منذ سنوات طويلة.. وفي أقصي الكرة الأرضية هناك حضارات وأمم عاشت أمدا طويلا.. مئات القرون دون أن نعرف عنها سوي القشور.. وتعامل معها الجميع وحتي المثقفون منهم بسطحية كبيرة.. وكانت حجتهم أن هذه الأرض جد بعيدة.. لكن وبعد هذا التطور التكنولوجي الهائل الذي أصاب وسائل الاتصال والتواصل بين الشعوب ، أصبحنا علي علم بأن هناك أمما عريقة ذات أسس وقواعد حميدة ، فهل تعرف عزيزي القارئ أن هناك أناسا ينحني كل منهم احتراما للآخر.. وآخرين تكتسي وجوههم بالحمرة وتعجز عيونهم عن النظر نحوك مباشرة خجلا عندما تخطئ وغيرها من التقاليد والمثل العليا التي لا جدال فيها.. لكن تري هل مازالت هذه الأمم وبعد أن سنحت لنا الفرصة للتعرف عليها عن كثب.. وبعمق تحتفظ بهذه القيم والمثل؟؟ كي يان الصينية من هذه الأمم والشعوب جمهورية الصين ، أكبر الدول تعدادا وتجمعا بشريا.. أحد أعرق الحضارات في العالم القديم والحديث.. وتؤكد وسائل الإعلام أن مستقبل العالم اقتصاديا مرتبط ارتباطا وثيقا بما تحققه وما سوف تحققه في السنوات القريبة القادمة.. ولكن للثقافة أيضا مقاماً ومنبراً.. ومن رواد هذا المقام الكاتبة الروائية والشاعرة والباحثة النفسية والاجتماعية الكبيرة كي يان... ولدت كي يان عام 1929 بمدينة جوانج دونج لأب مثقف يعمل بالترجمة.. وقد نشأت في ظل عادات وتقاليد صارمة ، يحترم فيها أفراد الأسرة كبيرها.. وقواعد اجتماعية راسخة منذ مئات بل وآلاف السنين وفلسفة خاصة، جعلت البعض يطلق علي الصين اسم القرية الفاضلة لما يتمتع به شعبها من طيبة وأخلاق كريمة.. وتفوقت كي أثناء دراستها حتي عملت بالجامعة.. وتعددت كتاباتها في الكثير من المجالات.. في كتابة المقالات الصحفية.. والرواية والشعر والكتابة للأطفال والمسرح وقد برزت في المجالين الأخيرين بشكل كبير.. وكذلك دراسة الأدب بشتي فروعه ولغاته المختلفة.. ووجهت كتاباتها للشباب والطفل واحترمت عقلية كل منهما.. وقد برزت أيضا في تناول كل ما يخص الجوانب النفسية والاجتماعية.. وقامت بعدة مشروعات لعمل موسوعات تخدم هذا المجال.. منها مشروع خاص بالجوانب النفسية والاجتماعية لضحايا الحروب.. وآخر مشاريعها عن هذه الجوانب الخاصة بمرضي السرطان وما يمرون به خاصة أن لها في هذا الشأن تجربة شخصية.. ومن أهم كتاباتها "الجندي الصغير " و"العمة الصغيرة الحمقاء ".. وتعد كي صاحبة شخصية ثرية بما تحمله من سمات هي سمات الشعب الصيني ذاته.. وبما مرت به من تجارب وما تحمله من رؤي وأفكار.. وقد تحدثت عن رؤاها تلك وعن مستقبل الثقافة والفنون وأهمية المحافظة علي روافد الثقافة كالكتاب والمسرح والسينما بأشكالها الحقيقية وليست المزيفة.. وعن العلاقة بين الرجل والمرأة اجتماعيا وثقافيا وأشياء أخري.. قالت كي عند حديثها عن الثقافة والفن: " إن حضارتنا عاشت سنوات طويلة.. وحافظت علي أسسها وقواعدها بفضل أبعادها الثقافية والفنية.. وأن أي شعب يدرك أهمية أن يحمل أفراده ثقافته ويحميها بقلبه وعقله، ضمن أن يحيا طويلا.. فأبناؤه يتوارثون أصوله وأخلاقياته وثقافته ويحافظون عليها وهذا أهم مصادر قلقنا الآن"... وعن الكتابة الروائية والمسرحية وأهمية كل منها قالت: " أتذكر والدي عندما كنت صغيرة.. وقد أدرك أهمية القراءة ثم الكتابة عن كل ما أشعر به وعن وجهة نظري في الأمور..وأنه حفزني علي القراءة وانتقي لي في البداية ما يناسبني، ثم تركني أختار ما أريد بعد أن بعثر أمامي الكثير من الكتب والمجلدات ، ثم ترك لي ورقة صغيرة مكتوب عليها، بعد أن تقرئي حاولي جاهدة أن تكتبي.. وهكذا بدأت أكتب فوجدت أن كتابة الرواية مثل كتابة الشعر.. وكالكتابة للمسرح والتليفزيون والسينما كلها مهمة.. وكلها ترضي أذواق متلقيها.. ولكني أجد متعتي في كتابة كل ما يتعلق بالطفل والشباب المقبل علي الحياة.. وتطور الفن الصيني كثيرا مع المحاولات المستمرة للتحرر ومزج التقاليد والفلسفة الصينية القديمة وشكل الفن الكلاسيكي ذو الأصول الروحانية والدينية مع الأشكال الجديدة.. والتغيير المحسوب والمدروس مطلوب.. لكن ليس كل تغيير مفيد ومحمود ولهذا فنحن في مرحلة خطيرة مع هذا الكم الكبير من الأفكار المتداولة التي تدعو إلي التجديد والتغيير والانطلاق بعيدا عن فلسفتنا وعقيدتنا الراسخة التي يجب أن نحافظ عليها بقوة "... وفي حديثها عن بلادها وثقافتها وأثر ذلك علي مشوار حياتها قالت: " إن لدينا ما يجب أن نحافظ عليه.. وأن ننقله لغيرنا ربما يجدون فيه ما يكون مناسبا لهم.. ففي بلادي وجدت أهلها يقدرون الغير ويحترمونه ويعطونه قدره كإنسان.. وأن للغريب حقاً.. ولأضرب لكم مثلا علي ذلك.. فعندما يستقل ضيف من خارج بلادنا سيارة أجرة.. يجب علي وعلي غيري ، حتي ولو كنت عجوزاً لا أقوي علي الوقوف.. أن أقف ليجلس.. وإن لم يجلس فليظل المقعد خاليا.. وأيضا علي المرأة عندنا ألا تظهر تبرجها خارج بيتها.. وأن تخفض صوتها قدر الإمكان وعلي الشباب والأصغر سنا طاعة الكبار.. وإن كانت هناك تغييرات محمودة في هذا الجانب قد حدثت، حيث يمكن للصغار الآن محاورة الكبار وهذا ما لم يكن مسموحاً به من قبل.. وهناك قواعد أخري كثيرة تعلمتها وآثرت أن أعلمها للأجيال القادمة "...ولأن الحديث تطرق إلي المرأة فقد تحدثت عن اتهام الشعب الصيني بأنه شعب ذكوري: " إن هذا الاعتقاد الخاطئ ناتج عن نقص المعلومات لديكم.. فالمرأة الصينية لها كيانها.. ولكنها لا تنافس الرجل.. والمرأة الصينية تقدس الرجل في الحياة وتعطيه قدره.. وأنا لا أنكر التنافس ولكنه مختلف عما تقصده، فالتنافس لديكم وفي هذا الزمن ، يعني المصارعة والمقاتلة وهذه الأشياء لها ساحتها ولها قوانينها ، أما التنافس الذي أعنيه، فهو محاولة كل منا لبذل أقصي ما لديه..وإخراج ما في داخله من إبداعات لتحقيق أهداف سامية.. والمرأة الصينية لها باع طويل في العطاء الثقافي والفكري وخاصة في هذا الزمن الصعب"... شباب الجيل القادم ولأنها ذكرت الزمن الصعب والمستقبل فلم تترك الفرصة تمر واستطردت: " إنني قلقة علي شباب هذا الجيل وما يعانيه فلا يبغي معظمهم استكمال رحلتنا.. فالعمل في الجامعات والمؤسسات الثقافية والفنية لن يجنوا منه المال الذي بات نصب أعينهم.. بل وأصبح كل شيء يهون لديهم مقابل المال.. حتي أنني أتعجب عندما أجد الانحراف والانحلال بوجهه القبيح ممثلا في شوارعنا بشكل صريح دون خوف أو حياء.. وآخر ما أصابني