيين الأحرار، دون مراعاة لأعمارهم أو لقيمتهم الفكرية، مما جعلني أستجيب لإلحاح زوجتي بعدم نشر الكتاب، خاصة بعد مرور نشر الحلقات دون أن تقترب مني أجهزة الأمن، فضلا عن أنني لست كاتبا صحفيا مشهورا حتي تهتم بي وسائل الإعلام الاهتمام الكافي لو تم القبض عليَّ، ورغم ذلك فقد تركت لزوجتي كشفا بأسماء أصدقائي من القراء والصحفيين وأرقام تليفوناتهم،
حتي تبلغهم لو وقعت الواقعة.. والحمد لله فقد انزاحت الغمة واتفقت منذ أيام قليلة مع عادل عبد الصمد رئيس تحرير الهلال علي نشرها ضمن سلسلة روايات الهلال، نظرا لشعبية هذه السلسلة العريقة ورواجها ورخص ثمنها، حتي يتمكن من قراءتها أكبر عدد ممكن من الناس.
الالتفاف حول
"عاليها واطيها"
قلت له مداعبا: إن عدم نشر الرواية في كتاب كان استجابة لإلحاح زوجتك.. فهل دائما تعرض عليها أعمالك؟ وما موقف أولادك من كتاباتك.. خاصة في ظل انشغالك بها عنهم؟
فقال بطريقة من فهم الدعابة وما وراءها: أنت تحاول أن تجرني للحديث عن أسرتي؛ حتي يعرف القراء ما تعرفه أنت عنهم.. فقد كتبت في أوائل الثمانينيات تحقيقا من داخل بيتي نشر في جريدة "الأخبار"، وأثق في أنك لم تنسَ هذا الأمر.. لكنني سأتظاهر بعدم الانتباه لذلك، وسأقول لك إنني تزوجت عن حب، وقد جمع بيننا التخصص النادر نفسه في الهندسة الكيميائية، ونربي أولادنا في مناخ من التعاطف والمودة والمشاركة، ولذلك فقد شبوا أسوياء ناجحين، والحق أن الفضل الأول في كل ما حققته أنا وأولادي في حياتنا يرجع إلي هذه السيدة المحبة المخلصة، التي تحملت عني كل الأعباء الاجتماعية والعائلية، وقد قال لها العبقري الراحل يوسف إدريس ذات يوم: "أنتِ بطلة لأنكِ نجحتِ في الحياة مع واحد ابن ... مجنون زي سعيد سالم".. وبالفعل فقد ضيعت علي نفسي وأسرتي فرصا ذهبية سواء للحصول علي المال الوفير بالعمل في الخارج، أو حتي لاستكمال ما أنجزته من أبحاث للحصول علي الدكتوراه في الهندسة الكيميائية التي توقفت عن اتمامها بسبب القصص والروايات، مكتفيا بالماجستير.. وقد كانت تقرأ كل ما أكتبه في الماضي.. لكنها الآن لم تعد قادرة علي ذلك، فاللعب مع حفيدها ياسين أفضل عندها وأحب بكثير من قراءة قصة كتبها زوجها، وتلك سنة الحياة.. أما أولادي.. فابني الأكبر أحمد مشغول بعمله في الغربة، بعد أن ترك الهندسة واحترف الموسيقي، والأصغر محمود فهو خريج حقوق إنجليزي والوحيد الذي يقرأ لي أحيانا، وكذلك ابنتي مني التي لا تقرأ إلا ما أنصحها بقراءته، وكثيرا ما تنشر أعمالي أو أخباري بجريدة أو مجلة فلا يعبأ بها أحد في البيت، وذلك بحكم الاعتياد، والاكتفاء بمشاهدة العنوان والصورة.. غير أنهم التفوا جميعا حول التلفزيون لمتابعة مسلسلي الكوميدي الوحيد "عاليها واطيها" باهتمام، حين أذيع للمرة الأولي في فبراير عام 2009 فلم يفوتوا حلقة واحدة، وكنا نضحك جميعا من القلب، ولكن عندما أعيد عرضه في مايو 2010 فإن أحدا منهم لم يهتم بمشاهدته إطلاقا، حتي أنا كنت أنسي متابعته نتيجة لذلك - في كثير من الأيام.
