محافظ بورسعيد يعتمد جداول امتحانات أخر العام لصفوف النقل والإعدادية والإبتدائية    وكيل تعليم الأقصر يتفقد ورشة مقيمي وخبراء سوق العمل استعدادًا لامتحانات الدبلومات الفنية    ننشر شروط وقواعد القبول في المدارس المصرية اليابانية    تعليم البحيرة تفوز بالمسابقة الفنية الرابعة للرسم لعام 2024    رئيس الشيوخ يوجه رسالة للحكومة بشأن زراعة القطن    ارتفاع الصادرات السلعية المصرية بنسبة 5.3% لتسجل 9 مليارات و612 مليون دولار بالربع الأول    تباين مؤشرات البورصة خلال مستهل تعاملات اليوم الثلاثاء    امتى هنغير الساعة؟| موعد عودة التوقيت الصيفي وانتهاء الشتوي    نتنياهو: إيران تقف خلف حماس وحزب الله ومجموعات أخرى    انطلاق 34 شاحنة مساعدات ضمن القافلة السادسة للتحالف الوطنى لدعم غزة..فيديو    رسميا، تأجيل مباراة العين والهلال بدوري أبطال أسيا بسبب عاصفة الامارات    كولر يطالب الجهاز الطبي بتحديد موعد إعلان جاهزية ياسر إبراهيم    ثلاثة مصريين في نهائي بلاك بول المفتوحة للاسكواش    "النظافة وحماية البيئة وأثرهما على صحة الإنسان" ندوة تثقيفية بالشرقية    بسبب خلاف على أولوية المرور، إصابة شخصين بوابل من الرصاص في السلام    أعلى معدل.. الأرصاد تحذر من ارتفاع شديد بدرجات الحرارة حتى هذا الموعد    سقوط 3 عناصر إجرامية بحوزتهم حشيش بالأقصر    الملاكي لبست في الكارو.. مصرع وإصابة شخصين في حادث بالشرقية    ننشر جدول امتحانات صفوف النقل للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية بالقليوبية    شابان يستعرضان بدراجة وسلاح بالعمرانية.. والأمن: "بندقية بلاستيك"    حملة أمنية موسعة لضبط تجار المخدرات بمحيط الأندية والمدارس    بضربة شوية.. مقتل منجد في مشاجرة الجيران بسوهاج    بعد مليحة، أمير المصري يشارك في فيلم تاريخي    ربنا مش كل الناس اتفقت عليه.. تعليق ريهام حجاج على منتقدي «صدفة»    مستشار المفتي: مصر قدمت نموذجا يعكس استراتيجية محكمة في التواصل العالمي    «افرح يا قلبي».. أحدث إصدارات هيئة الكتاب ل علوية صبح    حسن الرداد يكشف عن أحدث أعماله السينمائية مع إيمي سمير غانم    برلماني يطالب بمراجعة اشتراطات مشاركة القطاع الخاص في منظومة التأمين الصحي    هيئة الدواء تحذر من شراء أدوية خفض الوزن عبر الإنترنت    ميكنة الصيدليات.. "الرعاية الصحية" تعلن خارطة طريق عملها لعام 2024    كوريا الجنوبية تحتج على مطالبة اليابان بجزر دوكدو    تعرف على موعد عزاء الفنانة الراحلة شيرين سيف النصر    بالأسماء، تنازل 21 مواطنا عن الجنسية المصرية    بعد تصديق الرئيس، 5 حقوق وإعفاءات للمسنين فى القانون الجديد    في عيد ميلادها، تعرف على أبرز المحطات الفنية ل روجينا    مواعيد مباريات اليوم الثالث ببطولة إفريقيا للكرة الطائرة    كول بالمر يصبح أول لاعب في تشيلسي يقوم بتسجيل سوبر هاتريك في مباراة واحدة منذ فرانك لامبارد في 2010    كندا تدين الهجمات الإجرامية للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية    جوتيريش: بعد عام من الحرب يجب ألا ينسى العالم شعب السودان    الرئيس الصيني يدعو إلى تعزيز التعاون مع ألمانيا    التعليم تخاطب المديريات لتنفيذ المراجعات النهائية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية    تفاصيل مقترحات إدارة وتشغيل مشروع تطوير موقع التجلى الأعظم بمدينة سانت كاترين    رد الدكتور أحمد كريمة على طلب المتهم في قضية "فتاة الشروق    لتلك الفئات.. دفع رسوم التصالح 3 أضعاف    الصين تؤكد على ضرورة حل القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين    انطلاق الجولة 23 من دوري نجوم العراق ب5 مباريات.. أهمها الشرطة وأربيل    «الصحة» تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    وزارة الصحة: السجائر الإلكترونية تسبب الإدمان وتحوى نسبا كبيرة من السموم    حظك اليوم برج القوس الثلاثاء 16-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    موعد انتهاء خطة تخفيف أحمال الكهرباء.. متحدث الحكومة يوضح    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    حدث ليلا.. نيران تلتهم إسرائيل وفيضانات في عمان وإعصاران ببريطانيا (فيديو)    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    أبرزها عيد العمال.. مواعيد الإجازات الرسمية في شهر مايو 2024    أيمن دجيش: كريم نيدفيد كان يستحق الطرد بالحصول على إنذار ثانٍ    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    لماذا رفض الإمام أبو حنيفة صيام الست من شوال؟.. أسرار ينبغي معرفتها    رئيس تحرير «الأخبار»: الصحافة القومية حصن أساسي ودرع للدفاع عن الوطن.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التطرف تاريخه وشرح مفصل
نشر في البداية الجديدة يوم 14 - 11 - 2012


الدكتور كمال المويل
هذه الرسالة تتضمن النقاط التالية: إلى من يهمه الأمر، مقدمة في بيان أصل التطرف. ملاحظات حول التطرف، علامات ومظاهر التطرف، مناهج وأفكار التطرف، نشأة التطرف في العصر الحديث، أسباب التطرف، في علاجات التطرف.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، إمام المتقين، وقائد الدعاة المهتدين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
إلى من يهمه الأمر:
قال الله تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب) (إبراهيم: 52).
(1) التطرف ظاهرة عالمية تشمل العالم كله، ولا تقتصر على قطر دون قطر، ومن هنا فإنّ محاولة التشخيص والعلاج على أساس قطري محلي ستؤدي إلى خطأ في التشخيص وخلل في العلاج.
(2) التطرف ظاهرة قديمة موصولة الحلقات ولها جذورها التاريخية، وليست ظاهرة حديثة كما يراها الناس، فما ظهر دين ولا مذهب وضعي إلا وكان أنصاره قسمين: متطرفون ومعتدلون.
