ما أحوجنا إلي معرفة الكثير والكثير عن التعايش السلمي وعمق العلاقة والحب والود بين عنصري الأمة مسلمين واقباط في شتي ربوع مصر منذ قديم الازل، وها هو أحمد عبد الغني الشاعر والباحث الجنوبي المسلم خطيب الجمعة في المساجد يجوب القري والنجوع ويلتقي بالآباء والجدات والأمهات القبطيات ليجمع العدودة القبطية، ويقدمها لعشاق التراث الشعبي، فكان أول باحث أدبي علي مستوي مصر يقوم بذلك العمل المهم الذي يعد إضافة كبيرة ونقلة هائلة في مجال الأدب الشعبي من أجل الحفاظ علي هذا التراث من الضياع والهوية المصرية من الاندثار وتعريف الأبناء والأحفاد بمكنون هذا الموروث الكبير الذي يعمل علي ربط الماضي الجميل بالحاضر، الكتاب يعد العمل الخامس للشاعر فقد صدرت له دواوين: الشاعر والناس، الطلوع المر، طيور السما، الفارس والجواد، وأصدره الباحث علي نفقته الخاصة ويتمني أن تعيد هيئة قصور الثقافة طباعته ليظل هذا التراث باقياً في القلوب والعقول ويتناقل عبر الأجيال، وهومقسم إلي اثني عشرفصلاً وهي: عدودات عامة الناس، عدودات الأطفال، عدودات العذراء، عدودات النَفسَه، عدودات القرابني، عدودات الشماس، عدودات القمص، عدوات المطران، فن الواو، عدودات الراهب، عدودات الراهبة، المندبة المسيحية، ولم يجد الباحث بهذه العدودات كلها كلمة تناولت ذكر الباخرة أو القطار أو الطائرة، ما يؤكد رؤيته للعدودة القبطية أنها تراث مصري قديم يرجع تاريخه إلي العصور الوسطي، شاركه في العمل وأرشده إلي أماكن الجمع في الجنوب بداية من مدينة نجع حمادي ومسقط راسه قرية بهجورة ودشنا وقراها مثل أبو مناع وعزب النصاري، مروراً بالأقصر وقراها مثل الكرنك وخزام وصولاً إلي الريايينة بمركز أرمنت، وأرمنت الوابورات، الشاعر والباحث فتحي أبو المجد الذي يقول في مقدمته لهذا الكتاب: بدراسة هذه الحصيلة من النصوص النادرة، وجب تبويب وتصنيف كل مجموعة من العدودات علي حدة وإحالتها إلي أقسام اجتماعية وأنماط ثقافية تختص بذاتها فعدودات الكبار لها نسقها الظاهرعن عدودات الأطفال وصغارالسن، وكذلك الرجال عن النسوة، كان لابس التاج والخواتم خوص/ عيل بيلعب وماسك كعاب البوص/ وسط العيال بيجري / ومزوق الأعياد/ والخويصه حزنت لما الولد ماعاد، هذا من ناحيتي المرحلة العمرية والحالة النوعية، أما من ناحية الحالة الفئوية، فالملاحظ أن هناك تباينًا واختلافًا تعبيريا مابين عدودة المتوفي الشاب أو الشابة عن الراحل الصبي أوالصبية، فوق الكنيسة وزقزق القمري/ ورحت فين ياحبيبي ياعمري / فوق الكنيسة ووقفت يابوفصادي/ ورحت فين ياعمري ياحصادي/ فوق الكنيسة وزقزق الزرزور/ ورحت فين ياحبيبي ياغندور، كذلك عدودة الفتاة العذراء الراحلة قبل الزواج أو التي توفيت بين أهلها لكنها مخطوبة، يختلف منطوق عدودتها عن تلك المرأة التي تزوجت أوالمحرومة من الذرية أو المتوفية أثناء ولادتها وهي" نفسه " عدراء كانت قنديل منور ف وسطينا/ ومن غناها الحلوة بتطربنا وتحيينا/ عنيها بحورتتوه مراكب تروح وما تجينا، وهناك اختلاف ظاهر ما بين عدودات المراتب الدينية، فالشماس غير القرابني غير القمص، وصولاً إلي أعلي المستويات الدينية في قداسة المطران، وهناك عدودات مخصوصة لأحزان الرحيل علي الراهب والراهبة، وعدودات تقام خصيصاً في وفاة الشخصيات المهمة أو ذات المقام الرفيع، والغرض التعبيري في كل العدودات يخلص إلي تناول حياة الإنسان المرتحل كحالة مفردة، وذكر بعض مآثره وآماله وطموحاته، وصفاته كالوفاء والكرم ومحبة الناس والعطف علي الفقراء، وأما الشخصيات الدينية كالقمص والقرابني والشماس والراهب وغيرهم تسمو العدودة معهم في لغة خطابها، لما لهذه الشخصيات من قداسة واحترام وتقدير داخل المجمع الكنسي والمجتمع القبطي والمصري علي وجه العموم، وتميز العدودة هؤلاء عما عداهم، وإفراط الأنين والتوجع علي رحيلهم، إنما هو إطناب في التبجيل واعتراف بعلو المكانة، مات الحبيب وف ايده انجيله/ شاف المسيح ساند ومديله/ سافر ولم البركه ف منديله/ وكان يادنيا غرقانك / ولاحد يمد له ايده، ونتمني يدخل الجنة/ ايده ف ايد سيده، ولهذا تتعدد الطرز التعبيرية في رثاء أولئك القديسين، حتي ترتدي أثواب التعدد