استعادة الصداقات الخاملة
قلت له: مررت بظروف صحية صعبة، تركت آثارها عليك في شكل عزلة عن الوسط الأدبي وابتعاد عن فعالياته.. لكنك لم تلبث أن عدت إليه من جديد.. فما السر؟
فأجاب: كان أول من ساعدني علي الخروج من عزلتي بعد المرض هو الصديق جلال عبد الجليل المسئول عن تحرير مجلة نادي سموحة.. فقد أصر علي أن أكتب مقدمة للمجموعة القصصية الأولي لزوجته علية أبو شنب، وقد حاولت التهرب منه مرارا، لكنه أصر بشدة علي إخراجي من دوامات المرض والعزلة والاكتئاب بالعودة إلي عالمي الحقيقي بين الأدباء، لدرجة أنه يوم الندوة التي أقيمت لمناقشة المجموعة، اتصل - رغم اعتذاري له مقدما عن عدم الحضور- فجددت اعتذاري قائلا له إنني لا بد أن أستحم وأشرب القهوة وأصلي المغرب، وبذلك تكون الندوة قد قاربت علي الانتهاء.. فقال لي بهدوء شديد وبنبرة تعاطف لا يمكن أن أنساها: "أنا واقف بعربيتي تحت باب بيتك. استحم واشرب قهوتك وصلِّ المغرب واعمل كل اللي انت عاوزه وعلي أقل من مهلك، بس أنا مش حامشي إلا لما تنزل وآخدك علي الندوة وأرجعك للبيت تاني".. وأمام إصراره شعرت بحرج شديد، ومع حضوري تلك الندوة تغير مسار حياتي بأكمله تغيرا جذريا.. فقد تحولت الندوة من الاحتفاء بهذه الكاتبة المتميزة إلي الاحتفاء بعودتي إلي عالمي الحقيقي بين الكتاب، وهنأني الحاضرون بالشفاء وأصروا علي دوام التواجد بينهم مستقبلا.. فشعرت بأنهم يحتضنونني بمحبة فائقة، فقررت أن أترك العزلة إلي الأبد، وأن أذوب في بحر محبتهم.. وقد تعلمت من مواجهة الموت مرتين كيف أتصالح مع نفسي ومع الناس والكون وخالقه.. وعدت إلي بيتي محملا بكتبهم الجديدة وعليها إهداءات مؤثرة للغاية، وقررت أن أكتب عنهم جميعا وأحضر ندواتهم بلا استثناء، وهذا ما حدث بالفعل طوال عام 2010 حيث كتبت ما يقرب من خمسة عشر قراءة حول هذه الأعمال، نشرت معظمها علي مواقع الإنترنت الشهيرة.. وبعد ذلك استعدت صداقاتي القديمة الخاملة مع الكتاب من خارج الإسكندرية، وصرت أتصل بهم تليفونيا ومن خلال الإنترنت بصفة غير منقطعة، وأصبح تواصلي معهم حميميا وجميلا ومفيدا في الوقت ذاته، لي ولهم.. وأخيرا عادت إليَّ ابتسامتي واستعدت صفائي النفسي والروحاني.
فقدت الرغبة في الكتابة
سألته: ولكن ماذا أنتجت بعد عبورك الأزمة خلال عام 2010 وقد مضي من 2011 مايقرب من نصفه؟
فقال، وكأنه كان ينتظر سؤالي: معجزة الثورة أفقدتني الرغبة في الكتابة الروائية أو القصصية نهائيا، بعد أن شعرت أن أقصي أماني حياتي قد تحققت، وأنني لا أرغب بحق في الكتابة الإبداعية، فضلا عن أنني أفتقد تماما وجود فكرة
ملحة تدفعني إلي التفكير في الكتابة حاليا، فتفرغت لتجميع الأحداث والمقالات والفيديوهات المتعلقة بأحداث الثورة منذ 25 من يناير ولمدة تقترب من الشهر بعدها، وسجلتها علي "سي دي" أهديته إلي بعض الأصدقاء، وحفظته في ملف إلكتروني بعنوان: "الثورة في جهازي"، وملف مطبوع في مجلد خاص، استعنت به في مشروع الفنان الصديق عصمت داوستاشي المعروف بمشروع "معرض في كتاب".