(3) التطرف ظاهرة مركبة لها أبعادها الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإن كانت تبدو على السطح كظاهرة سياسية، ومن هنا فإنّ علاج الظاهرة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه الجوانب ولا يقف عند السياسي منها.
(4) البيئة التي تنمو فيها ظاهرة التطرف هي البيئة التي يُقمع فيها الاعتدال، وتغيب فيها الحريات، ويتم التعامل فيها مع ظاهرة التطرف من قبل المتنفذين على أساس من الانتهازية السياسية.
(5) وفي كل الأحوال يجب الوقوف عند حق الناس في الحياة، وإعطاؤهم حرياتهم في الرأي والاجتماع والتعليم والعمل والمساواة والعيش الكريم كمدخل لعلاج ظاهرة التطرف.
مقدمة في بيان أصل التطرف:
قال أبو سعيد الخدريرضي الله عنه: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسّمها بين أربعة يتألف قلوبهم على الإسلام، فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كثّ اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، وهو ذو الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا محمد، وفي رواية، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((إن لم أعدل فمن يعدل؟! أفيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!))، فقام رجل، قيل: عمر وقيل: خالد، فقال: دعني أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معاذ الله أن يُقال: إن محمدا يقتل أصحابه)) وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: ((لعله يصلي))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ، أي جنس، ذا الرجل قوم سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية)) (أخرجه الستة).
هذا الحديث في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، فالشبهات التي ستقع فيما بعد شبيهة بها، لأنها تدل على منهج حذر الإسلام منه كما حذر الأنبياء السابقون منه وهو الغلو في الدين والتشدد فيه والإفراط في أخذه، فالله تعالى بين لنا المنهج الصحيح في كيفية فهم الدين والتعامل معه وهو منهج الاعتدال، فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا) (البقرة: 143)، وحذرنا من مناهج الأمم السابقة في البعد عن الدين بالإفراط فيه وهو الغلو فقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَق) (النساء: 171)، كما حذرنا من التفريط في الدين وذلك بالتسيّب والإهمال واتباع الأهواء فقال: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّة) (البقرة: 63) أي: بجد واجتهاد، وقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا) (مريم: 59). وقد قال الإمام الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل): ((إنّ الأساس في ضلا ل الفرق هو البعد عن الاعتدال إما بالإفراط وإما بالتفريط))، والغلو من الإفراط والتسيّب من التفريط.
وكلا الإفراط والتفريط يدخل في باب التطرف، لأن الإفراط تطرف بالزيادة والتفريط تطرف بالتنقيص، ولكن الناس قد اصطلحوا بكلمة التطرف على الإفراط ، ومع ذلك لابد لنا من البيان أنّ هناك علاقة دائما بين الإفراط والتفريط لأن كلا منهما يؤدي إلى الآخر.
ومع أنني قد ترددت كثيرا في الكتابة عن التطرف إلا أنني قررت الكتابة في ذلك لما في الكتابة من خدمة لدين الله وبيان للمنهج الصافي الذي لا تشوبه شائبة وهو منهج القصد والاعتدال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)) (النسائي)، وقال أيضا: ((هلك المتنطعون)) (مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات)) (الطبراني).
ومع أنّ الأحاديث الثلاثة السابقة استخدمت ثلاث كلمات في وصف التطرف وهي: الغلو، والتنطع، والتشديد، فإنها قد وصفت نتيجة التطرف بكلمة واحدة وهي: الهلاك، وكفى ذلك زاجرا للمسلمين في البعد عن التطرف والرجوع عنه، فإنه لا يؤدي إلا إلى الهلاك.
ملاحظات حول التطرف:
(1) حتى نكون واضحين منذ البداية يجب التفريق بين الاعتدال والتطرف، وذلك حتى يظهر المعتدل حقيقة عن المعتدل ادعاءا، فالقاعدة في التفريق بينهم هي أنّ المعتدل يقبل بالآخر ولا يدعي الحقيقة المطلقة ويقول: مذهبي صحيح ويحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصحة، أما المتشدد فلا يقبل بالآخر ويدعي الحقيقة المطلقة ويقول: مذهبي صحيح ولا يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ ولا يحتمل الصحة.
(2) وحتى يكون لحوارنا مع المتطرفين فائدة يجب أن نعرف أنه لا قيمة للآ راء المجردة وأقوال الأشخاص مهما بلغوا من المكانة في الدين عند المتطرفين، وشيء واحد يجد عندهم آذانا صاغية ويترك أثرا واضحا في قناعاتهم وهو الاجتهاد المبني على الدليل، والدليل هنا هو الآيات القرآنية والصحيح الثابت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبغير هذا التوثيق الشرعي المبني على النصوص والقواعد الشرعية فلن يعير المتطرفون التفاتا إلى مقالة أو فتوى أحد من الناس، وحتى لو كان هذا الأحد هو صحابيا أو إماما معروفا من الأئمة.
(3) وفي الحوار مع المتطرفين يجب عدم المعاملة بالمثل فكريا، فلا نرد على التكفير بتكفير ولا على التفسيق بتفسيق ولا على التحريم بتحريم، لأنّ هذا لا يتفق مع كوننا مجتهدين قد نصيب وقد نخطأ، ولأن هذا الذي يريده المتطرفون، فالرد على التكفير بتكفير يعطي شرعية للمتطرف، هو يبحث عنها، أكثر مما يؤثر في قناعاته وآرائه، فالقاعدة في الحوار هنا هي: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم) (فصلت: 34).
(4) إنّ التطرف عند الناس قضية نسبيه مع كونه ليس كذلك من حيث الحقيقة، فمقدار تدين الشخص له علاقة بالوسط الذي يعيش فيه من حيث تقييم هذا الوسط للتدين ووصفه بأنه تطرف أو اعتدال أو تسيب. فإذا كان الوسط متسيبا وبعيدا عن الدين فإنّ أيّ جرعة من التدين قد تجعل الشخص يُتهم بالتطرف، وحتى المعتدل دينيا في وسط متسيب دينيا يُتهم بالتطرف، وهذا كما في القول المأثور: حسنات الأبرار هي سيئات المقربين.
وكانت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها تُنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم * وبقيت في خفٍ كجلد الأجرب وتقول رحم الله لبيدا، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وكان عُروة بن الزبير، وهو ابن أخت عائشة، يُنشد هذا البيت ويقول: رحم الله لبيدا وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟.
وهذه النسبية في التطرف ليست معيارا للحكم على الشخص أو الحالة بالتطرف لأن القاعدة كما قدّمنا هي القبول بالآخر.
