ليس من شك أن الإستفادة من تجارب الآخرين ودراستها دراسة واعية وسليمة تعود بالنفع علي المرء، وقد دعت الحاجة الملحة والمشكلات الطارئة التي تواجه أي مجتمع للبحث عن حلول للقضاء علي كل مايعيق تطورها أو يقف حجر عثرة إزاء تقدمها.. ولعل المشكلة الكبري التي تواجه أي مجتمع نامٍ هي مشكلة الزيادة السكانية ذلك أنها تلتهم كل خطط التنمية وتسحق معدلاتها مهما تعددت وواجهت وتعافت من عثراتها وهي في سبيل السعي للقضاء عليها.. تجربة أنديرا غاندي وليس ببعيد أن نقلب صفحات الكتب لنجد أن حكومة السيدة أنديرا غاندي رئيسة الوزراء الهندية السابقة سعت وعلي وجه التحديد للبحث عن مأزق للخروج من مشكلة زيادة السكان في تلك البلاد خاصة في العام 1974م والهند في تلك الأونة كانت تعاني من أن حجم السكان فيها بلغ خمسمائة مليون نسمة يقضون علي كل خطط التنمية للبلاد.. لم تجد حكومة أنديرا وقتها سوي استخدام وسائل أشد قمعاً لمواجهة تلك الزيادة التي تلتهم الأخضر واليابس بعد أن جربت كل الوسائل الممكنة وفشلت، وهنا تقدم وزير الصحة بمشروع قانون سرعان مالقي استجابة وتم البدء في تطبيقه.. كان قانوناً تعسفياً وضد كل الأعراف والتقاليد والعادات، كما أنه كان ضد الطبيعة البشرية التي جلبت علي أن الإنجاب هو شيء أساسي كغريزة إنسانية وتري في الإنجاب وسيلة من وسائل استمرار الحياة وضرورة من ضروراتها.. وصدرالقانون الجائر الذي قضي بضرورة إنشاء "معسكرات تعقيم الرجال " الذي بدأ العمل في إنشائه علي قدم وساق حيث يتوجب علي كل مواطن هندي سبق وأن أنجب ثلاثة من الأبناء أن يتوجه لتلك المعسكرات تمهيداً لإجراء عملية لتعقيمه بناء علي أوامر الحكومة وقوانينها المغلظة، وشمل القانون اعتقال كل من تسول له نفسه عدم الرضوخ لمواد القانون بل وإكراهه علي التوجه لإجراء عملية التعقيم قسراً، وسعت الحكومة بالضرب بيد من حديد علي من لا يطيع أوامرها بأن منعت صرف المقررات التموينية له ولأسرته، وفرضت حصاراً علي عدم تمكنه من الحصول علي العلاج المجاني كما حظرت استخراج تراخيص لسيارته، بل وبلغ من عنت الحكومة وتحديها قيام رجال الشرطة بتضييق الخناق علي المواطنين الذين يرفضون الإنصياع لتلك الأوامر، لدرجة قيامها باقتحام متجر أحد المواطنين وهددت بإحراقه مالم يتقدم من تلقاء نفسه لإجراء عملية التعقيم له علي الرغم من أن زوجته تعدت مرحلة القدرة علي الإنجاب.. وعلي مدي عام كامل استطاعت الحكومة تعقيم مايربو عن ثمانية ملايين مواطن إلا أنها لم تستطع الاستمرار بسبب ما واجهته من مظاهر عنف ومصادمات واحتجاجات وخرجت الأراء بأن أمراً كهذا يعد تحدياً للطبيعة البشرية وضد الأعراف وبالتالي فإنه يشكل تهديداً لأساس المجتمع، ومن هنا بدأت الحكومة في التراجع، وعادت إلي سابق عهدها وزادت معدلات الإنجاب. ومن خلال الدراسات والأبحاث رأت الحكومة ما لفت انتباهها، ووجدت حلاً فيما فشلت في تطبيقه ذلك أن ولاية مثل ولاية " كيرالا " الواقعة في أقصي الجنوب من البلاد نجحت فيما فشلت فيه كل مساعي الدولة من أعمال تعقيم الرجال دون قهر أو عنف أو دعاية أو شعارات من أي نوع أو من حملات استفزازية تقوم