شاء الرازق الوهاب أن يكون كل إخوتي وأبنائي وأبناء إخوتي من البنين . وهكذا لم أقترب مطلقا من مشكلة العنوسة التي يتعرض لها محمد أمين في فيلمه الجديد (بنتين من مصر) ويتناولها بأسلوب واقعي أقرب إلي المأساوية . ولكني في الحقيقة بكيت أثناء العرض كما لم أبك من زمن . فحكاية البنتين هي مجرد مدخل لكل المآسي التي نعيشها في هذا الوطن المسكين . في (فيلم ثقافي) و(ليلة سقوط بغداد) رسم محمد أمين واقعنا وحالنا بأسلوب كاريكاتيري ساخر. أما في (بنتين من مصر) فهو يقدم لنا جدارية يغلفها الحزن ترسم صورة للوطن بعيون بناته العوانس. هذا التنوع الهائل في الأسلوب وزاوية الرؤيا وهذه الشمولية الفنية لأمين مؤلفا ومخرجا تكشف عن موهبة عظيمة تستحق بالفعل أن تعمل في ظروف أفضل وأن يتاح لها أن تتواجد أكثر . ولكن إذا حدث هذا فلن نكون بالتأكيد في مصر. فمحمد أمين بالتأكيد حاله كحال بطلته الطبيبة باحثة الماجستير المتعثرة دينا (صبا مبارك) أو كحال صديقها في برنامج المحادثة علي الإنترنت (أحمد وفيق) الذي إنعزل عن العالم ولم يعد يري سوي العفن..أوكحال كثيرين يعيشون ويعملون في مناخ لا يساعد علي التركيز والعمل والإنجاز بقدر ما يعوق ويعطل ويربك ويشتت . لا أعتقد أن محمد أمين لجأ إلي الميلودراما كما يدعي البعض ولكنه يقدم صورة حقيقية وواقعية جدا ، ربما تبدو صادمة ولكنها بالتأكيد تعكس مأساة آلاف البيوت وتترجم حديث الساعة لكل الأسر . وتعبر الصورة والديكور عن هذا الواقع بصدق خاصة في حجرة كل فتاة بما تحققه من خصوصية وحالة من الضيق بمعالمها المحدودة وديكوراتها الفقيرة كسجن دائم يختنق فيه الضوء كما تضيق الكادرات لتجعل شخصياتها أسيرة للحصار علي مستوي الشكل والموضوع . والفيلم لا يحكي كعادة الافلام المصرية الميلودرامية عن فتيات يدفعهن الفقر إلي الرذيلة فنتابع رحلة سقوطهن من العلاقات إلعابرة إلي الملاهي الليلية إلي بيوت الدعارة . ولكننا نلتقي مع بناتنا العاديات جدا ، بنات جيراننا وأهالينا الطيبين الذين يمثلون الغالبية العظمي ، حيث الاستسلام غالبا لشروط المجتمع وتقاليده والتمسك بالدين والعفة وكبت العواطف والمشاعر إلي أن ياتي العريس أويحين الأجل . ولكن هناك رحلة أيضا للسقوط ولكن ليس لعالم الرذيلة لا سمح الله ، ولكنه سقوط إجباري إلي عالم الخضوع والتنازل عن الكرامة وجميع الحقوق من أجل الزواج . تنازل تدريجي بنتين من مصر في غاية الجمال والجاذبية والتفوق ، ومع كل هذا أوربما بسبب كل هذا تعانيان من العنوسة بكل أعراضها وأمراضها . حنان - زينة - مرحة وخفيفة ومتواضعة وذات شقاوة مؤدبة ومحببة ، أما دينا فهي جادة وطموحة ورقيقة وطيبة . تشبهان حبتان من الفاكهة الناضجة أوزهرتان متفتحتان لكل منهما مذاقها أوعطرها الأخاذ ونكهتها المحببة ولكن أين الذواق ؟ . تتسرب سنوات العمر في حياة جافة بلا ارتباط ولا عاطفة ولا أمومة .. وعلي الرغم من تنازلهما التدريجي الذي ينحدر بهما إلي التفريط التام في أي شروط أوطموحات أو أي مطالب في العريس المنتظر ، علي الرغم من هذا تبوء محاولاتهما في الزواج بالفشل وتوشك كلتاهما علي أن تفقد أي أمل في أن يتحقق هذا الحلم البسيط المتواضع العادي جدا . في لقطات متفرقة داخل عربات المترو يهتز الجسد مع إهتزاز العربة كما تهتز الثقة في النفس والأمل في المستقبل . يذبل الشباب ويضيع الحلم ويصاب البدن بالأمراض وتنهار النفس والروح. هل هذه حكاية دينا وحنان أم حكاية معظم شباب وبنات مصر الواقعين بين مطرقة البطالة وسندان العنوسة ؟ . . الجميل أن الفيلم ينجح ببلاغة درامية رائعة في أن ينتقل بك من خصوصية مشكلة الفتاتين إلي عمومية وطن بأكمله يعاني من العنوسة .. فالتوغل في عالم حنان ودينا يكشف لنا عن واقع اجتماعي مر يفرض علي الغالبية من الشباب والبنات انتظارا طويلا ومملا لأي بارقة أمل في فرصة عمل أوحياة كريمة أوترقي وظيفي بلا تنازلات أوتلاقي مع شريك حياة بأبسط إمكانيات هذه الحياة . وهوما يدفع الشباب في ظل هذا الواقع الخانق إلي التلهف علي الهجرة بكل أشكالها ومخاطرها .. وهوالذي ينتزع الرجولة من العريس الطموح - رامي وحيد - الذي يتظاهر بالانتماء للمعارضة وهومجرد جاسوس علي زملائه . وهويري في هذا خلاصه "البلد خلاص إتحطت علي منحدر ونازلة نازلة ، ولاحتي الرسول يقدر يوقفها " ..وهوالذي يخنق الأمل والحلم بتعمير الصحراء في أحلك الظروف فيتحول العريس المجد المجتهد - طارق لطفي في أحد أجمل أدواره - إلي مطارد من الديانة بعد كل ما عاناه وبذله من جهد لتخضير الأرض . تشتت محدود وعلي الرغم من الصياغة الدقيقة لسيناريو الفيلم في معظم أجزائه إلا أنه يعاني في منطقة النهاية من بعض التشتت وتبدوبعض المشاهد التي تلي غرق العبارة وكأنها ذروة مضادة أوanti climax .. وتطول مشاهد البحث عن شقيق دينا بين جثث الغارقين في العبارة وما يصحبها من بكاء .. علاوة علي ان مشهد غرق العبارة نفسها كانت ضعيفة التنفيذ وغير متقنة .. لم يدرك محمد أمين أنه حكي حكاية مصر من خلال البنتين ومن قابلهما من شخصيات بمنتهي البلاغة . وأن كل صور الإنحدار والإنهيار لم تكن في حاجة إلي التجسيد بهذا التفصيل لأن الرسالة وصلت وبوضوح . ولأنه عثر بالفعل علي المعادل الموضوعي لكل أفكاره ولم تكن هناك أي حاجة لهذه المشاهد ذات الطابع التوثيقي والتي أراها زوائد طفيلية كانت تستحق البتر أوالاختصار علي الأقل . ربما لم تملك المونتيرة مها رشدي القدرة علي معالجتها نتيجة لحرص المخرج المؤلف علي أعضاء/أجزاء فيلمه التي صاغها من صميم قلبه وإحساسه وعاني من أجل الوصول إليها . ولكن كان علي المونتيرة أن تحرص علي ضبط الانتقالات بين المشاهد بطريقة فنية مهما كان حرص المخرج علي مادته المصورة ورؤيته الدرامية ، لأن هذه المسألة جاءت كثيرا علي حساب أسلوبية القطع التي ظهرت بصورة لا تتناسب مع قيمة الفيلم ومستواه في