(5) ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: ((ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما)) (البخاري). ولو أنّ مسلما اختار الأمر الأقل يسرا فلا يجب أن نتهمه بالتطرف بل يجب التفريق بين التطرف من جهة وبين اختيار الأقل يسرا، فمن اختار من الأمور الأقل يسرا لا يكون متطرفا ما لم يقل ببطلان الأيسر. وكذلك من أخذ بالعزيمة فلا نعتبره متطرفا ما لم يقل ببطلان الأخذ بالرخصة. فالأخذ بالأقل يسرا أو الأخذ بالعزيمة هو حق لكل مسلم، فالناس متفاوتون وطاقاتهم مختلفة وليس لنا أن نحمل الناس على مسلك واحد في العمل، لأن حمل الناس على رأي واحد في هذه المسائل هو من الفتنة.
(6) وبعد أن قررنا أن التطرف بُنية لا تقبل بالآخر ولا ترى له محلا في التعايش السلمي، يجب أن نقرر أنّ التطرف ليس إسلاميا فحسب بل كل من لا يقبل بالآخر فهو متطرف سواء كان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا، وسواء كان إسلاميا أم قوميا أم ماركسيا أم ليبراليا، وقد وجدنا في الواقع متطرفين غير إسلاميين ويتهمون خصومهم بالردة عن الخط الفكري، بل ووجدنا من يحمل البندقية لاستئصال الآخر، ومن الناحية التاريخية أطلق مصطلح التطرف والراديكالية على اليسار واليمين قبل أن يُطلق على الإسلاميين.
(7) يجب التفريق بين التطرف والجريمة، فكلاهما خروج على القواعد الاجتماعية والقانونية باتخاذ سلوك مخالف لما تقضي به تلك القواعد، ولكن الجريمة حركة سلبية في عكس اتجاه القواعد أما التطرف فهو حركة ايجابية في بدايته ولكنه يتجاوز الحدود المقبولة والمتفق عليها، فإذا كانت الجريمة هروبا إلى الوراء فإنّ التطرف هروب إلى الأمام، وكذلك نجد أنّ الجريمة أخلاقية والتطرف سياسي سواء من خلال الدوافع أم من حيث النتائج .
(8) ولأنّ التطرف حركة تبدأ من التسيب وتمر بالاعتدال ومنه إلى التطرف، فإنّ هناك صعوبة في التفريق بين المعتدل والمتطرف. ففي مجال التطرف الديني يبدأ الفرد متدينا عاديا يأخذ بتعاليم الإسلام وآدابه ويدعو الناس إلى الأخذ بها، وهذه البداية لا يملك المجتمع إلا الرضا عنها، لأنها بداية تقوم على التفريق بين الخير والشر والأخذ بالخير ونبذ الشر، ثم يواصل المتدين مسيرته باتجاه التشدد مع نفسه ومع الآخرين لأسباب سنذكرها، ثم يتجاوز ذلك إلى أحكام قاطعة بإدانة الآخر وعدم القبول به والسعي لاستئصاله فكريا وسلوكيا ولو كان هذا الآخر هو المجتمع بأسره.
علامات ومظاهر التطرف:
(1) إنّ أول علامات التطرف هي ادعاء الحقيقة المطلقة، والتعصب للرأي، بحيث لا يعترف المتطرف للرأي الآخر باحتمال الصحة، ولا يعترف بأنّ رأيه يحتمل الخطأ، وهو ما يُعبّر عنه عادة بالقول: مذهبي صحيح ولا يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ ولا يحتمل الصحة، هذا المبدأ سببه الجهل بمقاصد الشريعة وبواقع الناس وملابسات المسألة الشرعية، وهذا المبدأ يكرس عدم الحوار مع الآخرين، ولذلك كان السلف الصالح يقولون: ((لا يفقه الرجل حتى يرى للمسألة أوجها))، والمتطرف لا يرى للمسألة إلا وجها واحدا مع أن لكل مسألة من حيث الفقه حجما وظرفا وملابسة، والمسائل تتشابه ولكنها نادرا ما تتطابق.
(2) ومن علامات التطرف التزام التشديد دائما وإلزام الآخرين به، وعكس ذلك التسيب الذي هو التزام التسهيل دائما وإلزام الآخرين به، وبيان ذلك أن في كل مذهب من المذاهب الفقهية الإسلامية نوعا من التوازن، فنجد الإمام الشافعي مثلا يتشدد في مسائل ويتساهل في مسائل وكذلك بقية المذاهب، ولكن المتطرف يأخذ بالتشديد دائما فيجتمع عنده التشدد كله ويصبح متطرفا.
وقد نبّه أحد الفقهاء إلى خطورة هذا المنهج فقال: عند كل فقيه يوجد بعض الأخطاء ولو أنّ إنسانا اختار الأخطاء من كل مذهب لاجتمع عنده الخطأ كله .
ولا مانع أن يأخذ المرء بالأشد في بعض المسائل حيطة وورعا، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنا عنده، كما لا ينبغي أن يُلزم الآخرين بما اختاره من التشدد في بعض المسائل، فهناك حاجة إلى التيسير في بعض المسائل كما هناك حاجة إلى الأخذ بالرخص، وفي الحديث: ((إنّ الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (أحمد)، وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر) (البقرة: 185)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) (البخاري)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى وحده قام حتى تتفطر قدماه فإذا صلى بالناس كان أخف الناس صلاة وقال: ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإنّ فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوّل ما يشاء)) (البخاري).
(3) ومن علامات التطرف الاختلال في وزن المسائل والمحاسبة على النوافل كأنها فرائض وعلى المكروهات كأنها محرمات وتكفير المسلمين على ارتكابهم لمحرمات أو مكروهات وإلحاق الاجتهادات بالثوابت والقطعيات، وقد وجدنا بعض المتطرفين يكفرون الناس على سماع الموسيقى مع أنه لم يرد نص قاطع في تحريم الموسيقى، فأين ورد النص القاطع في تكفير من يسمعها؟! وهذا الاختلال في وزن المسائل ليس من الإسلام ولا من الشريعة الإسلامية حيث بيّن لنا الإسلام بأن هناك مكفرات وهناك ذنوب كبار وهناك ذنوب صغار وهناك مكروهات وهناك مباحات، وبيّن لنا أن هناك فرائض وهناك مندوبات، وللإسلام أركان وللإيمان أركان، فلا يجوز الخلط بين هذه المفاهيم الإسلامية بل يجب وزنها بميزان دقيق قال تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم) (الشعراء: 182).
ومثال ذلك الأعرابي الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام فعدد له: الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، فقال الرجل: هل علي غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أدبر الرجل: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) وفي رواية ((لئن صدق ليدخلن الجنة)) (البخاري).
