شهد السودان في الأيام الأخيرة موجة جديدة من القلق بعد تشكيل الحكومة الجديدة في الرابع عشر من الشهر الجاري وسط انتقادات داخلية موسعة من المعارضة التي اتهمت حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالعمل علي احتكار السلطة وتضييق المشاركة السياسية علي الأطراف الأخري. ووصفت المعارضة السودانية الحكومة الجديدة بأنها "مترهلة" وتنذر بتبديد بنود اتفاق أبوجا للسلام بين الشمال والجنوب. و لم تتوقع المعارضة أن تكون للحكومة الجديدة فاعلية تذكر في مواجهة التحديات الكثيرة التي علي البلاد التعامل معها قبل إجراء الاستفتاء الشعبي حول مصير الجنوب في يناير المقبل. حكومة جديدة بوجوه قديمة يذكر أن تشكيل الحكومة الحالية يجيء علي خلفية إجراء الانتخابات التشريعية والمحلية و الرئاسية في الحادي عشر من إبريل الماضي. وعلي الرغم من أنها تعد الانتخابات التعددية الأولي في البلاد منذ عام 1986، إلا أنها أسفرت عن تزايد حدة الأزمات السياسية و الخلافات بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم وبين شريكه في الحكم الحركة الشعبية لتحرير السودان و أحزاب المعارضة. وكان الرئيس السوداني عمر حسن البشير، و الذي فاز في الانتخابات الرئاسية، عقد أعلن عن تشكيل الحكومة الجديدة و التي ضمت 77 وزيراً من بينهم 7 نساء مع استحداث أربع وزارات جديدة هي وزارة الكهرباء والسدود، ووزارة المعادن، ووزارة النفط، ووزارة التنمية البشرية والطرق والجسور. وحصلت الحركة الشعبية لتحرير السودان، الشريك الثاني في حكومة الوحدة الوطنية، علي تسع وزارات منها النفط، ومجلس الوزراء وتولاها القيادي البارز في الحركة الذي كان يشغل وزارة مجلس الوزراء بالجنوب لوكا بيونق، ووزارة الشؤون الإنسانية للوزير جوزيف لوال أشويل، ووزارة الاستثمار للوزير جورج بورينق، ووزارة التعليم العالي للوزير بيتر أدوك، والصحة للوزير عبد الله تية، والتجارة الخارجية للوزير إلياس نيامليل، والنقل للوزير شول رام بانق. أما حزب المؤتمر الوطني الحاكم فقد احتفظ ببقية الحقائب مع إجراء تغييرات بسيطة في المراكز مما جعل المعارضة تصف الحكومة الجديدة بأنها تغيير طفيف لنفس الوجوه القديمة. ومن المتوقع أن يستمر عمل الحكومة لدورة خمس سنوات غير أن نتيجة استفتاء الجنوب في يناير المقبل قد يجعلها آخر حكومات السودان الموحد. ومن الملاحظ في الحكومة السودانية غياب كوادر ممثلي المعارضة بعد أن فشل الرئيس البشير في إقناعها بالمشاركة. كما يلاحظ فيها أيضاً سحب الحركة الشعبية لتحرير السودان كوادرها البارزة منها فيما رآه المراقبون بأنه استعداد منها لتشكيل حكومة الجنوب المستقل بعد الاستفتاء علي مصير الجنوب. استياء داخلي وقوبل تشكيل الحكومة الجديدة باستياء داخلي لا سيما من المعارضة. ووصف حزب الأمة القومي المعارض في السودان برئاسة الصادق المهدي الحكومة الجديدة بأنها أضيق قاعدة من حيث التأييد السياسي من الحكومة السابقة، وأعلن حزب الأمة في بيان صحفي عن ترتيبات يقوم بها لإنشاء سبعة منابر قومية بهدف أن "تكون ترياقاً جماهيرياً مضاداً لاحتكار القرار في أيدي التسلط والقهر الشمولي". وأعلن زعيم حزب الأمة، عدم مشاركة حزبه في الحكومة الجديدة، ووصف المشاركة في الحكومة بناء علي نتائج الانتخابات وبرنامج حزب المؤتمر