أهم إنجازاتي الأدبية
قلت له: ذكرت كثيرا الأيام التي اقتربت فيها من نجيب محفوظ، وقت أن كان يتردد أسبوعيا في كل صيف علي الثغر، وتلتقي به في حديقة فندق سان ستيفانو، وأشرت، في بعض المقالات والحوارات، إلي أنه كان السبب في سفرك إلي أمريكا.. فكيف كان ذلك؟ وماذا بقي لك الآن من تلك الأيام؟
قال، وقد علت وجهه ابتسامة شوق إلي ماضٍ مدهش: كان الأستاذ نجيب محفوظ سببا في سفري إلي أمريكا بالفعل.. حدث هذا عام 1989 عندما سافرت بدعوة من مركز الاستعلامات الأمريكي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، وكان الأستاذ هو السبب في هذه الدعوة؛ فقد كان يتحدث إلي الشاعر فاروق شوشة في برنامج "أمسية ثقافية"، وذكر أعمالي الروائية التي يدور معظمها حول حياة العمال والبسطاء من الطبقة الكادحة، وتصادف أن شاهد هذه الحلقة الملحق الثقافي الأمريكي بالإسكندرية فقرر دعوتي لزيارة بلاده.
أما أيام نجيب محفوظ التي طالما تغنيت بها في مقالاتي وحواراتي.. فهي تمثل أجمل وأحلي أيام عمري، وبقي لي منها ما تعلمته علي يديه من حكمة وخبرة وقدرة علي الاستغناء، كما بقي لي كتاب أعتبره من أهم إنجازاتي الأدبية، عنوانه: "نجيب محفوظ الإنسان"، يحتوي علي تسع رسائل وصلتني من الأستاذ بخط يده الجميل.. كان من المفترض أن يصدر عن هيئة الكتاب في شهر يناير الماضي ضمن سلسلة نجيب محفوظ التي يشرف عليها الصديق الروائي يوسف القعيد، لكن ظروف الثورة أجلت ظهوره، وكلما سألت بشروني بقرب صدوره بعد استقرار الأمور في الهيئة، والكتاب عبارة عن مجموعة من ذكرياتي، وأصدقائي الكتاب مع نجيب محفوظ علي امتداد نحو ثلاثة عقود، وعلي رأسهم أستاذنا الدكتور يوسف عز الدين عيسي، من خلال سهراتنا معه في فندق سان استيفانو الكلاسيكي العتيق، وتحديدا في حديقته الجميلة، قبل هدمه وتحويله إلي كتلة خرسانية غبية يمتلكها بعض المليارديرات.. وتحتوي هذه الذكريات علي حوارات ثقافية وفلسفية وكوميدية حافلة بقفشات الأستاذ الساخرة، ويعتبر الكتاب شاهدا علي حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر خلال حكمي السادات ومبارك.. كما يحوي عشرات الصور التذكارية معه في مناسبات عديدة.
الجائزة الكبري للكاتب
قلت لسعيد سالم: ذكرت نجيب محفوظ، والدكتور يوسف عز الدين عيسي، وكلاهما كان له مريدوه وتلاميذه.. وأنت الآن في الثامنة والستين، وليس لك مريدين ولا تلاميذ يحرصون علي لقائك في مكان وموعد محددين.. فما السبب؟
فرد: كنت أتمني أن يحدث هذا معي بالتأكيد، ولكن الدنيا تغيرت كثيرا، حيث اتخذ أسلوب "التلمذة" أو"الأستذة" طابعا مختلفا تماما بعد ظهور تكنولوجيا الإنترنت بصفة خاصة.. وأنا أحمد الله علي السعادة التي منحني إياها بوجود عدد كبير ممن يحبون أعمالي، ويبعثون إليَّ دوما بالرسائل العادية والإلكترونية سواء عبر الإيميل أو الموبايل، ولقد خصصت ملفا ورقيا لهذه الرسائل المكتوبة بخط اليد، أسميته "رسائل المحبين"، كما أنشأت ملفا خاصا في بريدي الإلكتروني بعنوان"تعليقات القراء".. وإليك آخر رسالة إلكترونية وصلتني فور نشر مقالة لي في "الأهرام" منذ فترة قليلة، وهي بالمناسبة من كاتب معروف تجاوز الأربعين ويعيش في مطوبس، يقول في رسالته: "أستاذي العزيز.. استمتعت بمقالكم، وكما هي عادتك، قدمت قصة ممتازة وسردا تحليليا عميقا وحددت العيوب والعلاج. كان الأسلوب يتدفق هادرا وخصبا حتي النهاية، وكانت روحك الشابة تثب وتطير محملة بحب مصر وهمومها. دائما تظل متألقا ومشعا لقرائك وتلاميذك.. مع تحياتي ودعواتي أن يمن الله عليك بالصحة ويبقيك لنا حضنا ودفئا وحنانا. تلميذك.. سميرالمنزلاوي".. لقد أدخلت هذه الرسالة الحميمة الفرحة إلي قلبي فور قراءتها، وتلك هي المكافأة والجائزة الكبري التي ينتظرها الكاتب، فهي التي تشعره أن جهده قد أثمر ولم يضع هباء.. والمسألة في حقيقة الأمر ليست تلمذة أو أستذة، إنما هي المحبة والثقة والتقدير والاحترام بين الأقل والأكثر
خبرة.. لقد رأيت بعيني الدكتور يوسف إدريس وهو يقبل يد الدكتور يوسف عز الدين عيسي بمحبة فائقة - دون أستذة أو تلمذة - حين كنا ساهرين في ضيافة صديقنا الشاعر السكندري عبد الله الوكيل، ولم يكن يومها فارق العمر بين اليوسفين كبيرا.
