حاول البعض أن يصور المستجدات علي الحدود المصرية - الإسرائيلية بأنها تمهيد لاندلاع الحرب بين الجانبين، وراحت كثير من وسائل الاعلام الساذجة تستخدم تعبيرات تهويلية، تتنافي مع العلم والموضوعية والحقيقة، مثل الحديث عن "حشود عسكرية إسرائيلية علي الحدود المصرية"، وما الي ذلك. ولا يعلم هؤلاء أن فكرة الحرب مع مصر تمثل كابوسا مرعبا لإسرائيل، لا يقدر الإسرائيليون علي تخيله حتي الآن، ويصبون جم غضبهم علي سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك. يستبعد المحللون الإسرائيليون فكرة اندلاع حرب مع مصر في الوقت الحالي، لكنهم يشعرون بمزيد من القلق المرتبط بنتائج الانتخابات البرلمانية المصرية القادمة وهوية الرئيس المصري القادم، وطبيعة السياسات التي ستنتهجها مصر حينذاك، ومدي حكمتها. يعيش الإسرائيليون حالة من الذعر، لاسيما علي مستوي القيادات العسكرية والسياسية، بسبب ما يمكن وصفه بتغير قواعد اللعب في الشرق الأوسط، وبينما يستبعد الجميع فكرة اندلاع الحرب مجددا بين مصر وإسرائيل، يدرك الجميع أن القاهرة عادت لتمارس دورا اقليميا فاعلا، يكتسب زخما هائلا بفضل الشارع المصري، الذي دخل المعادلة بقوة، ولن يكون بوسع احد تجاهله مرة ثانية. لكن ثمة دعاوي خبيثة للاستيلاء علي سيناء بطريقة غير عسكرية، مثل الحديث عن دعوات لقيام إسرائيل بمساعدة الفلسطينيين علي التسلل الي سيناء والاستيطان هناك، حتي تتحول إلي امتداد مباشر لقطاع غزة، مع مصاحبة ذلك بحملات دعائية عالمية، يجعل من سيناء وطنا بديلا للفلسطينيين، بما يقضي علي فكرة تحرير الاراضي الفلسطينية المحتلة. ويشعر بعض المصريين بقلق تجاه انباء عن تزايد عمليات شراء الاراضي والمحلات والمنازل من جانب الفلسطينيين في سيناء فعلا. الانتخابات والجواسيس جميل أن تتابع وسائل الاعلام الإسرائيلية وهي تتساءل في حيرة: تري من سيفوز بالانتخابات البرلمانية؟ تري من الرئيس المصري القادم؟.. اسئلة لم يكن لها مكان من قبل في الاعلام الإسرائيلي، حيث كانت النتائج معروفة مسبقا. ولهذا بات الشارع هو المتحكم في مسار الامور، لانه هو من سيأتي بالبرلمان والرئيس القادم. من هنا يمكن فهم تزايد الدعوات داخل المخابرات الإسرائيلية الي زيادة الاعتماد علي التجسس البشري، بدلا من التجسس التكنولوجي، وزيادة اعداد الجواسيس داخل مصر، منذ هذه اللحظة، بهدف معرفة اتجاهات الشارع المصري، والبحث في وسائل التأثير عليه وتغييره، بما يخدم مصلحة إسرائيل بالدرجة الاولي. ولا شك أن اقتصادا قويا لمصر يضر بمصلحة إسرائيل، ومن هنا يمكن فهم دعوات الإضراب عن العمل في هذا التوقيت الحساس الذي تمر به البلاد. عندما يسمح للجهلاء بالبروز عبر وسائل الاعلام، دون أن يكون لديهم ما يقدمونه، سوي شعارات جوفاء، لا يعرفون معناها غالبا، فإن ذلك يعني تعميق التسطيح في الشارع المصري، وبالتالي يقدم هؤلاء ومن سمحوا لهم بالبروز هكذا خدمة جليلة لإسرائيل، سواء كانت مدفوعة الثمن، او مجانية تنطلق من حماقة. تركيا عندما وقف وزير الخارجية التركي، داود اوغلو، الجمعة الماضية، ليعلن عن طرد السفير الإسرائيلي من انقرة، وعن تجميد الاتفاقيات العسكرية معها، لم يكن يفعل ذلك بسبب تعاطيه حبوب الشجاعة الحنجورية، ولا ترديدا لشعارات جوفاء، وانما كان صوته يعلن ذلك انطلاقا من اقتصاد قوي، وجيش قوي، وتعليم قوي، وثقافة قوية. فقد كان الرجل يتحدث، غير عابئ بغضب امريكي او إسرائيلي، معتمدا علي ما حققته بلاده من نهضة شاملة خلال السنوات العشر الاخيرة، بفضل العمل والإنتاج والإخلاص والإجادة، وليس بفضل المظاهرات ولا الشعارات ولا الخطب الرنانة. بالتالي لا يجوز أبدا عقد المقارنات بين الموقفين المصري والتركي، لأن مصر تمر بمرحلة انتقالية، وتعاني عسراً في الاقتصاد والأمن والتعليم والثقافة، ويعاني الشارع عسراً في الفهم، لانه لا يجد سوي اناس يدفعونه الي النظر للخلف، يغرقونه بالحديث عن الماضي، ولذة الانتقام، عن دعوات لديمقراطية جديدة تصب بالتفصيل