من ضمن مؤلفات الكاتب الكبير الأستاذ بهاء طاهر كتاب "أبناء رفاعة" وأهمية هذا الكتاب كما ذكر الكاتب في المقدمة هو رصد صعود الدولة المدنية وانحسارها، ولقد رصد المؤلف الأدوار التي لعبها المثقفون لإحداث هذه النقلة التاريخية علي مدي نصف قرن من الزمانوفي الفصل الأول من الكتاب بعنوان "النور يأتي من طهطا " يذكر المؤلف جهود رفاعة رافع الطهطاوي الذي تدين له مصر بأكبر الفضل في التغيير الثقافي الذي غير وجه الحياة، فلقد كان الساعد الأيمن لمحمد علي في سياسة التعليم، فهو الذي أنشأ مدرسة الألسن العليا للترجمة والإدارة والتي صارت مدرسة الألسن فيما بعد، واشترك بنفسه في ترجمة عدد من الكتب والمراجع العلمية للمدارس العليا الجديدة (الطب والتمريض والمهندسخانة والإدارة) كما كان رئيس تحرير لأول صحيفة مصرية تنشأ في القرن التاسع عشر (الوقائع المصرية) كما الف العديد من الكتب التي أثرت علي مجري الفكر المصري . ولعل اول خطوة في الانقلاب الفكري هو بعث مفهوم الوطن في مقابل مفهوم الأمة، ولقد بث الطهطاوي مفاهيم جديدة مثل الوطن والأخوة الوطنية والحرية والمساواة، ومن أقواله المأثورة في هذا المجال " إن جميع ما يجب علي المؤمن لأخيه المؤمن يجب علي أعضاء الوطن في حقوق بعضهم علي بعض لما بينهم من أخوة الوطنية " . وبعد الطهطاوي جاء محمد عبده، وإذا كان الفضل يرجع إلي الطهطاوي في بعث الوطنية المصرية، فإن محمد عبده قد شارك في تكوين برنامج الحزب الوطني المصري، وجاءت المادة الخامسة منه "الحزب الوطني حزب سياسي مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب وجميع النصاري واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويشكل لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر إلي اختلاف المعتقدات ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة الإسلامية الحقة تنهي عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء " وبعد ذلك تتألق شخصية عبدالله النديم بن النجار الذي علم نفسه بنفسه، والذي اشتغل بالصحافة والأدب والمسرح والعمل السياسي السري، وكان عنوان الصحيفة التي أسسها هي "التنكيت والتبكيت " واختار لتحريرها لغة أقرب إلي العامية يشرح فيها للناس أخطار التدخل الأوربي ومعني التمثيل النيابي، ومن كتاباته التي تحث علي الحرية قوله "ان سبب تقدم الأوروبيين هو إطلاق الحرية في نشر أفكارهم بين الأمم لإحياء أفكار العامة باحتكاكها بأفكار العقلاء، وبهذه الواسطة ربي الكتاب أبناء الأمم وهذبوهم ونقلوهم من حضيض الجهل والخمول إلي ذروة العلم والظهور، أما الشرق فقد أخطأ الطريق فخاف ملوكه من الكتَّاب والعقلاء فضغطوا علي أفكارهم حتي أماتوها في أذهانهم ... ولو أطلقوا الحرية لأحيوا الأمم التائهة في القفار " وبعد النديم جاء قاسم أمين ليخطو خطوة مهمة وتاريخية نحو تحرير المرأة، فدعا إلي حق المرأة في التعليم وفي العمل، فهو الوسيلة الوحيدة لكي تحقق وجودها الإنساني، ولكي تتمكن المرأة من العمل يجب عليها بطبيعة الحال أن تتهيأ لذلك، لا بالعلم وحده بل بأسلوب الحياة واختلاطها بالرجال وارتداء الزي المناسب الذي يناسب العمل، لا الذي