انطلقت فعاليات الدورة الثانية والعشرين من مهرجان المسرح التجريبي لهذا العام 2010، ليقدم من خلاله رؤي وتجارب مسرحية جديدة تأتي من بلدان شتي غربية وشرقية ، شمالية وجنوبية، أجنبية كانت أوعربية، ووسط هذا الكم الكبير من العروض تابعت بعض العروض العربية التي تناولت موضوعات تمس القضايا العربية الشائكة، والتي كان لها علاقة بآلام العرب من جراء السياسات التي تلجأ اليها أمريكا وبعض دول الغرب لتحطيم صورة الإنسان العربي مثل العرض اللبناني "جوانتانامو.. معني الانتظار"، وأخري لها علاقة بأحلام العرب المأمولة والتي تجعلنا نستعين بقصص الماضي لتحفيزنا علي الحاضر مثل العرض الأردني "ميشع يبقي حيا" ، وبين ذاك وتلك كان هذا المقال. يجلس الجمهور ليجد نفسه أمام خمس نساء من دول مختلفة هي الأردن وفلسطين ولبنان والعراق وانجلترا ، يجمع بينهن ألم مشترك هو ألم انتظار الغائب ، فكل منهن متزوجة بإنسان عربي أرغمته ظروف عمله علي التواجد في بلاد يعاني المواطن العربي فيها الاضطهاد بسبب جنسيته أو ديانته ، ويزج بهؤلاء الأزواج في خليج جوانتانامو بتهمة الإرهاب لسنوات عديدة دون أن يعلم ذووهم عنهم شيئًا ، بينما زوجاتهم وأبنائهم يعيشون علي أمل انتظار عودتهم، و مابين العودة اذا كان هناك عودة و الغياب هناك آلام خاصة بالزوجات حاول العرض الإفصاح عنها في مدة لم تتجاوز الخمس والثلاثين دقيقة بدقة شديدة، ليجد المشاهد نفسه أمام نوع آخر من أنواع السجن ، وهو سجن الذكريات، فهؤلاء الزوجات لا يمتلكن غيره لتصبيرهن علي آلام انتظار عودة الغائب. فراغ خشبة المسرح لا يملؤه غير بانوه في عمق الخشبة مليء بملصقات من قصاصات الجرائد فاضت من كثرتها علي خشبة المسرح ، وجميعهاعن خليج جوانتانامو وما يدور بداخله في اشارة الي أن هذه القصاصات هي كل ماتبقي من أزواجهن ، وخمسة كراس بيضاء بعضها ملطخ بالدماء في اشارة الي الأزواج الغائبين ، وخمس نساء يرتدين النقاب الأسود اللون لعدم تمييز هويتهن وكأنهن يتخفين من المجتمع الذي يعيشن فيه. تبدأ كل منهن في رفع نقابها مع بداية رواية حكايتها ومع تطور الأحداث في حكايتهن يتخلصن من قطع ملابسهم السوداء لنجدهن يرتدين الملابس البرتقالية المميزة لسجن خليج جوانتانامو ، وهنا يحدث تحول في شخصيات الممثلات حيث يقمن بتجسيد أدوار مزدوجة هي أدوار الزوجات من جانب ، وأدوارالجنود الذين يعذبون أزواجهن في جوانتانامو من جانب آخر ، وأدوار الأزواج من جانب ثالث ويستمر هذا التداخل بين الشخصيات الي نهاية العرض ، حتي أن العرض اختتم بتهكم الأزواج داخل سجن جوانتانامو علي توجيه تهمة الإرهاب لهم متجسدين في جسد زوجاتهم . حركة الممثلات بدأت بسيطة اعتمدت علي تعدد الأوضاع في حيز بقعة الضوء المخصصة لكل ممثلة ، ثم أخذت في التركيب والتداخل للتعبير عن حالات انفعالية مختلفة وسريعة الإيقاع ، فقد استطاعت المخرجة أن تعبر بحركة الممثلات عن احتياجاتهن الجنسية المكبوتة ، ولحظات العنف في خليج جوانتانامو ، ولحظات التمرد ، والخوف،.. إلي آخره ، ولذلك فهذا العرض اعتمد علي مهارة الممثلات أولا أما العناصر المسرحية الأخري فكان معظمها عوامل مساعدة فقط. اعتمد العرض في معظمه علي الإضاءة المتمركزة "الزوم" التي تتداخل مع بعضها البعض عند تلاقي الممثلات وغلب عليها اللون الأصفر، وقد استخدمت في إبراز بعض الدلالات مثل إبراز ظل الزوجات الضخم علي بانوه الخلفية أثناء حديثهن أثناء الجلوس علي أفانسين الخشبة عن ذكرياتهن مع أزواجهن، والذي يشير إلي الذكريات الشبحية التي يعيشن عليها. أما الموسيقي بالرغم من دورها المقنن فقد تنوعت مابين الغناء الحي غير المصاحب بأية موسيقي من الممثلات مثل غناء بعض الأغنيات الشعبية "اتمخطري ياحلوة يازينة"، وبعض أغنيات التهنين للطفل بلهجات عربية مختلفة وبالإنجليزية أيضا، وغناء إحدي الممثلات أغنية "انتظار أوجع" في مشهد تعبير الزوجات عن رغباتهن الجنسية المكبوتة، وبين الموسيقي الآلية المعدة ، وجميعها جاءت مناسبة تماما للمشاهد التي صاحبتها. وهذا العرض بالرغم من قصر مدته الزمنية الا أن مخرجته "فرح شاعر" استطاعت أن تقدم رسالة العرض وهي صراع المرأة