لصالح فئة من الفئات، بينما غاب الحديث عن المستقبل، والخطط، ومشروعات النهضة، وحلول الازمات التي تعانيها مصر. وتشعر مع تزايد المظاهرات والمطاالبات الفئوية أن مصر قد عملت وكدت وحققت ارباحا طائلة، بحيث اصبح من حق هؤلاء أن يطالبوا بنصيبهم من الارباح! بينما يقول الواقع انه ينبغي علي كل مواطن أن يتحمل نصيبه من المديونية التي تئن مصر تحتها. حتي الإسرائيليون أنفسهم يميزون بين أزمة العلاقات الإسرائيلية مع تركيا من ناحية، وأزمتهم مع مصر من ناحية اخري، وهناك إجماع بين المحللين الإسرائيليين علي أن العلاقات الإسرائيلية مع مصر "كنز استراتيجي" ينبغي الحفاظ عليه مهما كان الثمن، ولم يتورع البعض عن مطالبة جيش الاحتلال الإسرائيلي بعدم الهجوم علي قطاع غزة منعا لإغضاب مصر والمصريين، لأن الإسرائيليين أدركوا أن ما كان يمكن التصرف بشأنه سرا لم يعد مقبولا الآن. كامب ديفيد دعا كاتب إسرائيلي إلي إلغاء اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وقيام إسرائيل بمهاجمة "الجيوب الإرهابية" في سيناء، إذا فشلت مصر في السيطرة علي شبه الجزيرة المصرية. قال موشيه دان في مقال له بصحيفة يديعوت احرونوت، إن سيناء اصبحت مرتعا للسلاح المقبل من ليبيا والسودان وايران والمتجه إلي قطاع غزة. ادعت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن صواريخ مضادة للدبابات والطائرات تم نقلها من ليبيا إلي قطاع غزة، عبر سيناء. وبغض النظر عن إيماننا بحق الفلسطينيين بالتسلح الكامل لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، تصب كل هذه الأنباء والتقارير في خانة تأييد المطالب المصرية بتغيير اتفاقية كامب ديفيد، لاسيما البنود المتعلقة بإعداد ونوعية القوات المتمركزة في سيناء، استنادا علي الفقرة الثانية من المادة الاولي التي تؤكد حق مصر في أن تستأنف أعمال السيادة الكاملة علي سيناء، وبالتالي يحق لها أن تنشر فيها ما تريد وتحتاج من قوات امنية لحفظ الامن والاستقرار بها. كما أن الفقرة الرابعة من المادة الرابعة تنص علي إمكانية إعادة النظر في ترتيبات الأمن المنصوص عليها في الاتفاقية، بناء علي طلب أحد الطرفين. وقد سبق لمصر تقديم طلب لإسرائيل لتعديل ترتيبات الامن بالاتفاقية، لكن إسرائيل كانت ترفض، وكان أكثرها جدية منذ عامين، عندما طلب المشير حسين طنطاوي وضع كتيبتين عسكريتين مصريتين، قوامهما 10 آلاف جندي، في سيناء لحفظ الامن بها. لذلك لجأت مصر إلي تغيير كامب ديفيد علي أرض الواقع، دون موافقة إسرائيل، تنفيذ للفقرة الثانية من المادة الاولي التي تؤكد حق مصر في أعمال السيادة الكاملة علي سيناء، بما لا تحتاج معه مصر إلي إذن من أحد لفعل أي شيء علي أراضيها. ولم تجد إسرائيل والولايات المتحدةالامريكية سوي التسليم بالامر الواقع، والبحث عن صيغة تحفظ ماء وجهيهما، فجاء الحديث لاحقا عن موافقة إسرائيلية وتفهم أمريكي، وبدء ما يسمي بالحوار االعسكري بين مصر وإسرائيل لتعديل الاتفاقية علي الورق، بعدما تم تعديلها علي الأرض فعلا. كنا قد أشرنا مبكرا منذ وقوع عملية إيلات إلي أن مصر حصدت ثمن سحب السفير المصري من إسرائيل، دون أن تسحبه، وكشفنا حينها عن موقف المجلس العسكري الذي تمسك بتعديل اتفاقية كامب ديفيد، وخضعت له واشنطن وتل أبيب. وهو الامر الذي أثار المراقبين في إسرائيل، فراحوا يتحدثون عن تدهور امن إسرائيل، وتراجع قدرة الردع لديها، بسبب فشلل السياسة الامنية التي يتبناها نتنياهو وباراك. عندما تم الإعلان عن تدريب الجيش المصري ل13 من قبائل سيناء كي تساهم في حفظ الامن ومنع اعمال التهريب عبر الحدود، شنت إسرائيل هجوما علي أهل سيناء واتهامهم بمنح ولائهم لمن يدفع اكثر، في محاولة لافساد ما تم الاتفاق عليه بين القبائل والمجلس العسكري، وجميعها أمور تستهدف اثارة المشاكل وعدم الاستقرار بمصر، لاجبارها علي الانشغال بشئونها، ومنعها من التدخل في الملفات الإقليمية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.