(4) ومن مظاهر التطرف التشديد في غير محله وذلك باعتبار العادات أنها سنن ومحاسبة الناس على هذا الأساس، ومثال هذه العادات: لبس العمامة ولبس الجلابية والأكل جلوسا على الأرض وعدم استعمال الملاعق في الطعام والجلوس على الأرض أثناء حضور الدرس الديني أو درس القرآن، فكل هذه المسائل كان يفعلها صلى الله عليه وسلم على عادة قومه وهو لم يأمر بها ولم ينه عن مخالفتها، ولكن بعض المتطرفين يعتبرونها سننا أو فرائض ويحاسبون الناس عليها ويتهمون الناس بترك السنن وفعل المحرمات في حال مخالفة هذه العادات.
(5) ومن مظاهر التطرف العنف في التعامل والقسوة في الأسلوب والغلظة في العلاقة مع الآخرين وهذا مخالف لتعاليم القرآن، كما إنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله تعالى وصف رسوله فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك) (آل عمران: 159)، وأمرنا أن ندعو إلى سبيله بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة لا بالعبارة الخشنة، وأمرنا أن نجادل الآخرين بالتي هي أحسن لا بالتي هي أسوأ، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) (النحل: 125). وفي مجال الدعوة إلى الله لا مكان للعنف والغلظة والخشونة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما دخل الرفق شيئا إلا زانه، وما دخل العنف شيئا إلا شانه)) (مسلم)، وقال أيضا: ((إنّ الله رفيق يحب الرفق)) (مسلم).
وقد ذكر الإمام الطبري في تاريخه أن رجلا دخل على الخليفة العباسي المأمون فأغلظ له في القول، وكان المأمون عالما، فقال للرجل: يا هذا إن الله قد أرسل من هو خير منك موسى عليه السلام إلى من هو شر مني فرعون فقال له: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44). ولا مكان للغلظة والشدة إلا في موضعين ذكرهما القرآن: (الأول) في قلب المعركة مع الكفار حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَة) (التوبة: 123)، (والثاني) في إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات الشرعية حيث قال تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه) (النور: 2).
(6) ومن مظاهر التطرف سوء الظن بالآخرين واعتبار ((كل متهم مدان حتى تثبت براءته)) خلافا للقاعدة الشرعية والإنسانية والقضائية التي تقول ((كل متهم بريء حتى تثبت إدانته))، وهذه القاعدة عند المتطرفين يُترجمونها بالقول ((كل فرد في المجتمع كافر حتى يثبت إسلامه)) وذلك انطلاقا من تكفير عامة الناس إلا من كان ملتزما بجماعة متطرفة.
وهذا المظهر ناجم عن سوء الظن بالناس مع أن تعاليم الإسلام تُحذر من سوء الظن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم) (الحجرات: 12)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث)) (البخاري). ولو فرضنا أن المجتمع غير مسلم وأنا مسلم أعيش في هذا المجتمع، فلماذا يُقال لي: أنت كافر حتى تثبت العكس! وعند من يجب أن أثبت العكس؟ فهل هناك أناس كالأنبياء مخولون من الله كي نُثبت إسلامنا عندهم؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الرجل يقول:هلك الناس فهو أهلكهم)) (مسلم).
(7) ومن مظاهر التطرف اختزال الناس والظواهر إلى إحدى صفاتهم وبعض جوانبهم، فالمتطرف يختزل الشيء إلى أحد جوانبه أو يختزل الجانب إلى إحدى صفاته أو يختزل الشخص إلى صفة من صفاته، فيقيّم الآخرين من خلال صفة من صفاتهم وربما من خلال جملة أو قول، فإن أحبّ إنسانا اختزله إلى صفة حسنة من صفاته وإن كره إنسانا اختزله إلى صفة سيئة من صفاته.
مع أن الاعتدال يعني تقييم الناس أو الظواهر ككل، فتذكر الصفات الحسنة ويحدد مقدارها وحجمها وتذكر الصفات السيئة ويحدد مقدارها وحجمها وهذا هو العدل الذي أمر الله به فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل) (النحل: 90).
(8) ولعل أخطر مظهر من مظاهر التطرف هو التكفير، حيث يخوض المتطرف نتيجة فكره العدمي في لُجة التكفير ويتهم عامة المسلمين بالخروج من الإسلام أو عدم الدخول فيه أصلا، ومنه استباحة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وهي دعوة إلى استئصال الآخر وإبادته وتطهيره عرقيا بحد السيف على مجرد عدم الانتماء إلى المجموعة المتطرفة.
وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر الإسلام، وهم أقدم الفرق الإسلامية، حيث وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: ((قوم سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن ولا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) (أخرجه الستة). والخوارج سُموا كذلك لأنهم خرجوا على الإمام الحق، ومروقهم من الدين ليس خروجا من الإسلام وإنما خروج من طاعة الإمام، وهو الدين.
وهذا القتل على الهوية عند الخوارج جعل أحد علماء المسلمين حين وقع مرة في قبضة الخوارج وسألوه عن هويته، فقال: مشرك مستجير يريد أن يسمع كلام الله، قالوا له: لك حق علينا أن نجيرك ونبلغك مأمنك، وتلوا عليه قول الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه) (التوبة: 6)، ولو قال لهم : مسلم، لقطعوا رأسه.
مناهج وأفكار التطرف:
(1) الفهم الخاطئ لفكرة الحاكمية لله وحده، وذلك بنزع صفة التشريع عن الجماعة وعدم التفريق بين تشريع لم يأذن به الله وتشريع أذن به الله، فالله تعالى لم يأذن للناس في تشريعات كحرمة الخمر وأذن لهم في تشريعات ضمن المقاصد العامة للشريعة ومصالح الناس كقوانين المرور، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) (الشورى: 21)، وعلى هذا فللجماعة الحق في التشريع ضمن التشريع، التشريع في المتحركات بحيث تتفق مع الثوابت.
والمتطرفون يقولون ((من شرّع فقد كفر))، وهذا الشعار ترجمة عملية لشعار ((لا حاكم إلا الله)) الذي قال عنه الإمام علي: ((كلمة حق أريد بها باطل)). وفي إطار هذه الشعارات يصف المتطرفون الديمقراطية بأنها كفر ظنا منهم أن الديمقراطية هي نظام بديل عن نظام الإسلام مع العلم أن الديمقراطية آلية في حل النزاعات بين الناس وليست نظاما، فإذا كانت الأكثرية إسلامية يكون القرار إسلاميا وإذا كانت الأكثرية غير إسلامية يكون القرار غير إسلامي وذلك وفقا لمبدأ الأغلبية الذي تقوم عليه الديمقراطية.
(2) الفهم الخاطئ لقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون) (المائدة: 44)، حيث يظن المتطرفون أن كل قاض يقضي بغير الإسلام فهو كافر.
