وحتي لا يتهمنا أحدهم بالتعميم يجب أن نعترف بأن هناك نفرًا يعدون علي أصابع اليد الواحدة من سينمائيينا الواعين لمثل هذه القضية بحكم ثقافتهم العريضة وموهبتهم السينمائية تحديدا ممن جاءت أفلامهم الخاصة بالسير الذاتية بلون آخر وطعم مخالف ، نذكر منهم: محمد فاضل في فيلمه " ناصر 56 " 1996 م بطولة أحمد زكي ومحمد خان في فيلمه " أيام السادات" 2001 م بطولة أحمد زكي أيضا ، وربما كان مخرج فيلم " الضربة الجوية " الذي لم ير النور واحدا منهم ... ففي فيلمي فاضل وخان ركز كل منهما علي فترة محددة من حياة الزعيمين: ناصر والسادات لذا كان التركيز السينمائي في أعلي درجاته والتأثير الوجداني في أوج عظمته. دراما تاريخية فيلم " المحطة الأخيرة " "The Last station " انتاج 2009 للمخرج الأمريكي " مايكل هوفمان "Michael Hoffman " الذي كتب له السيناريوأيضا عن رواية "جاي باريني" جاء نموذجا لأفلام الدراما التاريخية والسيرة الذاتية لمشاهير وأعلام العالم في قوته التأثيرية وجمالياته السينمائية المتمثلة في ضخامة الانتاج وسخائه ، واختيار الممثلين وتوظيف مواهبهم وتفجير طاقتهم ، والتصوير المبهر في زواياه واضاءاته ، والمونتاج السلس الناعم في قطعاته، والإيقاع العاقل الباعث علي التأمل والإشباع الجمالي بغير ملل أوتطويل ... مايكل هوفمان في هذا الفيلم يتناول آخر سنتين من حياة الكاتب الروسي الغني بكل تأكيد عن التعريف الكونت " ليوتولستوي " Leo Tolstoy (1828 - 1910) ) الذي اعتنق أفكار المقاومة السلمية التي تنبذ العنف ودعي اليها من خلال كتابه " مملكة الرب بداخلك " وغيره من الكتب والروايات التي حركت بأفكارها رمز النضال السلمي في الهند " المهاتما غاندي " والقس الشجاع في أمريكا " مارتن لوثر كنج ". ليوتولستوي صاحب: "الحرب والسلام" War and Peace و"أنا كارنينا" Anna Karenina و"ما الفن؟" What is Art? الذي يري فيه أن الفن يجب ان يوجه للناس أخلاقيا ولابد أن يكون بسيطا يخاطب عامة الناس ... وغيرها من الروايات والكتب والقصص القصيرة. لقد تم انجاز " المحطة الأخيرة " ليعرض عالميا بمناسبة مرور مائة عام علي رحيل " ليوتولستوي " بانتاج متميز وفر كل مقومات الفيلم المتكامل المادية منها والمعنوية. فعلي المستوي الفكري أمسك صناعه بموضوع غني وثري يحمل بين جنباته كل مقومات الدراما السينمائية من العيار الثقيل عالميا والتي تعبر عن قيم انسانية تهم كل البشر في أي مكان في حياتهم الاجتماعية أومشاعرهم العاطفية أوسلوكياتهم الإنسانية تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين من حولهم. وعلي المستوي المادي تميز الفيلم بالإنتاج السخي الذي شمل كل عناصره ومكوناته بدءا من اختيار أبطاله الموفق لأبعد الحدود مرورا بمناطق التصوير والديكورات الضخمة التي تمثل مسقط رأس " تولستوي " في ضيعته ومحطات القطار بكل تفصيلاتها والقطار نفسه ، الي جانب الديكورات الداخلية في الضيعة ومنازلها والمباني الملحقة وعشرات الاكسسوارات التي اختيرت بعناية فائقة