أسعدني الحظ بمشاهدة الفيلم البوسني الرائع سيرك كولومبيا ولكني لم أشاهد أفلاما كثيرة في المسابقة الدولية لمهرجان الإسكندرية لهذا العام. وعلي الرغم من ذلك توقعت لهذا الفيلم أن يحصد أهم الجوائز وهو ما صرحت به في حوار صحفي لجريدة الجمهورية قبل أن يعرض أقل من نصف أفلام المسابقة. والمسألة ليس لها علاقة بالفراسة أو التخمين أو المراهنة ولكنها ترجع باختصار إلي أن إبداع التحف هو أمر نادر في أي مجال، ولأنه يصعب أن تنتج السينما أفلاما كثيرة بهذا المستوي من الروعة والتألق علي مدار عام واحد أو حتي عدة أعوام . فالروائع الفنية مثل التحف النادرة يصعب أن تتكاثر. ليس من عادتي أن أحكي تفاصيل قصص الأفلام. ولكني لا أستطيع مقاومة الرغبة في أن أشرككم معي في الاستمتاع بهذه الحكاية الجميلة. تبدأ الأحداث مع عودة الغائب ديفكو من المانيا إلي وطنه في البوسنة مع تراجع الشيوعيين عن السلطة عام 1991 وسط أجواء ملبدة بالفتن وتنذر بتفكك البلاد . لم تكن عودته من أجل لم شمل أسرته الصغيرة التي تركها من عشرين سنة،لوسيا الزوجة المخلصة الكادحة ومارتن الابن الشاب الوسيم الذكي الطموح. بل جاء الأب مصطحبا صديقته الشابة أزرة زوجة المستقبل وقطه النادر الجميل، محصنا بكومة من الماركات الألمانية ومستقلا سيارته المرسيدس الحمراء اللامعة وساعيا لاسترداد كل ممتلكاته ومنها سيرك كولومبيا وعلي رأسها بيت عائلته الذي تقطنه أسرته الصغيرة المكافحة. قوة البدايات وسرعان ما يتمكن المخرج من أن يضعك في قلب الأحداث ومن أن يؤسس ويرسم بصريا لك جغرافية المكان فتشعر بأنك تعيش داخل البلدة. كما تتمكن من التعرف علي خريطة العلاقات بوضوح ورشاقة. بل وتتمكن من خلال تفاصيل بصرية وحركية بسيطة من أن تتعرف علي توجهات الشخصيات وتطلعاتها. وحيث تبدو كل جملة ولقطة في موضعها بتركيب هادئ ومكثف وبإيقاع تصنع سخونته الدراما المتأججة بالصراع الظاهر والباطن. وحيث تتوالي جمل الحوار كطلقات سريعة ومؤثرة وتنطق العيون بما هو أبلغ من الكلمات. لن تشعر للحظة أن اللقاء الأول تشوبه أي ملامح ميلودرامية حين يقوم الابن عامل البنزينة بتعبئة عربة الأب المتغطرس دون أن يعرف كل منهما الآخر. ودون أن ينسي المخرج أن يؤسس للعلاقة بين الابن والعشيقة ببعض التفاصيل الحركية المعبرة. وسرعان ما يحقق ديفكو هدفه الأول بمساعدة ابن عمه إيفاند عمدة البلدة الجديد بكل ما يمثله من طموح طبقات مستغلة وطفيلية وطامعة نحو السلطة. عبر هذا التحالف يستولي ديفكو علي البيت ويقيم فيه مع امرأته الشابة أزرة، ليجد الابن والأم نفسيهما بلا مأوي حتي تتعطف عليهما الحكومة بسكن مهين. ولكن الأب لا يستطيع أن يقاوم هذا الخيط الذي يربطه بابنه فيدعوه للسكني معه. ويتعلق الشاب إثر تردده المتكرر علي البيت بصديقة الأب أزرة حتي يقع في غرامها. ووسط هذه الأجواء الملبدة بالصراع والخيانة يتوه قط الأب النادر فيستشيط غضبا ويدعو الابن والصديقة للبحث عنه في كل مكان. عبر رحلة البحث تتوطد العلاقة أكثر حتي يتبادلان الحب. وتتألق الصورة في إبراز المشاعر التي تنمو بين الشابين وتتحرر