سافرت إلي بيروت يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 بعد منعي من السفر مرتين متتاليتين في أغسطس وأكتوبر الماضي. لم تكن أحداث ميدان التحرير قد بدأت بعد ولكن معالم الارتباك كانت واضحة!!، فللمرة الأولي في تاريخنا المعاصر جري ختم الجواز وتسليمه لي بصورة مباشرة فقلت أن ثمة خطأ ما ولا بد من إعادتي للسين والجيم وإلا فإن النظام الكوني الأمني قد أصابه خلل والقيامة توشك أن تقوم. لم يخيّب القوم ظني إذ سرعان ما قاموا بالنداء علي (الإرهابي الهارب) ليبدأ السين والجيم ومن أين وإلي أين في نفس الوقت الذي كانت مصر تتهيأ فيه للانفجار علي بعد كيلومترات قليلة تفصل هذه الأجهزة مكانيا عن الانفجار الآتي لا ريب فيه، أما المسافة التي فصلت بينهم وبين الحقيقة والواقع فهي آلاف السنوات الضوئية (إنهم عن السمع لمعزولون)!!. بعد فترة احتجاز لم تطل أطلقوا سراحي وسمحوا لي بالسفر دون تفتيش دقيق هذه المرة فقلت في نفسي: خير اللهم اجعله خير!! هناك كارثة كونية قادمة!!. أن يسمح لي بالسفر فهذا يعني أن ليس كل شيء تحت السيطرة إذ أننا أول دولة تمكنت من السيطرة علي الزلازل!!. وصلت إلي بيروت أياما قليلة بعد سقوط حكومة سعد الصغير الطفل المدلل لحكومتنا والذي كان يتهيأ لإعلان (ثورته الشعبية) التي لم تختلف شيئا عن الثورة المضادة التي أعلنها فلول الحزب الوطني علي المتظاهرين في ميدان التحرير مستعينة بالجمال والحمير والبغال حيث دمروا وأحرقوا وأطلقوا رصاص القناصة علي كل من صادفهم متئكين علي دعم ما كان يعرف بعرب الاعتدال. لا فارق بين من ركبوا الجمال والبغال والحمير ومن عقولهم عقول البغال والجمال والحمير. فشلت ثورة سعد الصغير وهو ما شكل نذير شؤم لحزب الجمال والبغال والحمير وكان عليهم أن ينتبهوا أن الحمير لم تعد تقدر علي القيام بدورها السياسي والفكري، ولكن أحدا لا يراقب ولا يرصد ولا يفكر ولا يتعظ!!. وبينما كانت قوي المعارضة اللبنانية السابقة تتهيب الإقدام علي إسقاط حكومة سعد الصغير المدعومة اعتداليا وأمريكيا ولولا الفرصة التاريخية التي وفرها الإعلان الأحمق لوزير خارجية العربية السعودية عن رفع غطائه عن لبنان وإلغاء مفاعيل السين سين لما تمكنت المعارضة من إسقاط الحكومة ولكنه الحين ومصارع السوء. العجيب أن إحدي حكومات الاعتدال العربي المزعوم كانت قد أرسلت فريقا من القناصة للمشاركة في انتفاضة سعد الصغير وكان أن حوصر هذا الفريق وجري تخييره بين العودة الفورية علي قدميه أو العودة في صناديق فلم يكن ثمة خيار أمام هؤلاء الأشاوس إلا القبول بالعرض الأول. إنها سياسة تصدير الفشل من مكان إلي مكان (كناْقُلُ الرَّدَي عَلَي ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِع إِلَي مَوْضَع، لِرَأْي يحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْي، يرِيدُ أَنْ يلْصِقَ مَا لاَ يلْتَصِقُ، وَيقَرِّبَ مَا لاَ يتَقَارَب)!!. ثم يحدثوننا عن دور مصر الريادي في العالم العربي ويصرخون في مواجهة التدخل الأجنبي وياليتهم صمتوا وظلوا بلا دور من هذا النوع. انعدام تام للإدراك وفقدان لوعي الزمان والمكان بعد كل ما جري في المنطقة وإصرار علي الغي والمكابرة وكأن الهيمنة الأمريكية الصهيونية قدر أبدي وهي أكذوبة لم يكن هناك من يصدقها إلا من أطلقها ووسائل إعلام لا تمتلك ذرة من مصداقية لا تجيد إلا السب والشتم والصلف والغرور ناهيك عن الجهل!!. أليس الجاهل عدو نفسه؟! فشل حاملو السلاح في بيروت كما في القاهرة لأنهم بلا عقيدة ولا مبدأ اللهم إلا ولاؤهم لمن يدفع. في المنصورة تكرر نفس المشهد البائس عندما أطلقوا مظاهرة لتأييد النظام وفي طريق جانبي وقف السيد اللواء (...) يراقب الموقف ويشرف علي غوغائه وعندما رآني صافحني وقال أنا فلان، زميل الدراسة!! قلت له كم عدد من حشدتم في هذه المظاهرة؟!