ومن هنا كانت حملة الهجوم عليه واتهامه بالإساءة لسمعة مصر ، ممن يرون أن التصدي لأي قضية تكشف عن أمراض اجتماعية يعد إهانة لهذا الوطن الكبير . بل راح البعض يؤكد أن الفيلم يدعي وجود ظاهرة ليس لها وجود فعلي. بينما راح آخرون يهاجمونه بضراوة بل ويطالبون بمنعه ، باعتباره يدعو من خلال أحداثه الفتيات لمقاومة التحرش باغتيال عضوالذكورة . فهل تستحق الظاهرة كل هذه المناقشات وهل يستحق الفيلم كل هذا الاهتمام ؟ بداية لا أعتقد أن هذا الفيلم كما يزعم صناعه ، وكما يؤكد أيضا معارضيه والمطالبين بمنعه هو أول عمل يتناول هذه الظاهرة بجوانبها المتنوعة التي أبرزها. فمصطلح التحرش الجنسي هو مصطلح لم ينتشر ضمن مفرداتنا اللغوية الشائعة إلا بعد قصة بيل كلينتون الشهيرة مع سكرتيرته غير الحسناء مونيكا . ولكن فيلم 678 يتعامل مع مدلول هذه الكلمة أوإطار الظاهرة لتشمل الإغتصاب الجماعي والمغازلات التليفونية ، فضلا عن موضوعه الرئيسي وهومجرد الملامسة والاحتكاك بالإناث سواءا في الأتوبيسات العامة ، أو المناطق المنعزلة أو بالإعتداء الخاطف بالحافلات المتحركة علي السائرات علي الاقدام . مدلول المصطلح وفي الحقيقة أن لفظ التحرش في اللغة قد يتضمن كل هذه المعاني . والتحرش الجنسي هو أي قول أو فعل يحمل دلالات جنسية تجاه شخص آخر يتأذي من ذلك ولا يرغب فيه. والتعريف بهذا الشكل يجمع بين الرغبة الجنسية والعدوان من طرف إلي طرف بغير تراض . وطبقا لهذا المفهوم يمكننا اعتبار كل الأفلام التي تدور حول الاغتصاب تعبر عن جانبا من هذه الظاهرة ومنها : ( الثأر ) و( الأوباش ) و(اغتصاب ) و(المغتصبون) . ومعظم هذه الأفلام جاءت كرد فعل أوتسجيل لحوادث هتك عرض فعلية ومن أشهرها حادث فتاة العتبة الشهير الذي وقع في بداية الثمانينات . لكن الذي لاشك فيه هو أن 678 هوأكثر الأفلام إحاطة بالقضية من مختلف جوانبها... وأكثرها عرضا لحوادث حقيقة استنادا علي ملفات وقضايا ، وبمنهج يمزج بين الأسلوب الدرامي والتسجيلي . وبينما يري البعض أن الفيلم لا يلتزم الحقيقة ويعبر عن واقع غير حقيقي ، فإن مشكلة الفيلم في رأيي أنه يتعامل مع المسألة بروح البحث . ولا يسعي لأن يحقق إطارا محددا لرؤيته التي يوسعها باتساع مدلول الكلمة حتي لو تعارض هذا الاتساع مع المصداقية . فالالتزام بالواقع الحقيقي لا يعني بالضرورة تحقيق دراما قوية ومقنعة . فكثيرة هي الأحداث الواقعية التي تبدوأقرب للخيال ، أو التي لا تعبر عن حالات جماعية بقدر عرضها لحالات فردية . وفي هذا الإطار يبدو من غير المناسب التصدي لمشكلة فتاة الاتصالات التي تلعب دورها ناهد السباعي. فالفتاة التي تعمل في مجال الترويج للمبيعات عبر التليفون، هي بالتأكيد مدربة علي مواجهة مثل هذا النوع من المواقف أوالشخصيات اللزجة التي تسعي لإقامة علاقة مع أي صوت نسائي يرد إلي سمعها . وعلاوة علي هذا فالشخصية التي يقدمها الفيلم هي علي قدر من الذكاء والجرأة واللباقة تدفعها لمواجهة جمهور من المتفرجين عندما تسعي للعمل كممثلة ستاند أب كوميدي . أي أنها تتجاوز بكثير تلك الحالة من العجز علي مواجهة مواقف مثل هذه . كما أن المغازلات السمجة من هذا النوع وإن كانت قد تندرج في المعني الاصطلاحي لكلمة تحرش إلا أنها تحدث في العديد من المجتمعات دون أن تجرمها الكثير من القوانين ، بل إن اعتبارها نوعا من التحرش في مجتمعات مثل مجتمعاتنا تهبط بالمدلول الواقعي للكلمة إلي أدني مستوياتها وتضع من تشكو منها في خانة المرفهات . وتضعف من قيمة القضية التي يطرحها الفيلم وتفتح مجالا للسخرية من موضوعيته وجديته التي لا شك فيها. حالات فردية وعلي جانب آخر تأتي بعض الحالات كحوادث فردية لها خصوصيتها ويصعب تعميمها ويصعب ربطها بالظاهرة العامة مثل الزوجة صبا التي قامت بدورها نيللي كريم والتي وقعت ضحية للاغتصاب في زحام ليلة الاحتفال بالفوز علي