اثارت الكاتبة سكينة فؤاد في العديد من مقالاتها قضية السياسة الزراعية التدميرية للنظام السابق والتي قضت علي المحاصيل الاستراتيجية التي كانت تنتجها مصر واشتهرت بها.. وقالت في احدي مقالاتها بالحرف الواحد بتاريخ 16 - 8 - 2010 : "النظام قام بحماية مافيا الاستيراد ودعمها من جيوب المصريين وسكت عن تبوير الأراضي الزراعية لبناء المنتجعات فوقها.. الحكومات المصرية تبنت زراعة 100 فدان فراولة تشتري بثمنه 200 فدان قمح فضاع الأمن الغذائي حماية لأمن الكنتالوب والبطاطس.. يلتزم النظام المصري في مسألة زراعة القمح بمقولة الامريكي هنري كيسنجر بأن زراعة القمح مسألة سياسية وليست مسألة زراعية.. فإدراك مايمثله القمح للأمن القومي لاي شعب من الشعوب يحتاج الي إرادة وقرار قومي ووطني". ولقد كان الفن سباقا في الاعتراف بقيمة الزراعة في حياة المصريين.. كما اكد ان الحضارة المصرية بدأت بالزراعة . وليس اجمل من تأمل حياة وكتابات المفكر الفنان حامد سعيد " 1908- 2006 " صاحب مدرسة " الفن والحياة " والذي يؤكد أيضا بأن فكرة التوحيد كانت نتاج التأملات من خلال الزراعة. مجتمع الوفرة في كفر الشرفا من ضاحية المرج عاش حامد سعيد لفترة في خيمة وسط الفلاحين هناك وعلي نفس الارض بني له صديقه المعماري العالمي حسن فتحي بعد ذلك بيته عام 1942 وكان أول مابني فتحي من تلك العمارة البيئية التي اشتهر بها وقبل قرية "الجرنة "بأربع سنوات . وكانت علاقة سعيد بالفلاحين جيرانه هناك علاقة مودة ..يأتون إليه في المساء وينساب الحديث.. وذات مرة قال لهم أتدرون كيف قضي الصينيون علي العصافير.. قالوا كيف ؟.. وكان رده: بالمقلاع والضجيج عن طريق الطرق علي الصفيح.. وكانت دهشتهم و تعليقهم :وليه يابيه يقضوا علي العصافير.. دول بيأكلوا معانا !!.. وهنا كان تعليق سعيد البليغ : وهذا هو ما يجسد مجتمع الوفرة الذي شكل حضارة مصر !!. والذي ينطبق عليه المثل المصري الشعبي : "ربنا مايحوج فأرنا لجارنا !!" وفي كتاباته العديدة لايخلو حديثه عن الزراعة ..من بينها تلك الكراسات الصغيرة مثل " روح الفن المصري " و" رسالة المتحف المصري " ..يقول : " من همجية الصيد وتجوال الرعي الي استقرار الزرع والارتباط بالارض والفراغ للفكر ورفع أسباب الحضارة وفنون السلم.. نمت العمارة من البدايات الاولي من المواد الخفيفة الي الحجر لتصبح رمزا ملموسا يردد أحلام النفس في الاعماق من معاني الثبات والاستقرار" . " كما ان مرأي الحبة الصغيرة تشق الارض بعنفوان غريب هو سر النمو وبذلك السلاح البض الدقيق وانطلاقه نحو النور وتفتحه للحياة بعزم ولين يكسبه القدرة علي النقاء والنماء والتكاثر.. يجلو في النفس معاني الحكمة الزراعية التي عبر عنها بطرق متعددة في ذلك الفن : فالرياضة قبل ان تكون عددا كانت خبرة وهناك الوان من الجمال الرياضي اذا تأملناه يتبدي في الاثار الفنية الجميلة والذي اكد هذا الرباط الوثيق بين الانسان والطبيعة والذي حتمته وفرضته الزراعة علي الانسان !!" والزراعة هي تلك الخبرة الكثيفة التي تتجاوز الفن وتمتد في كل اتجاه : " من اكتشاف السنة لفصولها لأول مرة في التاريخ وتقسيمها الي اشهر واختراع الساعة وبداية علوم الفلك والهندسة والحساب الي العناية بالزينة الشخصية : من تصفيف الشعر وتنسيق العقود ومن محاسبة النفس ورمزها الميزان في الآخرة الي تنظيم المجهود الجماعي وتوحيده وتوجيهه " . "ان فضل الزراعة علي الفن والحياة في مصر.. ذلك الصمت المستقر الحكيم الذي يتجاوب من أعماق تلك الآثار.. صمت الاكتفاء والاكتمال ورؤية الكل الكامل ..وما الذي يمحو القلق من النفس ويثبت الطمأنينة ويؤكد الأمل مثلما نري في النحت البارز المصري الهامس المنعش الباسم" . و..