مع أن جمهور علماء الأمة قالوا عن قاضي السوء بأنه مذنب وليس بكافر وفرّقوا بين القاضي الذي يقضي وفق شريعة غير إسلامية (حكم الاستبدال) وبين القاضي الذي يقضي وفق الشريعة الإسلامية لكنه لسبب ما جار في قضاء من أقضيته، والحديث يقول: ((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار)) (أبو داود)، فالحديث وصف من جارفي قضائه بأنه في النار أي مذنب ولم يقل أنه كافر مرتد يجب قتله. والقاضي الذي يجتهد ويخطأ مأجور وليس مأزورا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (البخاري). إن الفهم الخاطئ لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله ...) (الآية) وعدم التفريق بين الأحوال الثلاثة التي ذكرناها جعل المتطرفين يكفرون المسلمين جهلا منهم بهذا الدين وذلك بعدم تنزيل النصوص في منازلها في واقع الحياة، وبفهم النص معزولا عن بقية النصوص وعن قواعد الشريعة وضوابط فهم النص في الإسلام.
(3) الفهم الخاطئ لمصطلح الجاهلية وذلك بتعميمه على المسلمين وإسقاطه على الأفراد والجماعات منهم، فالقرآن والسنة أشارا إلى حالات بعينها على أنها من صفات الجاهلية والإشارات كانت مقيدة ولم تكن مطلقة كقوله تعالى: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، وكقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) (البخاري) ولم يقل له: إنك جاهلي.
ثم إن إسقاط الأوصاف العامة على الأفراد المخصوصين يحتاج إلى الشهود والإثبات، ومثال ذلك أنه صلى الله عليه وسلم: ((لعن شارب الخمر)) فيجوز لنا أن نلعن شارب الخمر على العموم، أما أن نلعن شخصا بعينه فلا يجوز حتى لو رأيناه يشرب الخمر، لأنّ اللعن طرد من رحمة الله وليس لأحد أن يطرد أحدا من رحمة الله، بل ندعو لشارب الخمر بالهداية، وبذلك نعينه على الشيطان لا أن نعين الشيطان عليه باللعن المخصص، ولنا أن نزيل المنكر باليد إن استطعنا، فإن لم نستطع فباللسان، فإن لم نستطع فبالقلب والدعاء بالهداية كما في الحديث: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (مسلم).
(4) ومن المناهج المتطرفة تكفير المسلم بالذنب سواء كان صغيرا أم كبيرا ووصف المجتمعات بأنها كافرة لارتكابها الذنوب بل ووصف المسلمين بأنهم كفار لارتكابهم الذنوب وإن صلّوا وصاموا وأنفقوا أموالهم في سبيل الله، وبعض المتطرفين يكفرون من يحلق لحيته أو يستمع إلى الموسيقى أو يشرب الدخان مع أن هذه الأمور من المكروهات وليست من المحرمات المتفق على تحريمها.
والتكفير بالذنوب ليس له أساس من الشريعة الإسلامية لأن القاعدة في التكفير هي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء) (النساء: 116)، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له وباب التوبة مشرّع للتائبين، وتفصيل ذلك أن الله يعفو عن الذنوب الصغار سواء تاب منها المسلم أم لم يتب، ويعفو عن الذنوب الكبار إن تاب المسلم منها، وأما من مات ولم يتب من ذنب كبير فهو في مشيئة الله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء): إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وكذلك قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما) (النساء: 31) تصديق لما قلناه.
(5) ومن الأفكار المتطرفة الفهم الفاسد والإسقاط الخاطئ لمصطلح الجماعة الوارد في الحديث: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية)) (مسلم)، حيث ذهبت كل جماعة من الجماعات المتطرفة إلى أنها هي المقصودة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من بلغته دعوتها ولم ينتسب إليها فهو كافر، وأن من لزمها حينا ثم تركها فهو مرتدّ، وأكثرهم يقولون: إن من لم ينضم إلى جماعتهم فهو كافر سواء بلغته الدعوة أم لم تبلغه.
وفي بيان بطلان هذه الادعاءات نقول: إنّ كلمة الجماعة المذكورة في الحديث معرّفة بأداة التعريف (ال) والتي يقول عنها علماء اللغة أنها (ال) العهدية أي: إن الحديث ينصّ على الجماعة المعروفة والمعهودة لمن يسمع الحديث، وهي جماعة الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان المراد غير ذلك لجاءت اللفظة نكرة:"من خرج عن طاعة وفارق جماعة" وعندها تفيد العموم، ولكن ذلك لم يحصل في الأحاديث وإنما أفادت الخصوص دائما. ولبيان بطلان ادعاء المتطرفين نسألهم: من منكم يجرؤ على الإدعاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال الحديث ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة...)) أراد الجماعة الفلانية في عام 1427 هجرية؟!.
(6) ومن المناهج المنحرفة عند المتطرفين المنهج الحرفي في تفسير النصوص وذلك بانتقاء آيات وأحاديث معينة والتمسك المطلق بحرفيتها دون التفات إلى النصوص الأخرى في نفس المسألة ودون التفات إلى المقاصد العامة للشريعة وهي : حفظ العقل والدين والنفس والمال والعرض ودون التفات إلى أسباب النزول أو معرفة بأصول الاستدلال اللغوي والشرعي أو معرفة بظروف وملابسات الواقع الذي هو محل تنزيل النص. ويحضرني على المنهج الحرفي في فهم النصوص وهو مثال معروف في الفقه الظاهري حيث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبال في الماء الراكد)) (مسلم)، فأصحاب المذهب الظاهري قالوا بحرمة التبول في الماء الراكد ولكنهم أجازوا التغوط في الماء الراكد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الأخير.
(7) ومن الأفكار المتشددة عند الجماعات المتطرفة المفاصلة الشعورية أو المفاصلة الفعلية، والغاية من المفاصلة عند المتطرفين هي تجنيب أعضاء الجماعة مقارفة المنكرات التي تملأ المجتمع وتكوين مجتمع خاص بهم تُطبق فيه تعاليم الإسلام، فهي تؤدي وظيفتين: (الأولى) دينية وفكرية (والثانية) سياسية وحركية، لأنّ تكوين المجتمع الخاص لا بد أن تتسع دائرته حتى يستطيع غزو المجتمع الجاهلي.
وفي موضوع المفاصلة يختلف المتطرفون فالشباب منهم يدعون إلى المفاصلة المادية الفعلية وذلك من خلال مقاطعة الحياة العامة في المجتمع، فلا يُصلون في المساجد لأنها معابد الجاهلية الحديثة، ولا يشاركون في الحياة الانتخابية لأنها كفر، ويقاطعون الوظائف والمدارس والجامعات، والبعض نادى بالهجرة إلى الجبال أو الصحارى أي إلى حيث لا يوجد مجتمع وناس، والكهول منهم يدعون إلى المفاصلة الشعورية فقط وبرروا ذلك بأنهم يعيشون في مجتمع مكّي وفي مرحلة العهد المكي ورتبوا على ذلك عدم تحريم الزواج من المشركات، وحرمة القتال، وأباحوا العمل بالأحكام المنسوخة، وأجازوا الحياة في المجتمع مع كتمان قناعاتهم فمارسوا نوعا من التُقية.
والخطأ الذي يقع فيه المتطرفون في موضوع المفاصلة له جانبان: (الأول) أنهم في الحقيقة لا يفاصلون كفارا وإنما هم يفاصلون مسلمين مثلهم اختلفوا معهم في الرأي فكفّروهم على خلاف الرأي وقاموا بمفاصلتهم (والثاني) أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمفاصلة بل أمر بالاختلاط مع الناس من أجل الدعوة فقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)) (الترمذي).
والسؤال المطروح على المتطرفين: كيف تستطيعون الجمع بين المفاصلة والدعوة؟! كيف تستطيع أن تدعو الناس إلى الإسلام بعد أن تُفاصلهم؟!.
(8) ومن المناهج المتطرفة عدم أخذ المعارف والعلوم الدينية إلا من أشخاص بعينهم وهم أمراء وعلماء الجماعة المتطرفة وتحريم أخذ العلم من غيرهم، وكذلك تحريم قراءة الكتب مطلقا والاستخفاف بآراء الأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم، والتسليم بحق الاجتهاد المطلق لزعماء حركاتهم، مع أن أولئك الأمراء المزعومين لا يملكون عدة الاجتهاد وآلته وبالتالي غير قادرين على الإفتاء الصحيح، وقد زعم بعضهم أنه يتعامل مع القرآن مباشرة ولا حاجة به للاستئناس بآراء العلماء المسلمين على مر العصور، ولذلك سمعنا فتاوى تخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، فقد قام بعضهم بتزويج أخته من شخص ثانٍ دون أن يطلقها من الأول بحجة أن الأول كافر مرتد لتركه الجماعة وأن عقد الزواج ينفسخ بمجرد الكفر وهو ترك جماعتهم.
والمشكلة هنا لها شقان: (الأول) إن ترك أيّ جماعة دينية لا يعتبر كفرا، لأن العمل الإسلامي طوعي وقد يكون واجبا في بعض الحالات وهنا يكون الترك حراما وليس كفرا. (والثاني) لو فرضنا جدلا أن متزوجا ارتد عن الإسلام فهل ينفسخ عقد زواجه؟ في هذه المسألة عند الفقهاء قولان، الراجح فيهما أن عقد الزواج لا ينفسخ بمجرد الردة بل لا بد من الطلاق، ونحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب إلى زوجها أبي العاص بن الربيع بعد ست سنوات من الفراق بينهما بسبب إيمانها وكفره، وقد ردها على العقد الأول.
نشأة التطرف في العصر الحديث:
ظهر الفكر المتطرف لأول مرة في السجون المصرية في الخمسينات كرد فعل لألوان التعذيب التي تعرض لها الإسلاميون المعتقلون.
وذلك أن القائمين على الأمور حينها كانوا يمارسون النظام الديكتاتوري والاستبداد السياسي ويسجنون الناس ويعذبونهم على آرائهم ويقمعون الحريات العامة كحرية الرأي وحرية الاجتماع. في الخمسينات وفي السجون المصرية جرى هذا النقاش بين المساجين: هل يكفر من لم ينضم إليهم على اعتبار أنهم جماعة المسلمين التي ورد بشأنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) (البخاري)؟ فقال البعض بكفر من لم ينضم إلى الجماعة، وكان الرأي العام في الجماعة بأنهم جزء من المسلمين وليسوا كل المسلمين فهم "جماعة من المسلمين وليسوا جماعة المسلمين".
كما جرى نقاش حول الشرطة جنودا وضباطا هل هم مسلمون؟ فقال بعض المساجين بكفرهم وذلك استنادا إلى قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين) (القصص: 8) وقالوا: إنّ النص لم يفرّق بين فرعون وجنوده في الحكم الشرعي، وكان رأي عامة الجماعة أن الحاكم ظالم وليس كافرا وهؤلاء الجنود هم ظلمة وليسوا كفرة على فرض اقتناعهم بعملهم أما إذا لم يكونوا مقتنعين فهم مكرهون على فعل الظلم.
وجرى نقاش حول هوية المجتمعات التي يعيشون فيها:هل هي إسلامية أم جاهلية؟ فقال البعض بأنها مجتمعات جاهلية، وكان رأي عامة الجماعة بأنها مجتمعات مسلمة عاصية وأنها بمعصيتها لا تخرج من دائرة الإسلام.
وفي الستينات من القرن الماضي تكررت الاعتقالات لهذه التجمعات الإسلامية ذاتها وتعرضوا مرة أخرى لما سبق أن لاقوه من ألوان التعذيب وعلومه وفنونه، وقد أشاعت هذه التجمعات الإسلامية أن هناك مخططا عالميا لضرب الإسلام وتطويعه للأهداف الصهيونية والصليبية. هذه الأساليب في التعامل مع الآخر كانت الدافع إلى نشأة فكر التكفير واستئصال الآخر، فلكل فعل خاطئ رد فعل خاطئ، وقد أعلن عن ميلاد فكر التكفير عام 1967م بعد حرب حزيران في معتقل أبي زعبل السياسي بمصر، عندما طلبت السلطة من المعتقلين تأييدها بالروح والدم في مواجهة الكيان الصهيوني. هنا اجتهد بعض المعتقلين لمنع البلاء عن الباقين فكتبوا صحيفة تضمنت تأييدهم للسلطة في مواجهة إسرائيل ولكن البعض الآخر، وهم الأقل، أشاع أنه يجب مواجهة النظام بكفره وكفر من لم يعلن كفر هؤلاء الحكام.
وتسرب هذا الرأي إلى المسؤولين عن المعتقلات من رجال الشرطة، فتشكلت لجنة أمنية خاصة لمقابلة المعتقلين فردا فردا، وطلب التأييد منهم ظاهرا، فكانت النتيجة أن أجاب زعيم المتطرفين بأن النظام المصري والنظام الإسرائيلي طواغيت يحارب بعضهم بعضا لمصالح دنيوية وأنهم جميعا في الكفر ملة واحدة، فقامت اللجنة بعزله وعزل من يشاركه الرأي في زنازين خاصة ومنعت عنهم كل شيء سوى القليل من الطعام والشراب بحيث لا يموتون، وقد اتفق رأي المتطرفين على كفر الحاكم وكفر المحكومين بل وكفر المعتقلين الذين لا يعلنون كفر الحاكم. وعندما أخرجوا من الزنازين الخاصة إلى المهاجع العامة أقاموا صلواتهم وحدهم، وبدأ صراع فكري بين المعتقلين وخاصة الفقهاء منهم وكانت نتيجة الصراع أن وضع المعتدلون وهم الخط العام بين المساجين مذكرة في الكفر والإيمان صدرت فيما بعد في كتاب (دعاة لا قضاة) وهي تمثل خط الاعتدال في مواجهة خط التطرف.