الجزائر . ومن هنا يصبح الربط بين الحالات هو ربط تعسفي بين مجموعة من النساء لم يقعن ضحية لظاهرة وإنما لظروف خاصة . ولا يربط بينهن عوامل اجتماعية أو ظروف اقتصادية ، بل يبدو أن المسألة هي أقرب لتحالف ثلاثة من النساء أصبن بحالة من المرض النفسي . الأولي نتيجة تعرضها لحادث اغتصاب جماعي وتخلي زوجها عنها والثانية نتيجة لتربيتها المرفهة وضيقها من مجرد معاكسات تليفونية . وحتي الثالثة فايزة - بشري - التي كان يمكن اعتبارها حالة عامة كضحية لأمراض وأخلاق الزحمة في الأتوبيسات العامة ، إلا أنها تتحول أيضا إلي مريضة نفسيا تستمتع بطعن الرجال في الزحام بمدية في أعضائهم الذكرية ، حتي ولو لم يتحرشوا بها. وعلي الرغم من هذا فإن الفيلم بأسلوبيته التسجيلية التي تضفي قدرا من المصداقية والشمول ، وببنائه البصري الذي تتسع وتمتد أفاقه ، وبمونتاجه المؤثر والمعبر يتمكن من التوليف بين الشخصيات والوقائع ، ويجعلها في حالة من التواصل والامتزاج. أي أن التعبير السينمائي يتمكن من التغطية علي بعض القصور في البناء الدرامي وهي مسألة تحسب لمخرج في عمله الأول . والمفترض أنه قادم إلي عالم السينما من بوابة كتابة السيناريو. ولا أعتقد أن الفيلم كان يمكن تمريره رقابيا لو لم تكن هذه الشخصيات والأزمات بهذا الطابع من الخصوصية . وعلي الرغم من هذا فإن فيلم كهذا كان لا يمكن أن يخرج إلي النور لولا الطفرة التي يعيشها حاليا جهاز الرقابة في فكره وأسلوبه المتطور في التعامل مع الأعمال الفنية التي تناقش مشكلات المجتمع بجرأة . يتحقق هذا بعد القفزة التي حققها الفنان مدكور ثابت بما أضافه إلي الجهاز من لمسة أكاديمية وروح ديمقراطية استنادا إلي مجلس شوري النقاد الذي كانت تعرض عليه الموضوعات المثيرة للجدل . كما استطاع الناقد علي أبوشادي أن يحل كثيرا من المشاكل بخبرته الإدارية وقدراته الدبلوماسية . أما الدكتور سيد خطاب رئيس الجهاز الحالي فهو يضيف لمسة من روح الفنان المتفهم لطبيعة العملية الفنية والباحث عن مخرج أووسيلة لمساعدة الفنان لإخراج إبداعه إلي النور .. والمدرك حقيقة لدوره كمسئول ولواقع مجتمعه ولظروفه ولحق الفنان في التعبير عن هذا الواقع بأسلوب فني. وبهذا الفكر أصبحت الرقابة شريكا ومعاونا للعملية الفنية وليست خصما يلزم مواجهته أوالتحايل عليه بالأساليب الملتوية . أمراض مستترة وهكذا فإن صراع صناع فيلم 678 وصناع أي عمل فني جاد يهدف إلي نقد المجتمع هو ليس صراعاً مع جهاز الرقابة وإنما مع تيار رجعي من هذا المجتمع يسعي إلي التستر علي أمراضه . ولا يرفض فقط عرضها ولا مناقشتها ولكن حتي مجرد التلميح لها أو الاقتراب منها . ففي دراسة للدكتور أحمد عبد الله عام 2006" تبين أن أكثر من 60% من الفتيات يذكرن أنهن تعرضن للتحرش خلال حياتهن. وفي دراسة للدكتور علي إسماعيل وآخرين (2006) علي المرضي المترددين علي عيادة الأمراض النفسية بمستشفي الحسين الجامعي تبين أن 9% من العينة قد عانوا من الانتهاك الجنسي في فترة من فترات حياتهم أو حياتهن.وفي دراسات تمت في المجتمعات الغربية تبين تعرض الفتيات للانتهاك الجنسي بنسبة 13% وتعرض الفتيان بنسبة 4%، والانتهاك هنا يتراوح بين هتك العرض والزنا والاغتصاب. -الدكتور محمد المهدي/ استشاري الطب النفسي - الموقع الاليكتروني بيوتنا ." وتعبر هذه الأرقام المتفاوتة والمثيرة للتعجب بوضوح عن هذا التستر الغريب علي امراض مجتمعنا والذي يؤدي كثيرا إلي فشل الإحصائيات أو استطلاعات الرأي البحثية في الوصول إلي نتائج صادقة ومعبرة بصورة حقيقية عن مشكلاتنا وهمومنا وأمراضنا . وبذلك يصبح الفنان مضطرا لأن يلعب أدوارا لا تخصه من المفترض ان تلعبها مؤسسات إجتماعية وتربوية وإعلامية . ولهذا فإن أهم ما يحققه فيلم 678 هوحالة الحراك والنقاش والجدل الذي يدور في قاعات العرض بين مؤيد لأحداث الفيلم ومعارض لها .