الظهور الشعري ل حسن طلب جاء مبكرا جدا بالقياس لشعراء جيله كان ذلك عام 1972 وقت أن كان مجندا بالقوات المسلحة وقبل أن يخوض حرب أكتوبر المجيدة، عندما قدمه للساحة الشعرية الناقد الشهير رجاء النقاش من خلال باكورة دواوينه الشعرية " وشم علي نهدي فتاة " هذا الديوان الذي سيتاح له فيما بعد أن تعاد طباعته باسم " الوشم " حيث عمد الشاعر إلي حذف نهدي فتاته من الغلاف بعد أن شاع الترصد بالشعراء وبنهود فتياتهم، في واقعة تعيد إلي الأذهان قصة قيام أحمد حسن الزيات بتغيير عنوان مقال أنور المعداوي عن نزار قباني بمجلة " الرسالة " في أربعينات القرن الماضي من " طفولة نهد " إلي " طفولة نهر " جاء ديوان حسن طلب الأول مبشرا ودالا ورامزا حتي وإن كان واقعا في أسر الشاعر العراقي المؤدلج عبد الوهاب البياتي، لكنه سجل شهادة ميلاد شاعر مرموق، وتطلب الأمر من الشاعر قرابة الخمسة عشر عاما ليصدر ديوانه الثاني " سيرة البنفسج " عام 1986 وليتخلص تماما من أصوات الشعراء الآخرين ويخلص إلي صوته المتفرد، وهو الديوان الذي يعد البداية الحقيقية له بعيدا عن خطواته الأولي، وتتوالي دواوينه بعد ذلك لا يفصل بين الواحد وأخيه سوي العامين أو الثلاثة، ومع توالي دواوينه لا يخلص إلي صوته فحسب بل يصبح صوته من أكثر الأصوات الشعرية تفردا وخصوصية حتي يستوي شيخ طريقة في الكتابة الشعرية الحداثية . عندما انتوي كفافي الذهاب إلي إيثاكا وصل إليها ووجدها مدينة فقيرة لكنه كان قد كبر وازداد خبرة ومعرفة حتي أنه اكتشف أن الطريق إلي إيثاكا أكثر أهمية وجمالا من إيثاكا نفسها، حسن طلب أيضا أراد الذهاب إلي القصيدة فركب طريق اللغة ليصل إلي المعني واكتشف أن اللغة نفسها يمكن أن تكون مقصدا واكتشف أن الشاعر إن هو إلا لاعب كبير ومن أجمل ألاعيب الشاعر ألاعيبه باللغة فغامر واشتط، وسبح في بحر بلا شط، وأصبح لزاما علي قارئي شعره في كثير من الأحايين أن يلجئوا لابن منظور أو للفيروز آبادي لاكتناه غور بعض المفردات تماما مثلما فعل جده البعيد الأعشي حين قال : وقد غدوت إلي الحانوت يتبعني شاو مشل شلول شلشل شول وقد كان الأعشي جائعا جدا فاستخدم كل مفردات شواء اللحم وصفات من يشويه وكثير من القراء لا يعنيهم كثيرا مثل هذه الفروق اللغوية الدقيقة بين " شلول " و " شول " فإن فعل الإصاتة والتلاعب بالصوتيات عند الشاعر اللغوي يصبح في بعض الأحيان إنجازا فنيا خالصا، وهو شاعر صناع وقد يظن البعض أن تلك صفة غير محببة للشاعر الحديث، لكنها في حالة حسن طلب محببة إلي أقصي درجات المحبة فهو شاعر جائع مثل جده البعيد لكن جوعه ليس إلي لحم الضأن ولكن إلي الفن أينما كان يتكبد للوصول إليه الطرائق الصعبة ويحتشد بالمعرفة والفكر بل ويأتي بالأدلة والبراهين . يقسم نقاد الشعر الشعراء إلي صنفين، شاعر غنائي وشاعر موضوعي، فيقولون: أبو الطيب المتنبي شاعر غنائي وأبو العلاء المعري شاعر موضوعي، ويقولون أحمد عبد المعطي حجازي شاعر غنائي وصلاح عبد الصبور شاعر موضوعي، وبعضهم يفضل الغنائي ويميل بعضهم إلي الموضوعي، لكننا في حالة حسن طلب سنكتشف أننا أمام شاعر يستعصي علي التصنيف، فإن شئت أن تحسبه علي فئة الشعراء الغنائيين وجدته يرق حتي يكاد يذوب وهو يقول : يا مرسلة غزلانك في قمحي/ في كرمي تاركة خيلك/ ما كان أضل خروجك لي تحت الدوح وكان أضلك/ كنت مصوبة نبلك/ لكأنك كنت حساما والعشق استلك/ ويلي منك ومني ويلك/ حرمك القمح علي ولكن الدوح أحلك/ ويلي أو ويلك/ أية آلهة وصلت بنهاري ليلك/ لي ما تركتْ إلا