القولي قوالب شتي من فنون التعبير، فمن النظم إلي السجع صعوداً إلي المربع، الدنيا تبكي علي فرقة المطران / والخلق تبكي وتترش بالقطران / أمانه يامسافر كترالأحزان / دا العيشة مرة والقليب حزنان، وتواصل العدودة القبطية الاحترام والتبجيل الكبير لتلك الشخصيات الدينية من أدني مراتبها إلي أعلاها، جاني الخبرقلبي انقسم نصين/ والهم سكين الحشا علي راهبنا الزين/ يابحر حكمه ومحبه واللي زيك فين/ ياراهبنا يا مفارق حنبكي عليك سنتين/ ونشتاق الدوا واللمه والبركات/ ونفتكر اللي عملته في عمرنا اللي فات/ إحنا حنفتكرك بالجبنوت وبالدعوات،ولأن هذا الإسهاب التعبيري يؤكد سمو فكرة الحزن عند الأخوة الاقباط، وعلوها في نفوسهم فالكل راحل ومن بقي سينهل من كأس الحزن علي من فقد، لكن الحزن سيبقي عدودة باقية بقدر ذوات من رحلوا من الحياة، الطاعة تشهد له وأدب يفوق الكل / شماس وطبه جميل ريحته تفوق الفل/ لو ينده القسيس يصحي يرد يطل/ بتحبه كل الناس وهو ليهم خل/ ولما خطفه فراق الكل شربوا الخل / يبكوا بدمع غزير والكل نام ف الطل، والعدودة القبطية تحفل بإيقاع موسيقي ملموس قد يدخلها مباشرة في نطاق المربعات وفن الواو الشعري الشفاهي الأكثر انتشاراً في بيئات جنوب الصعيد، وهو فن ذائع الصيت لانه يجري علي ألسنة البسطاء والعامة، خاصة الكبار والعجائز منهم، ومن هذا السياق مربع في عدودة الراهب، يادنيا ياخاينه/ وبتخطف الراهب / عند القبور ياصليب/ كله صبح راهب، والعدودة القبطية تحتفظ بنقائها وعفويتها، ورونق قاموسها اللغوي، فظلت ترتدي ثوبها التاريخي العتيد، وظل النطق والتغني بمفرداتها كما وردت وحفظت ورددها المجتمع المسيحي علي مدار دهورمتعاقبة، لم تصل إليها أيادي التعديل، حتي من قبل السيدة الندابة التي تحفظ كل ما وصل إليها من هذا التراث، وترتله دامعة علي رحيل من ماتوا في مجالس الأحزان،ورغم أنه يبكيها ويدميها، فتستمر في التطلع إليه بعين التبجيل والاحترام، كنصوص مقدسة ومتواترة، لايجب غبنها أو التجرؤ بالعبث بها، بل يجب المحافظة عليها، ياعم يا قرابني ويسد بعدك مين/ ياعم يا طيب وبس اللي زيك فين/ لم الدقيق م البيوت وفاته علي حاله/ هاتوا لنا أكبر عياله يعدل له أحواله/ يخبز ويعجن يصبح قرابني حلو قربانه/ كفنوا القرابني المفارق فنه وصلبانه، والعدودة القبطية وأن تراوحت تراكيبها اللفظية والشكلية هي نصوص مصرية أصيلة، يرجع تاريخها في بلادنا إلي العصور الوسطي، والدليل علي ذلك غناها بتعبيرات وتشبيهات وكنايات محلية، فمفردات الحزن من نتاج البيئة المصرية، وذكر الشهور القبطية والمناسبات والأعياد الدينية كعيد الخويصة، وهي مناسبة دينية معروفة عند إخوتنا الأقباط، كل هذا يحمل عبقاً مصرياً، كذلك ذكر أنواع شتي من الطيور والزروع والسوائل، وأيضاً فن الواو كان ولا يزال فناً مصرياً، نشأ وترعرع في الجنوب، واستمر باقياً بها حتي الآن، مطران وجاله ولد حَداد/ وفتح ضرفتين بابه/ حزين وتوبه حِداد / ميت أبوه في شهر بابه، ونجد ذكر النباتات يأتي خاصة في عدودات العذراء، وهي الحزينة الأبدية التي ماتت قبل إتمام فرح زواجها، وملاقاة مصيرها في بيتها الأخروي والجنة التي تبدو أحن وأفضل وضعاً من سكنها الدنيوي، ياعدرة الأيام زرناكي ف ديارك/ لا جينا نهني ولا بنبارك/ جينا حزاني وبيبكوا أحبابك/ والقلب دايب وزاعق لنا غرابك/ مين اللي وداكي ومين جابك/ بيتك الجديد أحسن ولا القديم أحسن/ بيتي الجديد قدامه كترت الموده وحرمت الدخله/ بيتي القديم قدامه دومه وحرمت النومه، وفي النهاية يؤكد الباحث فتحي أبوالمجد علي أن تجميع وتسجيل هذا القدرالوافر من العدودات القبطية، هوالسبيل لإنصاف أحد موروثاتنا الشعبية المنسية، قبل أن تطمر المدنية الحديثة في زحفها المتواصل، ما بقي من تراث أصيل لمجتمعاتنا الجنوبية، ومنها هذا اللون من التراث متمثلاً في العدودة القبطية التي حافظ عليها المجتمع المسيحي الجنوبي، كإرث روحي مكنوز، وإن ظل احترام هذا الإرث قيمة متواصلة، لكنه دام باقياً دون فتح مكامنه المغلقة، ومن ثم التوقف عنده بالبحث والدراسة كواقع ثقافي وإبداعي مؤكد، لايمكن إنكاره، أو إغفال منابعه وروافد بيئاته التي أنتجته.