يواجه السودان في الفترة المقبلة العديد من المهام الصعبة التي قد يكون من شأنها تغيير مصيره وبشكل نهائي. فمن ناحية يستعد السودان لخوض أول انتخابات رئاسية و نيابية ومحلية ديمقراطية منذ عام 1986 في أبريل المقبل، و تنشط جميع الأحزاب لتقديم مرشحيها وسط لغط سياسي متزايد. ومن ناحية أخري، بدأ العد التنازلي لإجراء الاستفتاء الشعبي العام حول مصير الجنوب في التاسع من يناير 2011. وعلي الصعيد العام، يستمرالسودان في معاناته من الصراعات القبلية و العرقية التي راح ضحيتها مؤخراً نحو 139 شخصاً من أفراد قبيلة الدنكا المنافسة بعد هجوم تعرضوا له من قبائل النوير في ولاية واراب في جنوب البلاد. وأشارت التقارير إلي أن أعمال العنف العرقي حصدت خلال عام 2009 أكثر من 2,500 قتيل. هذه التطورات كلها جعلت المراقبين ينقسمون إلي المتفائلين الذين يرون أن السودان يسير علي خطي إصلاحية واضحة ستتوجها بلا شك الانتحابات الرئاسية المقبلة. وهناك المتشائمون حول مستقبل السودان والذين يرون أنه ينزلق حثيثاً إلي حرب أهلية محتمة. الخوف من نتائج الانفصال وبينما يحتفل السودان بمرور خمسة أعوام علي اتفاق السلام الشامل الذي وقع في نيفاشا عام 2005 و الذي أنهي أكثر من عشرين عاماً من أسوأ حرب أهلية في إفريقيا راح ضحيتها نحو 2 مليون قتيل بينما تسببت في نزوح أكثر من 4 ملايين شخص عن ديارهم، أبدت نحو عشر من المنظمات الحقوقية و منظمات الإغاثة الدولية، في تقرير نشر في لندن، تخوفها من انهيار اتفاق السلام و انزلاق البلاد إلي حرب أهلية جديدة. وترجع أسباب الخوف إلي عوامل كثيرة أهمها النتائج التي قد تترتب علي خيار الانفصال في ظل تدهور الأمن في الجنوب السوداني، واستمرار الصراعات القبلية التي تستفيد من غياب الأمن في بعض المناطق النائية. هذا بالإضافة إلي ضعف البنية التحتية في الجنوب، و غياب قطاعات كبيرة من الخدمات، والشكوك المثارة حول قدرة جيش الجنوب علي حفظ وحدته الداخلية وحفظ الأمن في الجنوب. مشكلة جيش الجنوب تتمثل في تكوينه من عدد من الميليشيات المسلحة المنتمية لجماعات عرقية مختلفة، وشهد في الآونة الأخيرة بعض الاقتتالات الداخلية والخروقات لحقوق الإنسان. ومن ناحية أخري، أشارت المنظمات الحقوقية إلي ازدياد التوجه القمعي لحكومة الجنوب التي باتت تستخدم أساليب القمع كوسيلة لحفظ الأمن ووحدة الجنوب. ويرتبط الخوف من النتائج التي قد تترتب علي الانفصال بعدم تنفيذ معظم بنود اتفاق السلام حتي الآن مع العلم أن هذه الاتفاقية سارية حتي العام المقبل مما يعني أن المسألة أصبحت مسألة وقت قبل الإعلان عن فشل هذا الاتفاق إن لم تحدث تغييرات جذرية في خلال العام الحالي. وفي الوقت الذي رفضت فيه الحكومة السودانية فكرة الخوف من الانجرار إلي حرب أهلية و أكدت علي تفاؤلها بشأن مستقبل اتفاق السلام، حذر غازي صلاح الدين، عضو حزب المؤتمر الوطني و أحد مستشاري الرئيس السوداني، من أن الاستفتاء علي مصير جنوب السودان قد يؤدي إلي حرب إذا لم يتم التفاهم بخصوص عدد من الملفات الشائكة مثل ترسيم الحدود بين الشمال و الجنوب وهو الأمر المتعلق بعدد من المناطق الغنية بالنفط، والجنسية وهو ما يحدد مصير الآلاف من أبناء الشمال المقيمين في الجنوب و غيرهم من أبناء الجنوب المقيمين في الشمال، والديون الخارجية التي تصل قيمتها إلي 30 مليار دولار. قانون الاستفتاء وأقر البرلمان في ديسمبر الماضي قانون الاستفتاء لتقرير مصير شعب جنوب السودان، والذي بموجبه تنشئ رئاسة الجمهورية مفوضية استفتاء جنوب السودان تكون لها شخصية اعتبارية والحق في التقاضي باسمها. كما حدد القانون الشروط التي يجب أن تتوافر في الناخب بأن يكون مولوداً من أبوين ينتمي كلاهما أو أحدهما إلي أي من المجموعات الأصيلة المستوطنة في جنوب السودان منذ أو قبل الأول من يناير 1956م، أو تعود أصوله إلي أحد الأصول الإثنية في جنوب السودان. أو يكون مقيماً إقامة دائمة متواصلة دون انقطاع، أو يكون أي من الأبوين أو الجدين مقيما إقامة دائمة ومتواصلة دون انقطاع في جنوب السودان منذ الأول من يناير 1956. وحدد القانون أيضاً شرط اقتراع ما لا يقل عن 58% من عدد الناخبين المسجلين حتي يعتبر الاستفتاء قانونياً علي أن يعاد الاستفتاء بنفس الشروط خلال ستين يوما من تاريخ إعلان النتيجة النهائية في حالة عدم اكتمال النصاب. تكون نتيجة الاستفتاء قائمة علي الأغلبية البسيطة (50%+1) لأصوات الناخبين. التشكك في نزاهة الانتخابات أما علي صعيد الاستعداد للانتخابات، فقد اتهم تحالف المعارضة السودانية والحركة الشعبية، المعروف بقوي الإجماع الوطني - إعلان جوبا مفوضية الانتخابات بالتزوير في كشوف سجلات الناخبين وبالانحياز لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة الرئيس عمر حسن البشير. وطالب تحالف المعارضة بأن تكون الرقابة الأساسية علي الانتخابات رقابة حزبية جنباً إلي جانب الرقابة الدولية. كما طالبت بتعديل قوانين الأمن القومي القائمة منذ انقلاب عام 1989، و اعتبرت أحزاب المعارضة أن استمرار مثل هذه القوانين يحول دون إجراء انتخابات حرة و نزيهة حيث تعطي قوات الأمن السلطة المطلقة لاعتقال واحتجاز الأفراد ممن يشتبه باضرارهم بالأمن القومي لمدة تتراوح بين ثلاثة وتسعة أشهر. وعبر عدد من كوادر أحزاب المعارضة عن قلقهم من استخدام الحزب الحاكم لقوانين الأمن القومي لتقييد حرية المعارضة والأحزاب المختلفة أثناء الحملات الانتخابية، ووصفوها بأنها تتعارض مع مباديء الديمقراطية التي يفترض أن تعقد الانتخابات تحت مظلتها. وحتي الآن لم يتم تحديد قائمة المرشحين الرسمية، ولا يزال الترشيح قائماً حتي الثاني والعشرين من الشهر الحالي. غير أن هناك ثلاثة مرشحين حتي الآن هم الأكاديمي المستقل عبد الله علي إبراهيم، و عبد الله دنج نيال مرشح حزب المؤتمر الشعبي وليكون أول جنوبي يخوض المنافسة علي الانتخابات الرئاسية، و مبارك الفاضل المهدي مرشح حزب الأمة-الإصلاح و التجديد. ويرجح أن يقوم حزب الأمة القومي بترشيح زعيمه الصادق المهدي. مشاكل شريكي الحكم المؤشرات الأولية كلها تشير إلي أن خيار الانفصال أصبح الخيار الأقرب إلي التحقيق وسط تكرر الخلافات المستمرة بين شريكي الحكم اللذين يتبادلان الاتهامات بالفساد وسوء الحكم و السلطوية. واتهم الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان باقان أموم حزب المؤتمر الوطني باحتكار المؤسسات وممارسة الطغيان في الحكم و التدخل في شئون المؤسسات و الوزارات التي يقودها جنوبيون. ووصف نظام الدولة الراهن ب"الفاسد" لانعدام الشفافية والديمقراطية فيه. مشاكل شريكي الحكم لم تنحصر في تبادل الاتهامات بينهما فقط، وإنما تخطت ذلك إلي استمرار المناورات السياسية والخلافات حول العديد من القضايا المهمة، و التي كان آخرها قانون الاستفتاء الذي تم التصديق عليه مؤخراً بعد فترة طويلة من السجال السياسي. فبينما رأت الحركة الشعبية أن انفصال الجنوب يمكن أن يقرر بأغلبية بسيطة (أكثر من 50 %)، نادي المؤتمر الوطني بأن تكون النسبة 75%. كما دعت الحركة الشعبية لأن تقتصر المشاركة في الاستفتاء علي الجنوبيين المقيمين في الجنوب، بينما رأي المؤتمر الوطني أن يشارك كل الجنوبيين الموجودين في الجنوب والشمال وخارج السودان. ومع هذه الاختلافات، فإن القانون النهائي الذي تم التصديق عليه في البرلمان الشهر الماضي يعد بمثابة نجاح سياسي لحزب المؤتمر الشعبي. علي الرغم من القلق المثار حول الوضع الراهن في السودان، إلا أنه ينبغي لنا أن نتذكر أن السودان قد مر في السنوات الخمس الماضية من عمر اتفاق السلام الشامل بأزمات عنيفة و متكررة ولكنها لم تتمكن من إجهاض نوايا السلام. المشكلة الخاصة بالسودان تتمثل في طبيعة التكوين العرقي والقبلي للمجتمع وطبيعة الصراعات القبلية علي الموارد و المياه و الأرض، و هو الأمر الذي سيتحتم علي كل من الشمال و الجنوب التعامل معه سواء تم الانفصال أم لم يتم. الخطر الحقيقي الذي أشارت إليه المنطمات الحقوقية ومنظمات الإغاثة في تقريرها هو عدم قدرة حكومة الجنوب من الحفاظ علي وحدته وأمنه في حال الانفصال، و هو الأمر الذي يستدعي توفير آلية لاستقلال الجنوب إذا تم الاستفتاء علي الانفصال تكون تحت إشراف قوات حفظ أمن دولية وبرعاية دولية. وهذا ما أشارت إليه المتحدثة باسم الكتلة النيابية لحزب الخضر الألماني للشئون الخارجية كيرستين موللر والتي دعت لعقد مؤتمر دولي للدول الضامنة لاتفاق السلام من أجل وضع استراتيجية وخطة عمل تلزم الأحزاب والأطراف المتنافسة في السودان الابتعاد عن استخدام العنف. كما تعهدت الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنرويج بالالتزام الكامل بدعم جهود السلام والاستقرار في السودان وبتقديم الدعم للأطراف السودانية لضمان التطبيق الكامل لاتفاق السلام الشامل.