عدة مشاهد . وغياب الاسلوبية هو نفس الأمر الذي ينطبق أحيانا علي عنصر التصوير بين المغالاة في الواقعية في معظم المشاهد والإفراط في التعبيرية في بعضها وربما يرجع هذا إلي الإستعانة بإثنين من مديري التصوير هما إيهاب محمد علي وجلال الذكي . أروع نهاية وأعتقد أنه لولا بعض الملاحظات التفصيلية لإرتقي هذا الفيلم من كونه أحد أفضل أفلامنا الحديثة إلي تحفة فنية رائعة تزدهر بالمشاهد واللقطات التي لن تنمحي من ذاكرة السينما . . وهي تصل إلي قمة البلاغة في لقطة النهاية التي لن أحكيها ولكني فقط أدعوكم بشدة لمشاهدة الفيلم لتعرفوا كيف استطاع هذا الفنان الجميل محمد أمين أن يعتصر آلام هذه الأمة بأكملها في وجهين نسائيين وأن يرسم واقعنا اللعين وحالنا الذي لا يسر في لقطة سينمائية من النوع النادر العظيم . في هذه اللقطة عليك أن تترجم كل المعاني الواسعة والعميقة المرتسمة علي وجه البطلتين في موقف درامي عبقري ومحير . لا يمكن أن ينتهي الحديث عن هذا الفيلم دون الإشادة بكل ممثليه وبقدرة مخرجه الفائقة علي اختيارهم وضبط تعبيراتهم وانفعالاتهم . ويبرز من بينهم بالطبع هذا الشلال الهادر المتمثل في السورية المتوهجة صبا مبارك والتي تبد وأقرب لوحوش التمثيل القادرين علي فعل أي شيء . وكانت زينة أيضا في أفضل وأقوي حالاتها وتبدو وكأنها الممثلة الوحيدة التي يمكنها القيام بدور حنان . ونفس الكلام ينطبق علي أحمد وفيق الذي واجه تحديا صعبا جدا بالتمثيل منفردا والاعتماد بشكل كبير علي أدائه الصوتي المتمكن والمتلون في حدود المنطقة الرمادية الحزينة ليصنع منها تلالا من المشاعر المؤلمة تارة ووديانا من التهكم والسخرية تارة أخري .. تماما كموسيقي الفيلم لرعد خلف التي كانت تتراكم كحبات المطر لتتحول إلي سيول منهمرة أو تتجمد كقطع جليد في توظيف بارع لمحمد أمين . ولا شك أن محمد أمين مخرج جيد ولديه صيغه السينمائية المعبرة ورؤيته الفنية القوية المميزة ولكن بلاغته السينمائية وقدراته التقنية تظل محدودة أمام خياله الدرامي الجامح وموهبته المتألقة في كتابة السيناريو إلي درجة تفوق الإمتياز . إن هذه الهوة بين المخرج الجيد والمؤلف العبقري هي التي تتسبب في جوانب ضعف محدودة قد نلمحها في أعماله .. والتي من الممكن جدا تجاوزها في إعتقادي إذا ما توفر طاقم أرقي من المخرجين المنفذين وفريق عمل علي أعلي مستوي في مختلف العناصر .. والأهم من كل هذا أن يكون لدي محمد أمين استعدادا لقبول الرأي الآخر والاستجابة له إذا كان في صالح العمل ويحقق له مزيدا من التماسك والانسجام . لوتحقق لمحمد هذا سيقدم أفلاما عالمية بكل المقاييس وجديرة بالفعل بالمشاركة في المسابقة الدولية في مهرجان كان أوغيره . وهوما أعتقد أنه من الممكن تحقيقه مع منتجة مثل إسعاد يونس تملك كل هذا الوعي والحماس وتدعم وتشجع فنانين حقيقيين يملكون الموهبة والقدرة بدون أي قدر من الادعاء أو التظاهر الأجوف .