الصورة من حدود الأماكن المغلقة لتنطلق إلي آفاق رحبة في شوارع البلدة وشاطئها. ساعة الحسم وعلي الرغم من التهاب الأجواء وتأجج الصراع يتصاعد الحس الكوميدي الساخر في الفيلم دون أن يفقد جديته وطابعه النقدي حين يدفع ديفكو كل أهالي البلدة للمشاركة في البحث عن القط بعد أن يعلن عن مكافأة ضخمة. في وسط هذه الأجواء الساخرة تتعالي نذر الحرب ويتعرض الابن لتهمة التجسس ويتمكن الأب من إنقاذه بحيلة ماكرة وتقرر الأم تهريب الابن والهجرة معه قبل أن يقع هجوم الصرب المتوقع علي البلدة. ويصمم الشاب علي اصطحاب حبيبته التي كانت صديقة الأب. يبارك الأب سفرهما في لحظة تسامح وتصالح واختيار حاسم يكشف فيه عن المعدن الأصيل للشخصية والمطموس تحت سطح كاذب من المادية صنعته سنوات من الظلم والمعاناة والهجرة. يعود ديفكو أدراجه متوجها نحو حلمه الباقي أو موقع السيرك الذي يأمل في استرداده. ولكن المهاجرين في طريقهم للهرب يعثرون علي القط مصادفة. تعود الزوجة للأب حاملة القط فيضعها علي إحدي عربات مراجيح السيرك ويركب عربة أخري وينطلق إلي جوارها بعد أن يدير مفتاح المرجيحة.. تتراجع الكاميرا لأعلي وهي تكشف عن حركة دوران المرجيحة ولكن الكادر يتسع أكثر وأكثر حين تصعد الكاميرا لعنان السماء لنري القنابل وهي تسقط عن بعد. هذا اللقاء الحميم وسط الخطر المحدق يكشف عن الجانب الأجمل في قصة الفيلم التي ينكشف لنا جوهرها كحكاية حب كامن تحت الجلد .هناك مثلث علاقات غرامي يصعد الي السطح مع الأحداث . قد تنخدع وتعتقد أن هذا المثلث بين الأب والابن والعشيقة أزرة . ولكن الحقيقة ان المثلث بين الزوج والزوجة والعشيقة . هذه هي الخدعة الماكرة التي يخفيها السيناريو بين طياته والتي تتكشف لك في آخر لحظاته. فهناك كومة من المشكلات والعقد تتصاعد وتتكثف بين ديفكو والامراتين وهي التي تقود الفيلم الي أجمل أحداثه ومشاهده والتي تضع لنا هذه النهاية العبقرية. إبداع رباعي هكذا تنتهي أحداث هذا الفيلم الرائع الذي أعتقد أن هذا السرد الموجز لأحداثه قد يوحي لك بالكثير مما يحمله من أبعاد ورموز وأفكار وتأملات في منتهي العمق. لا تتوقف حدود تأملها عند الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي لتلك البلاد ولكنه يتغلغل أيضا بنفس الدقة والمهارة إلي الحياة الإنسانية والنفس البشرية بكل تناقضاتها وبكل جوانبها المضيئة والمظلمة. فالسيناريو مكتوب بقدر غير عادي من الذكاء والمراوغة توازيها مقدرة فنية عالية علي توظيف لغة سينمائية تنتهج أسلوبا تعبيريا بسيطا اعتمادا علي حركة انسيابية للممثل وأدائه التعبيري وبتوظيف معبر لكل محتويات الصورة وإيقاع سلس وهادئ تتضافر فيه حركة الكاميرا مع طبيعة التكوين مع الانتقالات التدريجية الطبيعية. ولا يمكن أن ينتهي الحديث عن هذا الفيلم دون الإشادة برباعي أبطاله ميكي مانوجيلوفيتش وميرا فوريان وبوريس لير . وحيث كانت المشاهد التي تجمعهم ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا أقرب للمعزوفات الموسيقية في تحاور الآلات لتحقيق هذا النسيج الفني الرائع في الأداء