صور الفن وقد تألق الفن المصري الحديث بالارض والفلاح ومواقيت الري ومواسم الجني والحصاد.. كما غني لتفتح النوار وتوحد السواعد وانتظام الصفوف في العمل مع الأمل من اشراقة الصبح وتساقط الندي الي الليالي القمرية التي تتوهج بالذهب الاصفر في سنابل القمح وتشهق بالابيض في لوزات القطن . وربما كانت لوحة "الشادوف - 1934 " لمحمود سعيد والتي تمثل ايقونة الفن في الزراعة المصرية من بين الاعمال التي تشدو خلفيتها بسحر الطبيعة المصرية وتعدد عناصرها من النيل والجبل والنخيل والسهول وحاملات الجرار وهي ملحمة تصور فلاحين يضخون مياه الري. ولقيمتها التعبيرية وقيمة سعيد بيعت بمبلغ مليوني دولار منتصف عام 2010 وهو أكبر ثمن يدفع في لوحة لفنان من الشرق الاوسط . ويضج الحقل بحركة الحياة في لوحة الرائد راغب عياد بنفس الاسم 1956.. لوحة رأسية تحتشد بحركة العمل في صور من الانشطة العديدة الدائبة وهي زاخرة بالشخوص والحيوانات . وقد توهجت لوحة حسن سليمان " النورج - 1963" بتلك الثنائية الشاعرية من النور والعتمة والشروق والمغيب مع المسطحات اللونية خاصة الحلقة الدائرية والتي تمثل جرن القمح وفي تلخيص واختزال شديد ومن فرط الضوء الابيض تشع اللوحة بتنوع السطوح الافقية متمثلة في انبساط الارض واتصالها بالافق وفي تحليله للحيوان المتمثل في زوج الثيران واللذين يجران النورج.. اتجه الي الاسلوب التكعيبي حتي يتناغم مع الهندسيات في الخلفية . وما أجمل لوحة " الريف البهيج-1959 " لصلاح طاهر والتي تفيض بالبهجة وروح الحياة مع بنات القرية المصرية في ايقاع تعبيري وألوان مشرقة متفائلة من الأحمر والفوشيا والاخضر الزرعي والاصفر المضييء والبني . وتقف فلاحة بملامح الرضا والتفاؤل بينما يجلس زوجها بنظرة فيها التحدي والاصرار علي النجاح في لوحة جاذبية سري " من وحي الاصلاح الزراعي ". . كما تصور انجي افلاطون الفلاح المصري بلمسات من النور يحمل فأسه بملامح التوثب والاشراق . وينقلنا مصطفي احمد الي دنيا من السحر الكوني في لوحته " العمل في الحقل " والمسكونة بخمسة شخوص نحيلة يرفعون الفئوس وتتكاثف السحب في الافق الذي يتصل بالارض في وحدة واحدة رغم التباين اللوني من الداكن في الارض الي المضيء في السماء . وتتالق مواسم الجني والحصاد كما في لوحة محمد لبيب الغنية بحركة الفلاحين مع الذهب الابيض في ايقاع فنتازي يموج بالأبيض البريء والبنفسجي والأزرق والأحمر البرتقالي . ويطل النيل في مطروقة جمال السجيني النحاسية ذات الايقاع العرضي.. بهيئة رجل حكيم يمتد بطول اللوحة محفوفا بالصور والرموز من النخيل والفلاحات والزروع والبيوت والاهرامات.. كل هذا في أغنية بصرية رصينة . أما منحوتة " فلاح بعباءة" لاحمد عبد الوهاب والتي شكلها في سطوح هندسية فنطالع فيها صورة لعمق الشخصية المصرية المسكونة بالأسرار ..كما يعكس الغول علي احمد صورة للفلاح الفيلسوف في تشكيلة " الفلاح المفكر " والذي يجلس رافعا رأسه متأملا في الفراغ . ولاشك ان فلاحة احمد عثمان تمثل صورة للجلد والصبر والرضا يبدو فيها براح ورصانة الشخصية المصرية..بقوة البناء ورصانة التشكيل . وفي لوحة "نحو الحقل" لعبد الله جوهر تتأكد تلك الصيغة من ارتباط الفلاح بالارض وهو متجه مع افراد اسرته وحيوانات الريف الي دنيا الأمل والعمل . تلك كانت بعض الاعمال التي غنت للحياة في الريف من أجل الحصاد والنماء وجلب الخير وهي من بين صور عديدة تحقيقا لمعني مجتمع الوفرة الذي شكل الحضارة المصرية . ومع ثورة 25 يناير سوف تعود مصر مرة أخري زراعية منتجة.. وأيضا صناعية بالمعني الحقيقي تعتمد علي كل وسائل التكنولوجيا الحديثة.. ستعود قوية من جديد.. وسيظل الفن يعلمنا . .