حسنا حاول.. وحسنا انتهى.. وحسنا أدى بإتقان دوره المرسوم له من جماعة الإخوان المسلمين سواء مباشرة أو بوساطة الرئيس، وقدم تشكيلة حكومية تتبع الخط الإخواني العام في الخصومة الصريحة مع الثورة والثوار، وتقديم أوراق مصالحة علنية مع النظام القديم وفلوله، والتي اعتمدها السيد الرئيس باختياره الدكتور الجنزوري مستشارا سياسيا له فضلا عن تكريمه مانحا إياه قلادة النيل من الطبقة الأولى، وموضعة الإخوان ورديفهم من الإسلاميين في بضع وزارات لها أهميتها الانتخابية نظرا لتعاملها المباشر مع كافة شرائح الشعب. وأخيرا تثبيت وضع الحرب الباردة، إلى حين، بين الرئيس والمجلس العسكري بالإبقاء – طوعا أو كرها – على السيد المشير محمد حسين طنطاوي وزيرا للدفاع. هذا هو التكتيك المرحلي للإخوان، حكومة لا يتحملون تبعاتها إلا جزئيا، وبقليل من تصريحات أبواقهم ربما يتبرأون كليا من هذه التبعات. والسؤال الأكثر بؤسا : ترى لو كان الدكتور المتوشح بقلادة النيل أخيرا هو الذي شكل الوزارة بتكليف الرئيس الجديد، هل كان يخرج عن ذلك المزيج الفخم والمعتبر بين كل شيء إلا الثورة والثوار ؟ الإجابة : لا. قد تختلف بعض الأسماء، وربما لا تختلف – إطلاقا – بفضل رعاية السيد الرئيس لمشاورات التشكيل، أما التركيبة : "فلول – عسكر – إخوان"، فلم تكن لتتغير، ولا حتى في نسبتها. إن المطلوب من هذا المزيج بنسبته تلك أن يتحمل تبعات الأزمات التي نتجت عن الثورة، وكذلك الأزمات التي ستنتج سواء عن الصراع السياسي الراهن بين كافة القوى، إن على مستوى التشريع المقبوض عليه عسكريا، أو على مستوى الدستور المهددة لجنته التأسيسية بالقضاء، أو الأزمات التي ستنتج عن كل المطالب الفئوية التي تبدو كقنبلة موقوتة تنتظر الحكومة التي ستنفجر – ولابد – في وجهها، هذا فضلا عن مطالب الثورة ومطالبات الثوار الذين يتزايد شعورهم بالإحباط يوما بعد يوم. إن حكومة بهذا الوضع غير منذورة للبقاء أكثر من أربعة شهور ليبدأ العد التنازلي لإقالتها. وما لا يعرفه الوزير الأول، صغير السن عديم الممارسة السياسية، أن مكونات هذا المزيج ليست مطروحة للانسجام فيما بينها، فضلا عن أن تنصهر في كل واحد على الإطلاق. إذ إن لكل مكون من المكونات الثلاثة مشروعه الخاص، فللفلول مشروع، وللعسكر مشروع آخر خاص جدا ومختلف عن الأول، وللإخوان مشروع أكثر خصوصية ومختلف تماما عن المشروعين الآخريْن معا، وعلى الوزير الأول أن يكون هو ضابط الإيقاع لكل هذا النشاز الحكومي، حتى إعلان الفشل سواء من قِبَلِه بالاستقالة أو من قِبَل من كلّفه بالإقالة. ولكن لماذا ؟ إن أبسط الأسئلة أكثرها تعقيدا على الإطلاق، فإن بساطتها تستفهم عن الأوليات.. عن الأسس.. إنها إذ تلقي على ظاهر الواقع سؤال العلة تحيل إلى ما وراءه لعله يمتلك الإجابة، وهو – بالفعل – يمتلكها. ولنفتتح الإجابة بسؤال نقصد منه التعجب لا الاستفهام : ألم يلاحظ أحد اختفاء الحديث عن صلاحيات الرئيس، وحتى صمت الرئيس عنها، وهو الذي أقسم أمام أهله وعشيرته في الميدان أن يقاتل من أجل هذه الصلاحيات كاملة !! فلماذا إذن هذا الصمت، سواء من الرئيس أو جماعته أو الأقلام التابعة لهما ؟.. إن علة هذا الصمت هي نفسها علة ذلك التشكيل الفاشل للحكومة، وعلة كونها مؤقتة كذلك، سواء فشلت أو حتى أتت بالعجائب ونجحت. إن جماعة الإخوان المسلمين تستكمل منظومة المواجهة قبل خوض معركة الصلاحيات. ولديها الآن رئيس للجمهورية، وحكومة يقبض تسعة من الإسلاميين، منهم خمسة من الإخوان، على أهم الوزارات الخدمية فيها، بانتظار انتخابات المحليات عما قريب، والمحليات الأصل في في السيطرة على مفاصل القاعدة الشعبية، ولا تتبقى إلا تغييرات موسعة للمحافظين وأتوقع أن يعلن عنها قريبا. وبعد، فلا يكون أمام الجماعة إلا أن تنتظر ساعة الصفر المؤقتة بنتيجة الصراع الصامت على الدستور بين الجماعة والعسكري، لتتم إقالة الحكومة، بزعم فشلها، وتشكيل حكومة إخوانية خالصة بما فيها وزارة الدفاع، وتبدأ المواجهة في الشارع، أو ما أسميه "العملية دستور"، هذه التي يؤجلها العسكري ثقة في قوته، وتؤجلها الجماعة بانتظار استكمال أدواتها. إن هذه الحكومة النشاز تقوم على ضرورتين، ضرورة رئاسية، فلا يعقل أن يوجد رئيس جمهورية منتخب، وتستمر الحكومة السابقة على انتخابه، وكان لم يجدّ جديد. وضرورة أخرى هي تقطيع الوقت في ظل الصراع الصامت على الصلاحيات بين الإخوان والعسكري، وصولا إلى ساعة الصفر.. إن المواجهة ستحدث ستحدث، لا لشيء إلا لأن الجماعة نفسها هي التي تريدها لكي تحكم قبضتها على البلد، وليس أمام العسكري إلا الدخول في هذه المواجهة مقتنعا أن خلفه إرادة شعبية ترفض الإخوان وترفض هيمنتهم على كل مفاصل الدولة، أو فعليه أن يتنازل راغما عن كافة امتيازاته المدنية والعسكرية على السواء، والعودة إلى ثكناته خاسرا كل ما اكتسبه عبر الستين عاما الماضية، وخصوصا الثلاثين الأخيرة منها. والسؤال : أين مصر و شعبها، ولا أقول قصدا : أين ثورتها، في حسابات الطرفين ؟ والحقيقة أن من يضع استراتيجيته وفق لأهداف فئوية، إن كانت الجماعة أو كان العسكر، لا يطالب بإجابة هذا السؤال، بل لا يوجه إليه أصلا..