عصر الإنترنت
سألته: معظم أبناء جيلك فاتهم الإنترنت، وأنت كنت متواجدا أيام الثورة علي الفيس بوك طوال اليوم تقريبا تجمع الأحداث الجديدة وتعلق عليها ساعة بساعة؟ فما علاقتك بهذا العالم السحري؟
قال بزهو يمتطي نبرات صوته: ابني أحمد هوّن الله عليه غربته ولعن من كانوا السبب في "طفشان" الشباب من وطنهم الجميل - هو الذي علمني المبادئ الأولي قبل سفره حين كنت في السابعة والخمسين، وأنا أحمد الله علي ذلك، فأصدقائي الذين لم يصبروا علي تعلمه كما صبرت أنا - ندموا أشد الندم، وأصبحوا الآن يشعرون بالتخلف عن العصر لفقدانهم أسهل وأسرع وسيلة اتصال وتواصل ابتكرها العقل الانساني بفضل الله، ولقد نُشرت لي قصة منذ سنوات بعيدة تحمل عنوان: "عصر الإنترنت".. فقد تنبهت مبكرا إلي هذا العالم السحري المدهش.. وكل مقالاتي وقصصي ورواياتي بلا استثناء أنشرها عبر رسالة بالبريد الإلكتروني دون السفر إلي القاهرة.. و"هوي الخمسين" آخر مجموعة قصصية صدرت لي عن نهضة مصر، بعثتها إليهم، ثم أرسلوا إليَّ البروفة لأصححها، وأعدتها إليهم مرة أخري.. كل هذا بواسطة البريد الإلكتروني، وكنت سعيدا جدا بذلك، فأنا لم أعد أطيق أو أحتمل القاهرة الخانقة المرهقة، وكنت أطمع في توقيع العقد معهم بالطريقة نفسها، لكنهم أصروا علي حضوري بنفسي للتعارف وتوقيع العقد أمامهم واستلام الشيك بالمرة! ومن قبل "هوي الخمسين" فقد أرسلت "الحب والزمن" إلي إبراهيم عيسي بالطريقة نفسها، ونشرها علي الفور دون أن ألتقي به حتي هذه اللحظة.
الإعدام هو الحل
قلت له: بين فترة وأخري، تكتوي مصر بنار الفتنة الطائفية.. التي تطل برأسها عبر تفجير إرهابي، أو صدامات ترفع رايات الجهل والتعصب، سواء من بعض المسلمين أو بعض المسيحيين.. فما رأيك في هذه القضية، وهل عالجتها في أعمالك؟
أجاب: رأيي ذكرته في مقدمة روايتي "الأزمنة" التي صدرت عن دار الهلال منذ تسعة عشر عاما، حين قلت: "أنا مواطن مصري الجنسية، وإن كان لا بد أن أذكر ديانتي، فأنا مسلم، لكن أبي مسيحي، وأبوه فرعوني، أما جدي الأكبر، فكان يدين بالكون العظيم".
