سأل الفيلسوف أرسطو رجلا من مدينة كورنثة عن أهلها، فقال الرجل : جميعهم كذابون ، فكر الفيلسوف قليلا ً ثم غمغم : لو أنك صادق لكذبتْ عبارتُك ، ألست كورنثيا ً ومع ذلك تقول الصدق ؟ وهذا يعني أن أهل كورنثة ليسوا جميعا ً كذابين . ولو كنت كاذبا ً لامتنع علينا تصديق عبارتك أساسا ً إذاً فالعبارة باطلة في الحالين . لنتذكر تلك الأمثولة ونحن نناقش مغالطة جماعة الإخوان حول قضية الديمقراطية .. فلقد دأب قادتها مذ أعلنوا نبذهم للعنف ، مستبدلين به العمل السياسي علي القول بأنهم يقبلون الديمقراطية . وهو قول كان حريا ً بالترحيب ، لولا إردافه بشعار " الله غايتنا ، والقرآن دستورنا ، والرسول زعيمنا ، والموت في سبيل الله أسمي أمانينا " والحق أن هذا الشعار ربما كان مناسبا ً لأن تعمل به جمعية ٌ إسلامية في سياق الدعوة ، وهل يرفض مسلم أن يكون الله غايته ، والرسول زعيمه وقائده ، وأن يكون الموت في سبيل الله أسمي أمانيه ؟ بيد أن عبارة " القرآن دستورنا " هي التي تحتاج إلي مناقشة دستورية . فهلم إليها . الدستور Constitution كلمة وافدة لم تعرفها اللغة العربية فيما قبل العصر الحديث ؛ حتي أن الفراهيدي والرازي وابن منظور والفيروز آبادي ( تباعا ً) لا يذكرونها البتة في معاجمهم تحت الجذر اللغوي " دست " . غير أنها ما لبثت حتي شقت طريقها إلي اللغة العربية بعد أن أصدر السلطان عبد الحميد أول دستور للدولة العثمانية عام 1876 حينئذ قامت بإثباتها المعاجم ُ الحديثة مثل محيط المحيط للبستاني، ومتن اللغة للشيخ أحمد رضا ، والمنجد للمعلوف ، ثم الموسوعة العربية الميسرة .. وتكاد جميعها أن تتفق علي معناها القانوني الاصطلاحي ّ : مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها . ضبط المصطلح في كتابه الطريف " أخبار الزمان " سجل المسعودي ما ظنه تاريخ الأمم الغابرة ، وبغض النظر عن الخرافات التي لا تصدق والواردة بهذا الكتاب ( مثل وجود شجر كالفروج تصيح واق واق ! ومثل السمك الطائر في السماء ، ومثل امتناع آدم عن مضاجعة حواء لمدة 170 سنة بعد مقتل هابيل ...الخ) فإن تعبير الزمان في مفهوم تلك الثقافة القديمة إنما كان يعني التاريخ . ذلك ما اصطلح عليه المؤرخون وقراؤهم وقتها . علي أن الفيزيائيين المعاصرين اكتشفوا أن الزمان ( الوقت ) مدمج في نسيج المكان غير منفصل عنه أو مستقل بذاته، فكان أن كرسوه كبعد رابع لأي جسم يتحرك في الفضاء . فاتحين الباب بذلك - ولو من حيث المبدأ - أمام إمكانية السفر إلي الماضي أو المستقبل ، عبر ما يسمي بالأنفاق الدودية بين المجرات . والمستفاد من هذا لموضوعنا أن المصطلح - أي مصطلح - لاغرو يبدل من عصر لعصر ، ومن ثقافة لثقافة ، بل ومن حقل معرفي لغيره من الحقول . كانت اللغة الفارسية تقصد بكلمة الدستور : الدفتر الذي تسجل به رواتب الجند .. لكن دولة إيران اليوم تعتمدها بالمعني الاصطلاحي المعاصر كما بيناه في الفقرة السابقة . والسؤال هنا لجماعة الإخوان المصرية : ماذا تقصدون بكلمة الدستور؟ وهل يرتب القرآن الكريم مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ؟ هل يوضح ما إذا كان شكلها ملكيا ً أم جمهوريا؟ هل يحدد طريقة معينة لاختيار رئيس الدولة ؟ بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولمن يكون حق التصويت ؟ لأهل الحل والعقد أم للشعب جميعه؟ وهل الشعب هو الرجال فحسب أم الرجال والنساء؟ وعند أي سن يكون لهؤلاء ممارسة ذلك الحق؟ وهل يوافق القرآن الكريم علي نظام سياسي أساسه التعددية الحزبية؟ أم هو مع الاحتكار السياسي Monopoly وفق نموذج الاتحاد القومي الناصري؟ ليس دستورًا سياسيًا القرآن الكريم لا يجيب علي مثل تلك الأسئلة ، لسبب بسيط هو أنه ليس دستورا ً سياسيا ً حسب المصطلح الحديث . لنقل إنه المرشد والموجه للإنسان المسلم في المجالين الروحي والأخلاقي.. لكن الدولة إدارة وتبعات ومسئوليات تجاه رعاياها مسلمين وغير مسلمين في الداخل ، وتجاه غيرها من الدول إسلامية وغير إسلامية في الخارج . لذا فلقد صار لزاما علي الدولة الحديثة أن تضمن دستورها بنداً يؤكد أن مبدأ المواطنة أساس لانتماء الجماعة الوطنية لها ، وآخر ينص علي مساواة رعاياها في الحقوق والواجبات دون تفرقة بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون ، كما صار لزاما ً عليها أن تحمي حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير دون انحياز منها لأحد ، أو الوقوف بالضد علي أحد . ومن الواضح والحال هكذا أن جماعة الإخوان لا يقبلون بدستور الدولة الحديثة ، بل يسعون لتفكيكه تمهيدا ً لإقامة الدولة الدينية ، تلك التي انهارت بسقوط الخلافة العثمانية في عشرينات القرن الماضي ، حين عجزت عن تحديث آليات حكمها ، وعن التعامل مع معطيات العصر وشروطه. الأغلبية مفهوم محض سياسي يلجأ الفكر الإخواني - بشطارة التاجر القديم - إلي خلط الأوراق الدينية بأوراق السياسة ، حين يركز ممثلوه علي واقعة كون أغلبية المصريين مسلمين ، ومن ثم يعتبرون أنفسهم ممثلي الأغلبية ! دون التفات إلي الأوضاع الطبقية لهؤلاء المسلمين .. كأنما يكفي اشتراك الرأسماليين المسلمين في الديانة مع أجرائهم لكي تتطابق المصالح ، نسوق هذا مثالا ً لا حصرا ً علي تنوع المواقف والرؤي والتوجهات السياسية بين الكتل الاجتماعية في العصر الحديث . فالطبقات والفئات الكادحة بمسلميها ومسيحييها لها مطالب متجانسة تختلف حتما ً عن غايات رجال المال والأعمال الذين يتكاتفون معا ً لا يعكر عليهم اختلاف دياناتهم . وهؤلاء وأولئك لا سبيل أمامهم لتحقيق مطالبهم سوي خوض المعارك السياسية.. كيف ؟ بإنشاء ( أو الانضمام إلي ) الأحزاب المعبرة عن وجهات نظرهم . وتقضي قواعد اللعبة السياسية الحديثة بحق الحزب الحاصل علي أغلبية أصوات الناخبين في تولي مهام الحكم ، مع بقاء الأقلية في الملعب بهيئة معارضة شرعية تنشر أفكارها وبرامجها بين الناس لتكسب قناعاتهم وبالتالي تظفر بأغلبية أصواتهم في الانتخابات التالية ، فتشكل حكومة جديدة بينما تنتقل الحكومة السابقة إلي موقع المعارضة وهلم جرا . ذلك هو مبدأ تداول السلطة في النظام الديمقراطي ، المبدأ المستند إلي آلية الانتخابات . ومن الواضح أن هذا المبدأ لم ينبثق قط من أرضية الدين ، بل هو حصاد للزرع السياسي الحديث في كل مكان من عالمنا المعاصر. ثمة أمر فارق آخر ما بين مصطلحي الأغلبية السياسية ، والأكثرية المنتسبة لدين معين .. ففي ظل الواقع السياسي يمكن لشخص أن ينسحب وقتما يشاء من حزبه ليلتحق بغيره ، بل ويمكن لأعضاء حزب بأكمله أن ينتقلوا لحزب آخر دون أن يصابوا بأدني ضرر( حدث هذا بالفعل في مصر) لكن أحدا ً لا يغير دينه بمثل هذه البساطة .. ذلك أن الدين ثابت بينما السياسة متغيرة ، وكذلك الدساتير. المغالطة الإخوانية الكبري علي أن الانتخابات ليست سوي وسيلة لتحقيق حكم الشعب ، وذلك هو معني كلمة Democracy التي هي كلمة يونانية ، لم تجد نظيرا ً لها في العربية، فعربت علي مضض ، وبنيت علي المصدر الصناعي لتُقرأ: ديمقراطية. وبنفس الشطارة التجارية الالتفافية ، ذهب الإخوان إلي إعلان قبولهم بالديمقراطية ، مادام معناها يظل منحصرا ً في الوسيلة (الانتخابات لمرة واحدة وأخيرة ) دون الغاية التي هي حكم الشعب وسيادته ووعيه بنفسه كمصدر للسلطات . فأما الإخوان فيضمرون سلب هذا الوعي من الناس بشعارهم البراق : القرآن دستورنا ، قائلين بكامل الثقة " اسألوا الناس . اسألوا الأغلبية " قاصدين بذلك الترويج - في سياق أيديولوجيتهم - لمفهومهم المغالط عن مصطلح الأغلبية. فماذا لو أن أغلبية الناس - تحت تأثير الدعاية الدينية الجارفة - قررت وب "حريتها" الانتخابية أن تأتي بالإخوان إلي موقع السلطة؟ تتنازل عن حريتها السياسية ، وبهذا تنتفي حريتها الانتخابية أصلا ً، ومن ثم تغدو عبارة " قررت بحريتها أن تتنازل عن حريتها..." غلطا ً لا غش فيه. ولنقرأ ثانية أمثولة الفيلسوف أرسطو والرجل الذي من كورنثة ، والتي سقناها في مطلع المقال.