، قال قووول عشرة آلاف!!، قلت له: قووول ألفين إلي ثلاثة آلاف!!، قال: ماشي، قلت له كم دفعتم لهم؟!، قال: قووول: اثنان إلي ثلاثة ملايين... قلت له بسيطة كله من دم الشعب... قال ما عادش هناك شيعة ولا سنة!!، قلت له من الذي صنع معركة شيعة وسنة ألستم من صنع هذا!!. النجم الساطع حالة من جنون العظمة وغرور القوة اعترت هؤلاء القوم وهي حالة لم تكن تحتاج إلا إلي قدرة محدودة علي الملاحظة ليدرك المرء أن المصير الحتمي لهذا المسار هو الهاوية السحيقة لا فارق بين ما يجري الآن وما جري في يونية عام 1967 مع فارق جوهري أن كارثة يونية كانت حشدا فاشلا في مواجهة العدو أما الوضع الحالي فنجم عن حشد في مواجهة الداخل المصري والعربي. حالة من جنون العظمة حولت السلطة إلي وحش ضار يغتنم الفرصة لالتهام فرائسه دون مراعاة لأي قانون أو لأي قيمة أخلاقية رغم كل ما نزل بنا وبهم من مصائب خلال الفترة الماضية ورغم تساقط الأنظمة الديكتاتورية الحليفة حولهم كما يتساقط الفراش في النار. نظام لم يستخدم العفو والتسامح يوما مع من وضعهم في خانة الأعداء ممن لم يبدأوه يوما بعدوان وكان يلاحقهم ويسلط الأعداء عليهم ويتلذذ بسماع أناتهم وتوجعهم ويري ذلك دليل قوة وتمكن وقدرة علي المواصلة والاستمرار. إنه الظلم والتجبر الذي أوصلنا إلي هذا الحال التي لا نري خلاصا منه إلا بتغيير شامل يسبقه اعتراف حقيقي بما وقع من تجاوزات لم تكن يوما ما حالات فردية بل سياسة مخططة ومتعمدة من أعلي المستويات ومن ثم فنحن لا نري مخرجا ممكنا من هذه الورطة عبر بعض الإجراءات الشكلية والجزئية بل لا بد من الإقرار والاعتراف ومحاسبة كل من تجاوز أولا علي الحق العام يلي ذلك محاسبة من تجاوزوا علي حقوق الأفراد. كما أن سياسات الإصلاح بالترقيع لم تعد تقنع أحدا ولن تكون قادرة علي إعادة الأمور إلي طبيعتها ولا تعدو كونها محاولة لتأخير القدر المحتوم. من دون ذلك وقد حانت الفرصة وتوافرت الرغبة الوطنية في التغيير فإن النجاح في تبريد هذا الانفجار يعني شيئا واحدا هو التمهيد لتفجير آخر ربما كان أسوأ منه وأشد هولا. لا نري مبررا واحدا للإصرار علي المكابرة والتعامل مع المنتفضين وكأنهم جماعة غاضبة جري الاستجابة لبعض مطالبها المحقة وعليهم أن يعودوا لبيوتهم لتتمكن نفس الفئة المسئولة عن مصائبنا من تحسين الصورة ومواصلة الاستئثار والضرب بيد من حديد علي كل من تسول له نفسه المطالبة بحق المشاركة ودعونا نحكم في صمت!!. أمن الدولة أم دولة الأمن؟! ماذا جنت مصر من ثلاثين سنة طوارئ سوي تحول جهاز أمن الدولة إلي دولة قائمة بذاتها لا تحترم عرفا ولا قانونا ولا تأبه بحكم قضائي ولا تقيم وزنا لأحد؟!. الجواب جاء واضحا عندما انسحبت هذه الأجهزة من الشارع بل وسارعت إلي تسليط عصاباتها المسلحة لإشاعة الرعب والفزع بين الناس!!. إنه الفشل الحقيقي الذي يأبي من قام به حتي هذه اللحظة أن يقر مسئوليته عنه وتلك هي الكارثة العظمي. يقول الإمام علي بن أبي طالب: (إِياكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيهِينُ كُلَّ مُخْتَال. أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوي مِنْ رَعِيتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّي ينْزعَ وَيتُوبَ. وَلَيسَ شَيءٌ أَدْعَي إِلَي تَغْييرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَي ظُلْم فَإِنَّ اللهَ سَميعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ).