تحرص أنظمة الحكم غير الديمقراطية علي منع القوي السياسية المعارضة من التواصل مع الجماهير. وتواجه القوي السياسية المعارضة هذا «الحصار» بأساليب مختلفة تبعا لقوة وتماسك هذه القوي أو تفككها، ففي حالة القوي السياسية المتماسكة والمصممة علي اختراق هذا الحصار، نري هذه القوي تبتكر أساليب شتي لكسر هذا الحصار والتواصل مع الجماهير العريضة لإقناعها بخطايا نظام الحكم وكشف مساوئه ولتعبئة الجماهير تمهيدا للحظة مناسبة تنطلق فيها الجماهير بقيادة هذه القوي لتغيير الأوضاع. والأمثلة علي ذلك كثيرة.. ففي فترة ما سمي بالحرب الباردة احتضنت الدول الأوروبية الغربية وأمريكا رموز المعارضة من دول أوروبا الشرقية الشيوعية وأنشأت إذاعات قوية موجهة إلي شعوب أوروبا الشرقية، استخدمتها قوي المعارضة بكفاءة واستطاعت أن تحشد الجماهير ضد أنظمة الحكم الشمولية في أوروبا الشرقية، واستخدمت أنظمة الحكم هذه أقصي درجات البطش بالشعوب «وصل الأمر إلي استخدام الدبابات في قمع انتفاضة الشعب التشيكي»، وتم قمع الشعوب لكنها كانت تعاود الكرة.. وبعد أن بدأ عصر التليفزيون كان البث التليفزيوني الموجه إلي دول أوروبا الشرقية له أثر هائل في دفع الشعوب للتمرد علي الأنظمة الفاشية، وأخيرا نجحت هذه الشعوب في تغيير الأنظمة القمعية في هبات متتالية قادتها القوي السياسية المعارضة بعد أن هيأ لها التواصل مع الجماهير العريضة البث الإذاعي والتليفزيوني فرصة ممتازة للإبقاء علي روح المعارضة ومنح هذه الجماهير الأمل. وشهدت إيران حالة مماثلة أيام حكم الشاة، فقد رأت قوي المعارضة المقيمة في الخارج أن تتواصل مع الجماهير في الداخل عبر أشرطة «الكاسيت» فقد كان التشويش علي البث الإذاعي أمراً سهلاً، ولم يكن البث التليفزيوني قد تطور ليخترق الحدود، ولم تقف قوي المعارضة مكتوفة الأيدي، بل فكرت في استخدام الأساليب التكنولوجية المتاحة للتواصل مع الجماهير العريضة، وكان تهريب بضعة أشرطة كاسيت صغيرة مسجل عليها نداءات قوي المعارضة ورموزها أمرا ميسوراً، ثم تنسخ مئات الآلاف من هذه الأشرطة بسهولة ليتم تواصل قوي المعارضة مع الجماهير بهذه الوسيلة.. وبلغ من نجاعة هذه الوسيلة أن البعض أطلق علي الثورة الإسلامية الإيرانية «ثورة الكاسيت». أما قوي المعارضة السعودية، فقد لجأت منذ سنوات إلي استخدام «الفاكس» لترسل عن طريقه المنشورات التي تهاجم نظام الحكم.. ثم تطور الأمر بعد إطلاق الفضائيات فأطلق المعارضون السعوديون فضائية من لندن للتواصل مع الشعب في المملكة العربية السعودية، وبذل نظام الحكم السعودي جهودا جبارة لمنع هذا التواصل، فبدأ بفكرة تحريم تركيب أطباق الاستقبال التليفزيوني المنزلي وتعويض ذلك بفكرة البث من خلال «الكوابل» وأنشئت شركة «أوربت» لتحقيق هذه الفكرة، ثم عدل النظام عن هذه الفكرة لاستحالة تنفيذها مع التقدم التكنولوجي المذهل في أساليب الاتصال الفضائي. واستخدم النظام السعودي كل وسائل الضغط لمنع بث فضائيات القوي المعارضة من لندن لكنه فشل حتي الآن وظلت هذه الفضائيات تمثل هاجسا مزعجا للسلطات السعودية لأنها تكسر «الحصار الإعلامي» الذي تفرضه هذه السلطات علي جماهيرها. بالإضافة إلي هذه النماذج لدينا في مصر النموذج الأكثر وضوحا وهو «صوت العرب» الذي استطاع أن يمنح قوي المعارضة العربية فرصة التواصل مع الجماهير العربية وحشدها حتي استطاعت هذه الجماهير بقيادة القوي السياسية المعارضة التي تواصلت معها وحشدت قواها عبر أثير صوت العرب، استطاعت أن تحرر الأرض العربية من قوي الاحتلال ولعل أخطر وسائل التواصل مع الجماهير في منتصف القرن العشرين كانت منظومة الإذاعات الموجهة إلي أفريقيا والتي كانت وسيلة تواصل قوي المقاومة الأفريقية مع جماهيرها في القارة الأفريقية. هذه النماذج أقدمها لقوي المعارضة التي تتحدث عن التواصل مع الجماهير باعتبار هذا التواصل هو الطريق الوحيد لحشد الجماهير في اتجاه المطالبة بالتغيير. وللأسف فإن هذه الحقيقة لا أجد لها آلية واضحة لدي قوي المعارضة في مصر، فكل محاولات هذه القوي للتواصل المستمر والمجدي مع الجماهير تقتصر علي تجمعات للنخب المثقفة تحاول مخلصة أن تنزل إلي الشارع فتفرقها بعنف قوي الأمن المتربصة، أو تعتمد علي صحف حزبية أو مستقلة لا يصل أقصي توزيع لها لأكثر من بضع مئات أو عشرات الآلاف ولا تقرأها إلا النخب الثقافية. أو تعتمد علي «تفضل» بعض الفضائيات باستضافة بعض رموز هذه القوي لعدة دقائق في برامج متفرقة؟! الحل يعتمد علي مدي جدية وتماسك قوي المعارضة وإيمانها بضرورة التغيير السلمي وأن هذا التغيير لا يتم إلا بالتواصل المستمر والمؤثر بالجماهير العريضة.. ولن يتم ذلك إلا باستخدام وسائل العصر القادرة علي تحقيق هذا التواصل.. ولهذا حديث في الأسبوع المقبل إن شاء الله.