بها قوات الشرطة . وبعد دراسات مستفيضة للوصول إلي الحل الذي جعل ولاية مثل " كيرالا" تعاني استقرار في عدد سكانها، خاصة أنها في حد ذاتها لا تختلف كثيراً عن باقي ولايات الهند لا في خصوبة أرضها ولا في مستويات الثراء، فسكان الولاية يعملون جميعاً في مهنة الزراعة حيث يزرعون الأرز والشاي والتوابل من حبهان وفلفل وغير ذلك مما يعد من مصادر الدخل لديهم، إلا أن الأمر وصل في البحث فوجدوا أن المواطن في هذه الولاية لا يكاد يملك سوي الأدوات التي يحتاج إليها في عمله وكذلك تلك الوسائل التي يستخدمها في إعداد طعامه، وزيادة في ذلك وجدوا أن متوسط عمر المواطن في تلك الولاية يكاد يقارب متوسط عمر المواطن الأمريكي 72 سنة : 77سنة إلا أن متوسط دخل الأول إلي الثاني يصل إلي نسبة 1: 70 منه . وتوصل المسئولون من خلال الدراسات والأبحاث إلي أن المجتمع السكاني في كيرالا مستقر بالنسبة لباقي ولايات البلاد.. الركيزة الأساسية ووجدوا أن التعليم كان هو الركيزة الأساسية التي اعتمدت عليها نهضة ولاية كيرالا وكان سبباً رئيسياً في ضبط معدلات الإنجاب فيها، ولم يكن التعليم بمفهومه الأشمل والأعم والذي يتحلي بشعارات وأساليب مباشرة هو السبب بل كان التعليم في مجمله يهدف إلي تعليم القراءة والكتابة والحساب، وانصب اهتمامه بالتركيز علي تعليم المرأة بالذات لما لها من كبير الدور في هذا الصدد.. ففي أواخر ثمانينات القرن الماضي اتجهت جهود حكومة الولاية للاضطلاع بتلك المسئولية وشاركتها مجموعة من منظمات تطوعية بذلت جهوداً مضنية وصفت بأنها خارقة للعادة علي كل الأصعدة والمستويات وراحت تنتشر في كل بقاع الولاية وأصقاعها تحمل علي كاهلها مهمة القضاء علي الأمية بكل السبل، وعلي مدي سنوات ثلاث وفي العام 1991م أعلنت الأممالمتحدة أن ولاية كيرالا هي الولاية الوحيدة في الهند بأسرها التي استطاعت أن تصل بنسبة المتعلمين فيها إلي مائة بالمائة دون إجبار أو عنف أو قهر بفضل عشرات الألوف من المؤمنين بهذا الشأن نذروا أنفسهم متطوعين لتحقيق إنجاز كهذا، بل واستطاعوا انتشال نحو مائة وخمسين الفاً من هوة الأمية كان معدل النساء منهم نحو الثلثين، واستطاع عدد من المعلمين المتطوعين تدريس الأساسيات لهم.. وقد ذكر أحد الذين اضطلعوا بمثل هذا العمل القومي الرائد أن العمل لم يكن بين جدران فصول كالمتعارف عليها بل كان يجري في الحقول أوالهواء الطلق أو ساحات المنازل أو حتي في حظائر الماشية.. وبلغ الوعي بالمواطن في كيرالا إلي أنه كان يشعر بالحرج إذا رأي أن عدد أطفاله قد بلغ ثلاثة أطفال حيث كان هذا هو المعدل الأدني قبيل تلك المرحلة وبالتالي بدأ عدد الأطفال في تلك الأسر في التناقص فبلغ عددهم طفلين في الأسرة الواحدة ليستقر عند طفل واحد لينعم بحظ أوفر من الإهتمام والرعاية الصحية والإجتماعية والتعليمية ومن أجل بناء أجيال جديدة قادرة علي دفع عجلة التنمية.. ومن هنا نجد أن القضاء علي الأمية في مجتمعاتنا وخاصة بين فئة النساء تحقق أكبر معدلات التنمية بفضل ماتكتسبه من وعي ودراية وماتتمتع به من فهم لكل مايدور من حولها ويرتفع مستواها العلمي والثقافي والإجتماعي.