يكبل حركتها ويقيدها : انه باختصار دعا إلي سفور المرأة . وفي خلال بضعة سنوات قليلة تكونت أجيال تبنت أفكار الطهطاوي والنديم وقاسم أمين، فظهر في العمل السياسي مصطفي كامل وسعد زغلول، وأحمد شوقي في الشعر، وسيد درويش في الغناء والموسيقي ... الخ . واندلعت ثورة 19، فخرجت المرأة إلي جانب الرجل في المظاهرات، كما خطب القسيس إلي جانب الشيخ مؤكدين وحدة الوطن ضد المستعمر، وانتزعت مصر بعده دستور 23 الذي أكد حرية التعبير، وان التعليم إلزامي ومجاني، وان جميع المواطنين سواء أمام القانون . وقد اتسع مفهوم الوطن بعد حرب فلسطين في خلال الثورة الناصرية ليصبح هو الوطن العربي بأكمله . وفي فصل تال من الكتاب غاص الكاتب في فكر طه حسين، فهو يحلم بمصر وقد أظلها العلم والمعرفة وشملت الثقافة أهلها جميعا، وسعيا إلي تحقيق هذا الحلم، وضع خطة واضحة المعالم، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، والغرب الذي يتبني طه حسين الدعوة إليه هو الغرب الليبرالي كما رسمه فلاسفة الغرب في كتاباتهم، أي المجتمع القومي الذي يحكم نفسه بنفسه في ضؤ مصالحه، والذي يتحقق فيه فصل الدين عن السياسة، والنظام الديمقراطي للحكم، واحترام الحقوق الفردية لاسيما حرية التعبير والكتابة، وتنظيم الصناعة الحديثة وتوافر الروح العلمية التي تكمن وراء ذلك كله . وفي فصل تال من الكتاب بعنوان "لماذا يكرهنا الغرب ؟ " يرصد المؤلف بعض مظاهر العنصرية في المجتمع الأوروبي، فهم يتصورون القاهرة واحة صحراوية وسيلة التنقل فيها هي الجمال، تلعب في نيلها الخالد التماسيح وتمرح، وتقوم علي شاطئيه بيوت طينية تلزمها حريم لا يخرجن من المنزل، خاضعات لسلطة رجال جهلة وجبارين . وهناك حزب شهير في فرنسا يدعي (الجبهة الوطنية) أهم بنود برنامجه طرد العرب من بلاد الحرية والإخاء والمساواة، ولهذا الحزب نظائر في العديد من البلاد الأوروبية . وللكاتب الروسي الشهير ديستوفسكي كتابا مهماً بعنوان مذكرات شتاء عن رحلة صيف " ترجمه إلي اللغة العربية د.سامي الدروبي، وفيه يسجل ديستوفسكي رحلة قام بها إلي أوروبا . ومن رصده لهذه الظاهرة كتب يقول " كان الغربي يشعر بأن له أعداء انتصر عليهم ...... حتي إذا ما انتهت المعركة لاحظ أنه وحده علي الأرض وأنه ليس هناك من هو أحسن منه وأنه المثل الأعلي ...... ولكنه يدفع ثمن هذا الازدهار وهذا الرخاء غاليا، فهو يخشي كل شيء لا لسبب إلا لأنه وصل إلي كل شيء فمتي وصل المرء إلي كل شيء أصبح يخاف أن يفقد كل شيء " . وفي فصل تال بعنوان "الاستغناء عن الثقافة " وفيه يذكر المؤلف كيف حاول الحكام علي مر العصور البطش بالمثقفين، فحين جاء عباس باشا الأول إلي حكم مصر أغلق المدارس التي فتحها الطهطاوي، ونفاه إلي السودان، كذلك فعل توفيق باشا مع النديم، فأغلق صحيفته فهرب النديم إلي تركيا، أما محمد عبده فلقد نفذ حكم النفي لسنوات، وفي مرحلة الدعوة إلي الديمقراطية دخل العقاد السجن، وطرد طه حسين من منصبه عدة مرات، ومن أجل الدعوة إلي العدالة الاجتماعية دخل معظم الكتَّاب السجن . وفي السبعينات منعت مسرحية محمود دياب "باب الفتوح " من العرض . وجاءت مرحلة السبعينات لتشهد ظهور مجلات ومنابر لم تجد من يشغلها بعد طرد معظم الكتَّاب من، ثم بدأنا نلاحظ أن إحدي الصحف تنشر قائمة بأسماء من أسمتهم ب "العلمانيين " الذين يجب رفض أفكارهم، ولقد تصدرت القائمة أسم الرائد العظيم رفاعة رافع الطهطاوي !