جسدا لو قل الوصل اعتل فعودي معتلك . أما إن شئت أن تحسبه علي فئة الشعراء الموضوعيين وجدته يدلف إلي هدفه الشعري مباشرة دون حاجة إلي صورة أو خيال أو مجاز يقول : قال ناقد يساري/ تجاهلت الجماهير/ تعاليت علي الواقع/ قل شيئا عن المظاهرات/ إن ساحات الميادين بها تغص/ . ويمكنك بكل بساطة أن تضبطه متلبسا بفعل الغنائية والموضوعية في القصيدة الواحدة وهي خصيصة يندر أن يتقنها شاعر استمع إليه حين يقول: وكذلك يا أم علي/ تجدين الآنَ أمامكِ شخصاً آخرَ أعمي وعيي/ من فضلِكِ هاتي قلمي ودواتي/ أتمني لو أمليتُ الآنَ عليكِ خلاصةَ مأساتي/ أعلمُ أن اللفظةَ هينةٌ والشِّعرَ عصي/ لكني سأحاولُ مَن يدري فلعلِّي أنجحُ/ لو أن ملائكةَ الشِّعرِ أعانتني/ وعساي سأفلحُ/ إن فتح الله علي/ . وهو يعرف ذلك عن نفسه ويدرك أنه جامع للنقيضين لذا فهو يقول عن نفسه : وقال لي يا لك ساحرا/ جمعت اللفظ والمعني/ وأولجتهما من حيث قد كانا معا لا يلجان/ حقا لكم كانا إلي مثلك يحتاجان . كبر حسن طلب في غفلة من النقاد، كبر شعرا وكبر عمرا، وأصبحت جماعة المثقفين مطالبة خلال عامين أو أعوام ثلاثة بالاحتفاء بسبعينيته، وهو الشاعر الذي كان إلي الأمس القريب يحسب هو وأبناء جيله علي طائفة الشعراء الشبان، وقد كبروا دون أن تفوز بهم الجوائز أو يدركهم التكريم، وهم أولي أن يكرموا وأحق بالتقدير وعلي رأسهم الشاعر الكبير حسن طلب الذي يذكر قارئو الشعر ومحبوه أنه كان الأكثر جرأة في شعره منذ أن قال " أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم " حتي قال " مبروك مبارك " هذه القصيدة التي من أجل أن يكتبها استغني فيها عن المنسرح وألقي الوافر خلفه وترك المتدارك واختار الخبب وكسر قوانين النحو مع سبق الإصرار والترصد وهو الشاعر الذي لا ترتبك في يده تفعيلة ولا تخونه مفردة . في " مبروك مبارك " والتي كتبها حسن طلب عام 2005 وقف الشاعر - كعادة أسلافه شعراء النبوءة - علي حافة الاستشراف حتي أنه عد سنوات الطاغية فلم تزد يوما، اقرأ معي هذه المقاطع الثلاث من القصيدة لتندهش من هذه القدرة علي استقراء المستقبل، لكأنه عاش لحظات ما بعد 25 يناير ثم عاد بالزمن تارة أخري ليكتب ما كتب : وستكتب أنت بنفسك خاتمة سلالة حكام العسكر/ لا بد ستصبح آخر حصرمة في العنقود/ وبأيديك تجيء نهاية هذا العصر المنكود! ويأتي من يمحوك ويمحو آثارك/ وستنجاب جبال الغمة عن صدر الأمة/ لن يبقي من تلك الأزمة/ إن ذكروها بعد غد أو ذكروك/ غير الوصمة، تلحق سائر من سكتوا عنك/ ومن نصروك لن يبقي في تلك المحنة/ غير اللعنة/ تنصب علي ذكراك/ وتذكار ثلاثين من الأعوام السود/ هذا اليوم سيأتي أسرع مما تتوقع. إذا كان لثورة الخامس والعشرين من يناير شاعر فلابد أنه هو فلا أعرف شاعرا شارك بفكره وشعره في هذه الثورة كما شارك هو حتي أنه كتب عنها وفيها ولها أكثر من مائة قصيدة، لذا يحق له أن يكتب نشيده الجديد " إنجيل الثورة وقرآنها " وكأنه جدارية طويلة ذات مقاطع متنوعة وترانيم مختلفة وقواف متراتبة تحوم حول الثورة الكبري التي قلبت حال مصر رأسا علي عقب، وعدلت ميزان العدالة الذي ظل مائلا قرابة الستين عاما، يحق له أن يترنم بميدان التحرير وشبابه ويتغزل في حوائطه المدهونة بدماء الشهداء ويرسم كما يليق بالرسام الماهر أجمل بورتريه لأجمل ثورة ربما في التاريخ كله بألوان حمراء وخضراء وبيضاء وسوداء، يتقن مزجها جيدا الكلاسيكي الحاذق الأكاديمي الناثر الصعيدي الحاد الفلسفي الفارع شيخ شعراء جيل السبعينات حسن طلب