العربية المعاصرة مع أيديولوجيات غربية تدعي حماية المرأة في العالم ، والتي أخذتها عن نص ألفه كل من "فيكتوريا برتين ، وجيليان سلوفو" بشكل مكثف لا يخلو من العمق، وساعدها في ذلك اختيار ممثلات علي وعي بالأبعاد النفسية لأدوارهن. ميشع يبقي حيا العرض الثاني هو ذلك العرض الذي قدمته فرقة المسرح الوطني الأردني بعنوان "ميشع يبقي حيا" الذي قدم رؤية مسرحية مقتبسة من تاريخ التراث الأردني. وميشع هو ملك مؤاب الذي كتب علي مسلته (نقش ميشع الذي وجد منحوتا بصخر مؤابي بذيبان) ليسجل فيها نصره علي العبرانيين (الاسرائيلين) :"أنا الذي بني المكان المقدس (معبد كموش وهو قلعة الكرك حاليا) لكموش الإله في كركا (الكرك).... وأنا حفرت القناة إلي كركا وشققت الطريق الرئيسية في وادي أرنون الموجب"، وكان ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد. واقترن اسم قلعة الكرك باسم المدينة ، ويستدل من نقش الملك المؤابي ميشع ( 850 ق.م) ان مكان القلعة كان في الأساس معبدا للاله المؤابي(كموش). والنص كتب بالعربية الفصحي واعتمد الحوار في أجزاء كثيرة منه علي ما كُتب علي مسلة ميشع الكائنة في متحف اللوفر بباريس حتي الآن. جسد شخصيات العرض أربعة ممثلين هم "عيسي الجراح "في دور الكاهن ، "هالة عودة" في دور الملكة ، "أحمد سرور "في دور ميشع ، "محمد جراح" في دور يخينو ابن الملك ميشع، وستة راقصين وراقصات مثلوا عامة الشعب . ملخص العرض يدور حول استعباد "عمري" ملك اسرائيل لمملكة مؤاب لسنوات طويلة حتي قرر ميشع أن يخوض حربا معه لتحرير شعبه من العبودية وجعل "ميشع" من ولده الوحيد "يخينو" قائدا للجيوش، لكن يتمكن بنو اسرائيل من محاصرة مؤاب ، فيفتي كاهن مؤاب الأكبر بضرورة تقديم "يخينو" ضحية للإله ، فيتم حرقه وبعدها يحقق ميشع النصر علي بني اسرائيل ويحرر شعب مؤاب. قدم العرض في احدي ساحات دار الأوبرا حيث لا توجد مقاعد للجمهور الذي كان عليه أن يجلس علي الأرض، وجمهور الشارع المطل علي تلك الساحة بالأوبرا راح يعلق علي العرض تعليقات خارجة عن حدود الأدب ، مما شوش علي صوت وتركيز الممثلين أثناء آدائهم لأدوارهم ، وبالطبع فهذا يؤخذ علي ادارة تنظيم المهرجان الذي لا ينتبه لتلك الأشياء الصغيرة التي تشوه سمعة مصر. مساحة التمثيل تمثلت في مربع حكمه حيز الإضاءة بينما في العمق منصتان علي مستويين من الارتفاع ، المستوي الأول خصص للملك ميشع وأسرته، والمستوي الثاني خصص للكاهن. احتوي العرض علي العديد من الدلالات أولها أن الملابس كانت معاصرة والحدوتة تراثية وهذا يدل علي أن تجاوزات بني إسرائيل علي الشعوب الأخري قضية أزلية بدأت منذ الماضي السحيق وحتي وقتنا الحاضر ، أما عجينة الطين التي أخذ الممثلون في وضعها علي أجسامهم فهي دلالة علي الوحل الذي يغطي بلاد مؤاب متمثلة في ملكها ميشع ، وزوجته ، والذي اغتسل بتقديم ضحية للنصر بعد ذلك ، وفي مشهد آخر كان تغطية جسد "يخينو" بالطين، دلالة علي تفحمه بعد حرقه، وتجسيده في تمثال بلون البرنز يخلد ذكراه. أما اللونان الأزرق الداكن والأحمر اللذان ظهرا في خطوط الكاهن أثناء طلبه "يخينو" لأن يكون فدية وحاكاه أبناء الشعب في ذلك ، فالأزرق الداكن له دلالة في علم النفس بالسلطة والمسئولية ، أما الأحمر فإلي جانب أنه لون الطاقة والانطلاق فهو لون الثقة بالنفس والقوة ، ولذلك أري أن دلالة اللونين كانت معبرة عن مضمون المشهد بشكل جيد. وبالرغم من أن مدة العرض خمس وأربعون دقيقة فقط، الا أن الرقصات والموسيقي لعبت دورا كبيرا في ذلك العرض، وقد راعي المؤلف الموسيقي مراد دمريجيان مراعاة نوعية الآلات الموسيقية المستخدمة لتتناسب مع الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث العرض ، فسمعنا صوت آلة "الشوفار" أي البوق اليهودي بمشهد الحصار ، والمزمار مع الإيقاعات في مشهد الافتتاح وهو تتويج يخينو وليا للعهد ، استخدام الأصوات البشرية والإيقاعات المعدنية كلحن دال للكاهن ، استخدام آلات الربابة والناي و الإيقاعات المختلفة بسرعات متصاعدة في مشهد حرق يخينو، وجميع الألحان جاءت في مقامات خالية من نغمة ثلاثة أرباع التون المميزة للموسيقي الشرقية.