، كما قرأنا لأستاذة جامعية محترمة تشن هجوما شنيعا علي الثورة الفرنسية، لأن العصور الوسطي من وجهة نظرها كانت تحمل قيما وأخلاقا أفضل ! ويختتم الكاتب هذا الفصل المحزن بعبارة رائعة لعميد الادب العربي د .طه حسين قال فيها " أدبنا العربي كائن حي، أشيه شيء بالشجرة العظيمة التي مضت عليها القرون والقرون، ومازال ماء الحياة فيها غزيرا، يجري في أصلها الثابت علي الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء .... والعناصر التي مضت عليها القرون والقرون، ومازال ماء الحياة فيها غزيرا، يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء ..... والعناصر التقليدية في أدبنا قوية شديدة القوة، مستقرة ممعنة في الاستقرار، مستمرة علي مر الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقي، ولكن هناك عناصر أخري توازن هذه العناصر التقليدية وهي عناصر التجديد، وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات وعصمته من الجدب والعقم والإعدام " . وفي فصل بعنوان "كيف وصلنا إلي الأخوان ؟ " يشرح الكاتب جهود المثقفين عبر العصور لإرساء دعائم الدولة المندية وترسيخ القيم التالية:- 1-إحياء فكرة الوطن (مصر) التي كانت غائبة تماما في ظل الأممية العثمانية . 2- إدخال مبدأ الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحين في الحقوق والواجبات. 3- نفي وجود السلطة الدينية. 4- تحرير المرأة والمساواة بينها وبين الرجل. 5- سيادة قيم الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحق التعليم للجميع غير أن ذلك قد تغير تماما مع مجيء الرئيس السادات، فتحت دعوي مقاومة اليسار والشيوعية، أغلق المجلات الثقافية، والمسارح الجادة، والمؤسسة الوطنية للسينما، وجلب في نفس الوقت مجموعة من الوعاظ المهاجرين منذ العهد الناصري إلي دول الخليج، ثم بدأ تغلغل الإخوان التدريجي في التعليم، حيث جندوا آلافا من المدرسين الحكوميين ومولوا إنشاء مدارس خاصة إسلامية المنهج والتوجه، ثم أخذوا يتوغلون في الثقافة رويدا رويدا، فأثاروا ما عرف بقضية الروايات الثلاث الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، مما أدي إلي سحب الروايات من السوق، ولم يكتفوا بذلك بل رفع أحد محاميي التيار الإسلامي قضية جمحة ضد الروائي الراحل توفيق عبدالرحمن مؤلف الروايات، علي أساس أن رواياته يوجد بها ما يخدش الحياء. ولكن محكمة العجوزة أصدرت حكما بليغا ينبغي أن ينحاز له كل مثقف، إذ قضت أن الأعمال الفنية لا يتوفر فيها عنصر القصد الجنائي، ومن ثم رفضت قبول الدعوي . ثم بدأ بعد ذلك القسم الثاني من الكتاب وهو بعنوان "العبرات " وفيه يعطي نماذج تطبيقية من أعمال بعض الروائيين مثل يوسف إدريس، يحيي حقي، توفيق الحكيم، يحيي الطاهر عبدالله، مع التركيز علي أعمالهم التي تناولت قيمة الحرية ودور المثقف في المجتمع والعلاقة بالآخر، والصلة بالغرب .... الخ .