الثورات تهدم أولا .. ثم تبدأ بعد ذلك فى مرحلة البناء .. ومرحلة الهدم هذه هى مرحلة انتقالية يقودها الثوار، إلا أن ما حدث فى مصر هو أمر آخر، قامت ثورة ولم تهدم ما قامت أساسا لهدمه حتى الآن، ولم يحكمها ثوارها، بل حكمها رجال النظام البائد من العسكر، ووضع العسكر خطة محكمة للانقلاب على الثورة باسم الديمقراطية وهى الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وظنت جماعة الإخوان المسلمين أنها قادرة على الاستفادة من المشهد بالحصول على أغلبية دون إنجاز حقيقى تقدمه للشعب، عازفة على وتر التدين الشعبى، إلا أن الإخوان لم يدركوا أن هذا المسار الذى سيحصلون من خلاله على أغلبية لا تقوم على معايير حقيقية من الإنجاز، هو انقلاب على الثورة وإعادة إنتاج للنظام السابق، بما يعنى فى الأساس أن السلطة التى سيحصلون عليها باسم الأغلبية لن تكون سوى وهم، وأن استكمال الثورة أهم من الانتخابات بشكليها البرلمانى والرئاسى، وأن المسار الذى يرسمه العسكر ليس مأمونا ولا محل ثقة، وأن رجال مبارك لن يفرشوا طريق الثورة بالورود من أجل أن تقتلعهم من جذورهم. إلا أن الإخوان لم يفطنوا إلى صوت العقل والضمير، ولكن كل ما ملك عليهم زمام أمرهم هو انتهاز الفرصة التى ربما لن تتكرر مرة ثانية، وحصلوا بالفعل على الأغلبية، ولكنها أغلبية بلا صلاحيات كما حذر الكثيرون، أغلبية عقيمة ممثلة فى برلمان ليس له من البرلمانات سوى الاسم فقط، فهو غير قادر على سحب ثقة من حكومة، أو إصدار تشريع يضع البلاد على الطريق الصحيح، وكأن العسكر قد منحوهم وهما باسم السلطة التشريعية، فى الوقت الذى ظلت فيه كلمة سر السلطة فى يد العسكر حتى الآن. ولقد ساهم هذا الوضع فى فقدان الشعب لثقته فى الإخوان المسلمين، الذين لم ينجزوا حتى الآن شيئا يحسب لهم، بل زادوا الطيب بلة بأن حاولوا الاستحواذ باسم تلك الأغلبية العاجزة المفرغة من مضمونها على اللجنة التأسيسية للدستور، وما كان ذلك إلا فخا آخر أوقعهم فيه العسكر باسم الإعلان الدستورى، وكانت النتيجة ما نراه الآن من فرقة وتشتت للقوى الوطنية، وكأن العسكر استطاعوا فى عدة أشهر أن ينالوا من الإخوان ما لم تستطعه الأنظمة على مدى أكثر من 60 عاما، مما أجبر الإخوان أخيرا على الرجوع إلى الميدان الذى اتهموه كثيرا بأنه ضد الديمقراطية وأنه ديكتاتورية أقلية لا تعبر عن رأى الشعب!! واستمرارا لالتفاف العسكرى والإخوان على الثورة ودماء شهدائها، فها هى الانتخابات الرئاسية التى بدأت بمخالفة صارخة للقانون منذ عودة شفيق رغم صدور قانون يقضى بعزله، وما شاب تلك الانتخابات من انتهاكات فاضحة، ورغم رفض اللجنة الإلهية للانتخابات الرئاسية النظر بعين العدل إلى الطعون المقدمة، فها هم الإخوان مصرون على استكمال المسرحية الهزلية التى تسعى لإجهاض الثورة تماما، وتمنح الشرعية للنظام الذى أرادت إسقاطه. ربما يكون إصرار الإخوان على الدفع بمرشح لانتخابات الرئاسة، ليس قرارا منفردا لهم، بل تم بالاتفاق مع العسكرى فى سياق صفقة بين الطرفين، فليس الهدف أن يكون أى من أعضاء الجماعة رئيسا لمصر، فهذا ما لا يوافق عليه العسكرى إطلاقا، ولكن الهدف الأساسى هو تفتيت الأصوات، خاصة أصوات الإسلاميين، مما يساعد فى إنجاح المرشح العسكرى. وذلك فى مقابل أن يصبح البرلمان قادرا على ممارسة صلاحياته ومنحه الصبغة الدستورية، فكل الصلاحيات معطلة حاليا من قبل المجلس العسكرى حتى لا يظن الإخوان وحلفاؤهم أنهم أصبحوا سلطة حقيقية قادرة على الفعل والخروج على العصمة العسكرية، بل هم سلطة مع إيقاف التنفيذ لحين الوفاء بما تم الاتفاق عليه فى صفقتهم مع العسكرى منذ البداية!