كما قلته في أعمال أخري أهمها رواية " كف مريم"، علي لسان إحدي الشخصيات المسلمة: "أقرأ الفاتحة علي أرواح الموتي القابعين في جوار المتحف رهبان وقسس وكهان ونحاتون وفلاسفة ومتصوفون".. وعلي لسان إحدي الشخصيات المسيحية: "يادانيال، ألم تكن أنت الذي تستشهد بآياتهم القرآنية القائلة: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري".. ولكن لو أردت رأيي قلت لك لابد من تقديم مشعلي الفتنة إلي محاكمة عسكرية، وأن يعاقب الجناة المسلمون والمسيحيون بالإعدام علي الفور.. ساعتها ستتوقف هذه المهزلة، وأنا أراهن علي ذلك بعمري.
رحلة السعادة والألم
قلت: وكيف تري رحلتك الطويلة في عالم الأدب الآن.. مكسب أم خسارة؟
فرد بعد لحظة صمت: صعب، بل مستحيل أن تقيس مطلقا بنسبي، فعالم الأدب مادته الخيال والشعر والأحلام؛ لأنه عالم وجداني لا يعرف حسابات المكسب والخسارة، ولأنه حساب عقلي بحت، فلو قلت لي إنني خسرت الدكتوراه والمال الوفير، بينما كان بمقدوري الحصول عليهما، سأقول لك إنني جالست يوما نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما من عظماء مصر من الكتاب والنقاد، وتعلمت الكثير عن الدنيا من قراءاتي ومعاشرتي ومحبتي لهم ومحبتهم لي، ولو قلت لي إنني حرمت أسرتي من الحياة الطبيعية التي تسعد أي أسرة، قلت لك إنهم يتباهون اليوم بأنهم أبناء الكاتب سعيد سالم.. لكن أستطيع القول بارتياح إن رحلتي في عالم الأدب هي رحلة الحياة: مزيج من السعادة والألم.
طالما قدمت تنازلات
سألته: بمناسبة المزيج بين السعادة والألم.. هل جربت العداء خلال رحلتك الأدبية؟ وهل تعرضت للظلم؟
قال بأسي: العداء؟! طبعا جربته، وأنا أكرهه كراهية عمياء، ولا أستطيع تحمله أو التعامل معه؛ لأنه لا يتسق علي الإطلاق مع طبيعتي النفسية والعقلية، ولا تتصور أنني أدعي الملائكية حين أقول لك إنني طالما قدمت تنازلات حتي تزول حالة العداء بيني وبين مَنْ يعاديني، ما دام الأمر لا يتعلق بكرامتي أو رزق أولادي.. وبوجه عام فإن معظم العداء لا يأتي إلا من عداء الإنسان لنفسه، وقد كتبت رواية كاملة بهذا المعني هي: "حالة مستعصية"، نشرت منذ زمن في دار الهلال، والرواية تطرح سؤالا محددا: هل هناك حتمية لوجود عدو أو أعداء لكل إنسان مهما تفاني في محبة الآخرين وأخلص لهم أو ابتعد عنهم تماما؟ عموما أستطيع أن أصرح لك اليوم أنني لا أعرف أحدا يناصبني العداء علي الإطلاق، اللهم إلا إذا كان يضمره ويخفيه عني، فهذا شأنه.
أما الظلم فالذي ظلمني بوجه عام هو نظام لا أفراد.. لقد قال لي ابني ذات يوم بحسرة شديدة ممزوجة بالدهشة والاستنكار وعدم التصديق: "هل من المعقول أن يختصر هذا البلد أهداف شاب كله حيوية، يريد أن ينجح في عمله ويدرس ويرتقي ويتقدم ويكسب ويتزوج ويعيش عيشة كريمة، بحيث يكون أقصي طموحه أن يستطيع بعد جهاد طويل وسنوات مريرة من الغربة أن يدبر ثمن شقة؟!".
وحتي علي المستوي الشخصي فقد ظلمني نظام ولوائح القطاع العام وظيفيا، إذ بقيت مديرا عاما خمسة عشر عاما قبل أن يحال رئيسي إلي التقاعد لأشغل درجة رئيس القطاع، وقد كتبت قصة قصيرة ساخرة حول هذا الموضوع اسمها: "الدرجة"، قلت فيها إن هذه المشكلة لن تحل إلا بأن يموت أو أقتله أو أموت أنا.. وكنت أردد ساخرا أنني أقدم مدير عام في جمهورية مصر العربية.
ولم أعلق في نهاية حواري معه، وأنا أسمع سعيد سالم ينهي كلامه بعبارة مؤثرة، قائلا بحسرة ممزوجة بالاستنكار: يا عزيزي.. العدل عند العادل وحده!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.