إنّ بداية ظهور الفكر المتطرف كانت ردود فعل لما لقيه البعض من الاضطهاد في ظروف تاريخية معينة ولم يكن لهذا الفكر منهج لدى رواده الأوائل وهم جميعا من الشباب وأكثرهم طلاب جامعات ومدارس ثانوية، ولهذا بدأ الخلاف يدب بينهم وبين غيرهم ممن اعتبرتهم السلطة أعداء لها واعتبرهم هؤلاء الشباب كفارا لأنهم لا يعلنون كفر الحكام، وكانت حصيلة هذا الصراع الفكري أن تطور الفكر المتطرف وأصبح له فرق متعددة أظهرها فرقتان: عُرفت الأولى باسم (جماعة المسلمين) وعُرفت الثانية باسم (الجماعة الحركية) وإن كانوا لا يُعلنون هذه الأسماء. والجماعة الأولى أطلق عليها اسم (جماعة التكفير والهجرة) وتميزت بالوضوح والعلانية في تكفير الحاكم وجميع المحكومين إلا من انضم إليهم، وأما الجماعة الثانية فكانت تؤمن بهذا الفهم في الباطن ولكنها لا تظهر تكفيرها للمحكومين وتعلن كفر الحاكم فقط، وهؤلاء يرون أن هذا الأسلوب ضرورة حركية اقتضتها مصلحة جماعتهم، وهم يعللون هذا الأسلوب بأنهم في مرحلة استضعاف كالمرحلة المكية التي سبقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي السبعينات من القرن الماضي تحول التكفير وهو استئصال فكري للآخر إلى الجهاد القتالي وهو استئصال مادي للآخر، وهذا أمر طبيعي لأن القتال (الاستئصال المادي) يولد في رحم التكفير (الاستئصال الفكري). ولكن المشكلة في قتال التكفيريين أنه على مذهب الخوارج وليس على مذهب أهل السنة، فالقرآن وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم سمح بقتال المقاتلين من الأعداء ولم يسمح بقتال غير المقاتلين سواء كانوا رجالا أم نساء أم كهولا أم أطفالا، وعندما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في قلب المعركة قال: ((من قتل هذه؟ ما كان لهذه أن تقاتل!))، أما المتطرفون فإنهم يقتلون الآخر دون تمييز بين مقاتل وغير مقاتل.
أسباب التطرف:
(1) الاستبداد والقمع: لعل أهم الأسباب التي تدفع الناس وخاصة الشباب منهم إلى التطرف هو شيوع الاستبداد والقمع بدل الطمأنينة والسكينة والحوار والإقناع، والاستبداد حينما يكون شائعا في المجتمع فإنه يشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة، ومع أنه يبدأ في الدولة إلا أنه سرعان ما يشمل باقي المؤسسات في المجتمع لأن الدولة هي قمة الهرم وباقي المؤسسات تقع في قاعدة الهرم، ويكون رد الفعل على الاستبداد هو التمرد العنيف خاصة من طرف الشباب تجاه السلطة، التي تستخدم القمع سواء كانت سلطة الدولة أم سلطة المجتمع أم سلطة الأسرة أم سلطة المدرسة، ومن هنا يكون الاستبداد والقمع سببا في شيوع التطرف والعنف وليس علاجا له .
فالحركات المتطرفة والعنيفة لا تنتشر إلا في ظل الأنظمة الاستبدادية، وعندما ينشأ التطرف في المجتمع تسارع الأنظمة إلى علاجه بمزيد من القمع والاستبداد، والمزيد من القمع والاستبداد يسبب مزيدا من التطرف والعنف، وهكذا يدخل المجتمع في دورة معيبة من العنف والعنف المضاد بحيث يصعب التفريق بين السبب والنتيجة ويصبح السبب نتيجة والنتيجة سببا.
ومن الخطأ التعامل مع التطرف على أنه حالة استثنائية بحاجة إلى علاج استثنائي لأن هذا التعامل يجعل المجتمع يذهب بعيدا في دورة العنف والعنف المضاد والفعل ورد الفعل. ولعلاج حالة التطرف هنا يجب اللجوء إلى القانون، القانون العادل ثم السائد على كل الناس بحيث يحفظ للإنسان حقوقه وللمواطن حرياته، ولا أظن أن هناك من سيلجأ إلى التطرف والعنف وهو يملك حق الرأي والاجتماع والحوار والإقناع ودعوة الناس إلى ما يراه صوابا ثم الاحتكام إلى قاعدة الأغلبية وصناديق الاقتراع مع بقاء الحوار والإقناع قائما بعد صناديق الاقتراع.
ومثل هذا العنف من جانب السلطة قد أدى قديما إلى عنف الخوارج في ظل العهود السابقة وكان من الممكن أن يختلف الأمر لو طال العهد بعلي بن أبي طالب وعدله وحكمته في التعامل مع تلك الحالة الطارئة حيث فرّق بشكل واضح بين حرية الرأي والمعتقد والتي لا عقوبة عليها وبين الحرابة على المجتمع والتي لابد من علاجها ولكن بحكمة ودقة ومقدار.
(2) التغريب والتفريط: بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ظهر ما يمكن تسميته بالتغريب في المجتمعات الإسلامية وذلك من خلال تبني الحركات الوطنية للنموذج الغربي في حياتها وهو نموذج علماني قائم على الفصل بين الدين والدولة وبين الدين والمجتمع وبين الدين والحياة الدنيا على أعم الصور.
فهذا التيار الوطني أصبح يعيش في المجتمعات الإسلامية ولكن نموذجه الأمثل يعيش هناك في المجتمعات الغربية.ثم ألغيت الخلافة الإسلامية ليحل محلها نماذج غربية من الحكم في البلاد الإسلامية، وهذه النماذج قامت على أساس من التجزئة (سايكس بيكو) وهو نمط آخر من التغريب في المجتمعات الإسلامية. ونتيجة الاستقلال كانت أن استلم زمام الأمور ووصل إلى السلطة أحزاب من الحركة الوطنية وهم من المستغربين في مجتمعاتنا الشرقية فراحوا يحكمون البلاد وهم يسيرون باتجاه النمط الغربي. وفي ظل هذه الأجواء نشأت الحركة الإسلامية في البلاد الإسلامية كرد فعل على حركة التغريب في العالم الإسلامي بما يتضمنه هذا التغريب من إلغاء للخلافة وتجزئة للعالم الإسلامي وفصل للدين عن الدولة والمجتمع والحياة.