الوطني ب "الانتحار السياسي". كما انتقد الناطق باسم الحزب الاتحادي الديموقراطي حاتم السر التشكيل الوزاري الجديد وقال انه جاء مجرد "حلول ترقيعية تعكس حالة الاضطراب والتخبط التي تعيش فيها البلاد حالياً". واتهم حاتم السر حزب المؤتمر الوطني بإهدار فرصة ذهبية للتغيير، وانتقد الزيادة الكبيرة التي طرأت علي عدد الحقائب الوزارية حيث تم رفع عدد الوزارات من 31 إلي 35 بالإضافة إلي 42 وزير دولة ووصفها بأنها ستزيد من معاناة وهموم المواطنين الذين تعيش الغالبية العظمي منهم تحت خط الفقر. أما زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد فوصف الحكومة الجديدة بأنها تغيير في الوجوه لا السياسات، و لم يتوقع لها القدرة علي مواجهة التحديات الحقيقية للسودان المتصلة بالجنوب أو بدارفور أو الحريات والتحول الديموقراطي أو تحقيق تقدم اقتصادي. بوادر إيجابية وعلي الرغم من انتقادات المعارضة، جاءت تعليقات بعض الدبلوماسيين الأجانب المقيمين في السودان إيجابية حيث وصفت تشكيل الحكومة الجديدة بأنها محاولة لتفتيت مراكز القوي التقليدية وإعطاء الفرصة لمشاركة وجوه ودماء جديدة من الشباب و النساء والأطراف السياسية المختلفة و من بينها إعطاء 9 وزراء ووزراء دولة لإقليم دارفور. وعلي الرغم من غياب المعارضة، هناك مشاركة للمجموعات الحزبية الصغيرة إذ احتفظ زعيم الحزب الاتحادي جلال الدقير بمنصب وزارة التعاون الدولي كما احتفظت جماعتا الإخوان المسلمين وأنصار السنة بوزير دولة لكل منهما بينما تولي تيار من حزب الأمة برئاسة أحمد بابكر نهار وزارة السياحة والآثار. وعلي الرغم مما وصفه البعض بأنه محاولة للبشير بإشراك إقليم دارفور بشكل أكثر إيجابية، فقد توعد خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة المتمردة في إقليم دارفور الحكومة السودانية بمواصلة المواجهة إذا رفضت ما أسماه الحل السياسي. وأضاف إبراهيم خليل "سندخل الخرطوم في الوقت الذي نريده، وهو ليس ببعيد إذا أصر النظام علي التنكر لحقوق شعبنا والاستمرار في الإبادة، لأن الجيش السوداني منهار تماما، ليس جبناً، لكنه لا يريد أن يقاتل نيابة عن القطط السمان في الخرطوم". اتفاق سياسي وليست ديمقراطية من ناحية أخري، ذكر متحدث باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان أن تشكيل الحكومة الجديدة جاء بناء علي اتفاق سياسي بين شريكي الحكم أكثر منه تعبيراً عن نتيجة الانتخابات التشريعية التي أجريت في أبريل الماضي. وأعلن ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان أن اللجنة المشتركة مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم للسودان توصلت إلي اتفاق علي تخصيص ثلاث وزارات للحركة الشعبية في ولاية الخرطوم ومثلها للمؤتمر الوطني في حكومة الجنوب المركزية، وأن تحصل الحركة الشعبية علي منصب وزير في كل ولاية بالشمال، ومثلها للمؤتمر الوطني في كل ولاية بالجنوب. وفي الوقت نفسه، اتهمت الحركة الشعبية لتحرير السودان حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالسعي إلي عرقلة الاستفتاء علي تقرير مصير الجنوب المقرر في بداية العام المقبل. وأعلنت خطة لمواجهة خطط الحزب الحاكم لتعطيل إجراء الاستفتاء تتألف من خمسة محاور، آخرها إعلان الاستقلال من داخل برلمان الجنوب. وقال