بالصدمة إعلان عبر شبكة الانترنت لبيع أطفال بلادي بأبخث الأثمان "... واستطردت: " إنه أمر مزعج.. يجعلني أصرخ وأستغيث.. ربما أجد من يعينني ويساعدني.. في إنقاذ شبابنا.. فقد بهرتهم المادة.. وبهرهم نموذج الشاب الأمريكي.. وبات مثلا أعلي يحتذي به.. رغم سطحيته وانحرافه وقلة وعيه.. واهتمامه بمكاسبه الشخصية.. دون أي حسابات أخري لمن يعيشون حوله من البشر. بالتأكيد ليس هذا هو نموذج كل الشباب في الولاياتالمتحدة.. ولكن هذا هو النموذج الذي توقف عنده شبابنا.. ووجده جذابا.. وربما تكون تلك صورة سينمائية علقت في أذهانهم.. وغير صحيحة.. ويرجع هذا لقلة وعي هذا الشباب.. وضعف ثقافته.. ولهذا فعلينا أن نحمله علي حب العلم والتزود به كي يصمد مستقبلا في وجه التحديات القادمة.. وليحافظ علي تاريخ وحضارة بلاده..". وفي حديثها عن رحلتها إلي أمريكا قالت: " لقد ذهبت إلي هناك ضمن رحلة لعدة دول لاستكمال الموسوعة الخاصة بمرض السرطان نفسيا واجتماعيا.. وقد يستفيد من هذه الموسوعة المعالجون لهذا المرض وكذلك تكون مرجعاً للمبدعين والذين يبغون التطرق لهذا الجانب فيمكن لهم كتابة ملاحم مسرحية وتليفزيونية مستوحاة من هذه الدراسات وتسهم أيضا في توسيع آفاق المتفرجين.. وأكثر ما دفعني إلي تنفيذ هذه الموسوعة هو أن هناك اعتقادا خاطئا بأن السرطان يعني الموت.. فإن لي تجربة أنقلها لأبنائي، فقد أصبت بهذا المرض عام 1981 ورغم قلة الإمكانيات وقتها إلا أنني شفيت من هذا المرض ،لأني آمنت بقدرتي علي هزيمته.. وأنني يجب ألا أستسلم حتي يقول القدر كلمته وكانت لي في والدتي عبرة فقد أصيبت بهذا المرض عام 1964 وقبل أن تكمل عامها الستين بقليل وأخبرها الطبيب أنها ستموت بعد عام.. ولكنها ولإيمانها أيضا بأن عمرها مديد، ظلت علي قيد الحياة حتي أتمت عامها الثالث والتسعين.. أيضا عمتي وانج التي كان جسدها هزيلا عندما كانت في العاشرة.. وقال الحكماء إنها لن تعيش طويلا.. وها هي ما زالت حية.. وقد تعدي عمرها المائة عام.. إذا حتي يقول القدر كلمته، علينا أن نتعلم كيف نعيش ونقاوم ونستمتع بالحياة ونقدرها.. ونتعلم آدابها.. وللسعادة آداب وللحزن آداب فلا تتعدي علي الغير لأنك سعيد ولا تجرح غيرك بحجة أنك حزين "... وختاما تحدثت عن أحد الأعمال التي كتبتها وتجد فيه عبرة ورسالة مهمة وكذلك حكمة ووصية من أحد أساتذتها وهي صغيرة: " قمت بكتابة عمل للتليفزيون والمسرح عن رجل كان يعاني مرضا خطيراً معدياً.. وقد تعاطف معه المتفرجون لمثله وأخلاقياته ودفء مشاعره وتعلقوا به كثيرا وأحبوه.. ومر بعدة مراحل ما بين معاناة وما بين أمل ويأس في الشفاء، لكنه كان قوي البنية والنفس وقاوم المرض حتي شفي منه.. كان يمكنني أن أنهي العمل بهذه النهاية السعيدة لكن ولأن في الحياة عبرا.. فقد انتقل المرض إلي ابنته الأقل قوة فلم تستطع أن تقاوم المرض كثيرا وفارقت الحياة.. إنها العبرة التي يجب أن يتذكرها شبابنا جيدا فعليه أن يؤمن بالحياة وكذلك يؤمن بالموت.. وأما عن الحكمة التي احتفظت بها طويلا وأريد أن أنقلها للشباب فهي لأستاذي في الصغر وقد قال لي إن أردت أن تكتبي جيدا فعليك أن تكوني إنسانا جيدا أولا".