التمثيلي. ميكي مانوجوفيتش في دور الأب ممثل علي درجة عالية من الخبرة والنضج والحساسية . فهو فنان من طراز فريد منح شخصيته بعدها الإنساني وحقق لها جميع جوانبها. واستطاع أن يحافظ علي الشعرة الفاصلة بين ألا تتعاطف مع الشخصية ولكن دون أن تكرهها. ولا أعتقد أن الأمر سوف يكون ميسورا لممثل آخر. فالشخصية تعبر عن حالة دائمة من الانفعال والتناقض دون أن تفقد سلوكياتها ودوافعها مبرراتها . وعلي الرغم من كل ما يمارسه ديفيكو من أفعال مستفزة الا أنك لا تملك إلا أن تحبه. وهكذا لا تكون المفاجأة التي يدخرها لك الفيلم في نهايته مفاجئة حين تكتشف الجوانب الإيجابية في شخصيته فتتقبلها بمنتهي التعاطف والتصديق . ويشارك السيناريو الممثل أيضا في براعة رسم الشخصية التي تستطيع ان تتفهم دوافعها بصرف النظر عن غرابتها وشذوذها. اما الزوجة فعلي الرغم من شعورها بالإهانة والظلم الا انها تستطيع دائما ان تحافظ علي كبريائها. فهي امرأة تمكنت من أن تصمد وتواصل حياتها دون أن تتنازل أو تضعف في ظل أصعب الظروف. وها هي بدلا من أن تكافأ علي هذه السنوات من الصبر والمعاناة تجد نفسها في مواجهة مع صراع أكثر صعوبة وشراسة. خبرات مخرج مثل كل الأفلام الكبري والروائع الفنية يصعب الفصل في هذا الفيلم بين العناصر أو تحديد مواطن جمال بعينها ولكنه جمال تصنعه هذه الحالة من التواصل والترابط والتراكم بين عناصر الفيلم ومواقفه وأحداثه وأداء ممثليه . وهو فيلم ينتسب بحق إلي أحد مبدعي السينما الشباب الكبار. فإبداع دانيس تانوفيتش مخرج الفيلم والمشارك في تأليفه مع إيفيكا ديجيكيتش يعبر عن خبراته الحياتية القوية وثقافته الفنية المتنوعة . فهو دارس للهندسة المدنية وعمل لمدة عامين كمراسل حربي وهاجر من البوسنة إلي بلجيكا. وعلي الجانب الفني درس عوق البيانو بأكاديمية الفنون والسينما في أكاديمية سراييفو وواصل دراساته السينمائية في بلجيكا. وعلي الرغم من أنه في بداية الأربعينات من العمر إلا أنه صاحب تاريخ حافل في السينما التسجيلية والروائية ومسيرة رائعة مع الجوائز. ومنها الأوسكار والكرة الذهبية لأحسن فيلم أجنبي عن فيلمه الأول الأرض المحرمة إلي جانب 40 جائزة دولية عن مختلف أعماله. لولا مهرجان الإسكندرية لما أمكن لحفنة من النقاد والهواة والمثقفين أن يشاهدوا هذا الفيلم الرائع وأن يصروا علي أن يعاد عرضه ثلاث مرات في قاعة سينما جرين بلازا علي الشاشة الوحيدة التي قدمت أفلاما سينمائية وليس دي في دي. يعتقد البعض أن هناك أمورا كثيرة أهم بكثير من السينما والمهرجانات وهم لا يدركون أن غياب هذا النوع من الأفلام المتقدمة عن الساحة يعني غياب جيل كامل عن حركة السينما وعن الإحساس بنبضها المتلاحق وتجاربها الجديدة والجريئة . لا يدرك هؤلاء أنهم يمارسون نفس ما يفعله الظلاميون من دعوة للتخلف والهمجية. وهم يقيسون نجاح المناسبات بكم الحضور ولا يدركون أن صفوة المثقفين لهم حقوق وبدونهم تغيب الطليعة عن التواجد ويتخلف الركب وتضعف حاسة التذوق ويندثر الفن والإبداع والجمال ولا يبقي سوي القبح والتخلف والجهل الذي يصنعونه هم بأيديهم.