لتضفي علي الجوالعام للفيلم المصداقية والمتعة الجمالية. القيمة الفكرية فيلم علي هذه الدرجة من القيمة الفكرية والانتاج الضخم (الماني/ إنجليزي/ روسي) كان لابد لمخرجه أن يأتي بأبطال متميزون في الآداء التمثيلي مثل: كريستوفر بلامر "Christopher plummerس بطل فيلم قيصر وكليوباترا الشهير الذي قام بدور "الكونت تولستوي" و"هيلين ميرين "Helen mirren " التي قامت بدور "كونتيسة صوفيا تولستوي" ، لقد رشح كل منهما لجائزة الأوسكار عن هذا الفيلم لهذا العام وقبلها رشحا لجائزة الجولدن جلوب ، وقد سبق ل هلين الحصول عليها عام 2007 عن فيلمها "الملكة "Queen " كما أنها رشحت مرتين سابقتين لهذه الجائزة. لقد كان "المحطة الأخيرة " بالنسبة لهذين العظيمين، مباراة حامية الوطيس في فن الآداء والتمثيل في العديد من المشاهد ومنها مشهد غرفة النوم ومشهد حديقة الضيعة ومشهد محطة القطار ... كان التعبير بأرقي مايكون من امكانات الماكياج والأزياء والقدرات التمثيلية لدي كل منهما بالجسم والحركة والإيماءة والصوت وطبقاته وأسلوب الحوار ومفرداته ، آداء ممتع ومقنع ومتزن. الي جانب الآداء المتميز للمثل الشاب "جيمس ماك افوي " في دور " فالنتين ". جاءت العناصر الفنية الأخري علي نفس المستوي الراقي التي تكامل بها الفيلم علي المستويين: الفكري والجمالي ، اذ اعتمد شريط الصوت ضمن مكوناته علي موسيقي " سيرجي يفيتوشنكو" التي انبعثت من جرامافون " تولستوي" العتيق وطوال الفيلم بعذوبة ورقة وبمنتهي الهدوء الباعث علي الراحة النفسية المطلوبة للمشاهد أثناء الفرجة. وقد ساعد علي اضفاء هذا الجو الجميل مونتاج " باتريشيا روميل" بسلاسته ومنطقيته بلا شطط أوانتقالات مزعجة. أما عنصري: الماكياج والأزياء فكان لهما بصمة واضحة أضافت لعنصر التمثيل الكثير من المصداقية والاقناع وبشكل خاص المتعلقة بشخصية "تولستوي" نفسه. ولاشك في أن عنصر التصوير كان بطل الجانب الفني للفيلم وتميز مناظره واضاءاته كما نفذها مدير التصوير والإضاءة " سباستيان أيدشميد" وبشكل خاص المشاهد الداخلية الليلية والنهارية ومشاهد محطة القطار والمجاميع وكذلك مشاهد الضيعة النهارية. مخرج الفيلم " مايكل هوفمان " الأمريكي كاتب سيناريو ومؤلف سينمائي أيضا قدم للسينما حوالي 13 فيلمًا لعل أشهرها: Restless Natives (1985) وفيلم Promised Land (1988) وفيلم A Midsummer Night's Dream (1999) . ذكر صراحة أن فيلمه ليس عن "تولستوي" بمعني أنه لا يقدم مجرد سيرة ذاتية حوله منذ مولده وحتي رحيله بقد ما أراد عمل وقفة تأملية لهذا العملاق في مرحلة من أدق مراحل حياته وهي تحديدا فترة آخر عامين من حياته ليلخص لنا لحظات صفائه وعالمه الجواني ونظرته الفلسفية للكون والحياة والإنسان. وقد وفق لحد كبير في ترك أثر سينمائي فني يتسم بجماليات راقية ، وفكريا حرك فينا مشاعر عاطفية بالغة القوة والتأثير علي الرغم من وصوله ورفيقة حياته آخر سنوات العمر ، لكن العاطفة والمشاعر لا تهرم ولا تعجز مادام القلب ينبض وما دام الانسان حيا.