الأمين العام للحركة باقان أموم إن "المؤتمر الوطني بدأ استثماراً في تخريب الأمن" في إقليمالجنوب الذي يتمتع بحكم ذاتي، وأكد أن حكومة الجنوب و الحركة الشعبية تعملان لمواجهة التحديات الأمنية ومخططات الحزب الحاكم لمنعه من خرق الاستفتاء، وأضاف أن "حكومة الجنوب لها القدرة علي السيطرة علي الأوضاع الأمنية وتفويت الفرصة علي المؤتمر الوطني وإجراء الاستفتاء في موعده". الوحدة الطوعية و السلام ومن جانبه، وصف الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم محمد مندور المهدي الحكومة الجديدة بأنها ستكون قادرة علي مواجهة التحديات التي تواجه البلاد، ومنها إنزال البرنامج الانتخابي إلي أرض الواقع بالإضافة إلي تحديات استفتاء جنوب السودان وتحقيق الوحدة الطوعية و قضية دارفور وإعادة توطين النازحين. وكان الرئيس السوداني عمر البشير قد أشار أثناء أداء الوزراء الجدد اليمين الدستوري إلي أن التحدي الأكبر الذي يواجه حكومته الجديدة هو تحقيق الوحدة الطوعية والسلام. وكانت الفترة الأخيرة قد شهدت تجددا لأعمال العنف وتبادل اتهامات بين شريكي الحكم حول تزكية الفتنة القبلية والعمل علي إفشال الاتفاق علي إجراءات عقد الاستفتاء و تحديد صلاحيات مفوضية الاستفتاء. وبدأت حكومة جنوب السودان والفريق المشترك للمانحين بحضور ممثلي البنك الدولي والأممالمتحدة وعدد من المنظمات غير الحكومية بحث ترتيبات الاستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان وتعهدت واشنطن بتقديم 60 مليون دولار أمريكي للمساعدة في عملية الاستفتاء بينما أعلنت الأممالمتحدة عن تقديم دعم بمبلغ 80 مليون دولار أمريكي. ترسيخ الانفصال تشكيل الحكومة السودانية الجديدة يشير إلي استمرار الإشكاليات التي سادت أثناء إجراء الانتخابات العامة من انعدام الثقة بين الأطراف السياسية و تبادل الاتهامات. وكانت الانتخابات الماضية قد شهدت العديد من المفاجآت بعد إعلان الحركة الشعبية لتحرير السودان سحب مرشحها الرئاسي ياسر عرمان من السباق الانتخابي الرئاسي وكذلك سحب جميع مرشحيها في ولايات دارفور. وبعد هذا الانسحاب أعلنت أربعة أحزاب رئيسية في المعارضة السودانية هي حزب الأمة (مرشحه الصادق المهدي) والحزب الشيوعي (مرشحه إبراهيم نقد) حزب الامة للاصلاح (مرشحه مبارك الفاضل) وحزب الاتحادي الديمقراطي (مرشحه حاتم السر) مقاطعتها الانتخابات الرئاسية والتشريعية متهمة الحكومة السودانية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم بارتكاب خروقات وبالتزوير في الإعداد لهذه الانتخابات. وأدت هذه المفاجأة إلي تغيير المناخ التنافسي في الانتخابات الرئاسية بحيث انسحب بذلك أقوي منافسي الرئيس البشير لتبقي في السباق حزب المؤتمر الشعبي المعارض الذي يتزعمه الشيخ حسن الترابي و حزب التحالف الوطني الديمقراطي برئاسة المرشح العميد المتقاعد عبد العزيز خالد وذلك بالإضافة إلي خمسة مستقلين فقط و مرشحي بعض الأحزاب الصغيرة. ربما يكون تشكيل الحكومة هو بالفعل اتفاق سياسي بين شريكي الحكم كانت معالمه قد بدأت تتضح منذ إجراء الانتخابات، غير أن المؤشرات كلها تدل علي أن هناك تعطل للحياة السياسية في السودان بعد انسحاب المعارضة واستمرار الحركة الشعبية لتحرير السودان في العمل علي ترسيخ الانفصال والإعداد له سياسياً.