ظهرت الحركة الإسلامية مع هيمنة التغريب وانقسمت إلى: معتدلين ومتطرفين كردود فعل متباينة على التغريب، وكلما أوغل القائمون على الأمور في التغريب كلما ازداد تحول الإسلاميين من الاعتدال إلى التطرف على مبدأ الفعل ورد الفعل. والتطرف سيبقى ما بقي التغريب وما لم يتجه القائمون على الأمور إلى النموذج التاريخي الإسلامي المشرق والنير فإن المشكلة لن تحل.
وقد آن الأوان أن يدرك كل الناس في العالم الإسلامي أن نموذجنا في تاريخنا وأنه لا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما انصلح به أولها، فلا مندوحة لنا من التقدم إلى أصولنا الإسلامية في الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والحضارة الإسلامية، أقول: التقدم إلى الإسلام وليس الرجوع إلى الإسلام لأن الإسلام دين المستقبل وهو كجوهر وقيم ومفاهيم إيجابية أمامنا وليس خلفنا.
(3) الجهل والفهم الخاطئ: ومع أن للتطرف الفكري والسلوكي أسباب متعددة إلا أنه في مقدمتها: الفهم الخاطئ للدين ومبادئه وأحكامه، وكذلك الجهل بمقاصد الشريعة ومصالح الناس والظروف التي تهيئ وتعين على إقامته، فهناك إحباط عند الشباب لغياب نموذج المثل العليا التي يؤمنون بها في سلوك المجتمع وسياسة الحكم،وهناك خطأ في إدراك حقيقة المثل العليا وطبيعة المجتمعات الإنسانية وسنن التغيير في المجتمعات وأسلوب السعي لإصلاحها، وهناك خطأ في تبسيط الأمور وتعميمها بحيث لا يكون هناك إلا أبيض وأسود، ويغلب التفاؤل أو التشاؤم من غير أساس ولا حساب، فيكون اليأس من إصلاح الوضع القائم، وبالتالي يسود الوهم بإمكان التغيير بالعنف من النقيض إلى النقيض بمجرد إزاحة شخص أو حكم جزئي وإحلال شخص آخر أو حكم جزئي آخر.
وإذا كان الاستبداد طريقة سهلة في الحكم مقارنة بالديمقراطية، فإن التطرف والعنف طريقة سهلة في التغيير بالمقارنة مع الاعتدال والسلمية، ولكن في كلتا الحالتين لا نحصد إلا الدمار والتخريب. وكثيرا ما يستغل أصحاب العقائد المختلفة هذا الضعف الفكري النفسي (الجهل والفهم الخاطئ) فيعملون على استهواء الراغبين في التغيير العنيف بإسراف في التبسيط والتعميم وتأكيد للتشاؤم من أي إصلاح بطريق آخر غير العنف، وهكذا يُقاد الشباب إلى مصارعهم.
(4) أسباب مختلفة: وهناك عوامل مختلفة قد يكون لها دور في نشأة التطرف واستمراره ولكن بدرجة أقل أهمية من الأسباب السابقة.
منها العامل الاقتصادي، فالفقر سبب صالح لتفجير الحركات العنيفة والاحتجاجات المتطرفة خاصة وأن غالبية المتطرفين هم من بيئات فقيرة وربما معدمة، والإنسان يلجأ إلى التطرف والعنف عندما لا يجد ما يخسره كما يقول أحد ثوار أمريكا اللاتينية: (إذا لم يكن الوطن لكل أحد فليكن للا أحد).
ومنها العامل النفسي، فبعض الناس يمتلكون بنية نفسية مؤهبة للتطرف والعنف، وبعض هذه البنى النفسية يوجد مع الإنسان منذ ولادته وبعضها يكتسب من البيئة والمناخ الذي يعيش فيه الإنسان.
ومنها عامل الهزائم والنكسات المتتالية التي أصيبت بها الأمة المسلمة عامة والعربية خاصة وعلى رأس هذه الهزائم النكبة عام 1948م والنكسة عام 1967م ثم فشل النماذج الليبرالية والنماذج الاشتراكية والنماذج القومية في العالم الإسلامي، والهزائم تولّد في النفس الإحباط واليأس والسعي إلى الانتقام.
في علاجات التطرف:
مما لاشك فيه أن التطرف كنتيجة له أسبابه وأن العلاج يكمن في إزالة الأسباب، فإذا أزيلت الأسباب زالت النتائج، وإزالة أسباب التطرف يحتاج إلى وقت ويحتاج إلى تعاون للقضاء على المناخ الذي ينمو فيه التطرف وإيجاد المناخ الذي ينمو فيه الاعتدال.
(1) وأول مداخل العلاج هو التشخيص الدقيق للظاهرة في ضوء الظروف والملابسات المحلية والعالمية التي تساهم في نشأة وتشكيل فكر وسلوك الجماعات المتطرفة، والتشخيص والتحليل يجب أن يكون سياسيا بالدرجة الأولى وليس أمنيا، لأن التطرف قضية سياسية بامتياز ولها انعكاساتها الأمنية.
(2) والمدخل الثاني في العلاج هو تهيئة مناخ الحريات وكفالة الحقوق والحريات الأصيلة في إبداء الرأي والاجتماع وتكوين التجمعات بموجب القوانين مع الحرص على حقوق العدالة والمساواة بين الناس.
(3) والمدخل الثالث في العلاج هو الحوار والإقناع والتسليم بحق النقد ووجوب النقد الذاتي مع انتفاء العصمة عن الناس حاكمين ومحكومين والإقرار بالسلبيات في سائر المجالات كالأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة.
(4) والمدخل الرابع في العلاج يتصل بتصحيح الفكر وتقويم السلوك خاصة في فهم الإسلام، والعلماء والمثقفون مطالبون بتوضيح مواضع الخلل والانحراف سواء في الجماعات أم في الأنظمة أم في مؤسسات المجتمع. وعلى المدى البعيد يجب إعادة النظر في النظام التعليمي كله وخاصة في نظام التعليم الديني، فلا بد من تحديد الهدف من التعليم الديني باعتبار الإسلام دين الحق والعدل والرحمة والمساواة والوسطية والاعتدال وباعتبار الإسلام يحقق مصالح العباد ويحافظ على النفس والعقل والعرض والمال وهذه مقاصده.
(5) والمدخل الخامس في العلاج هو عدم الاكتفاء ببيان أحكام الإسلام بل لابد من التساؤل عن كيفية تحقيق هذه الأحكام بحيث تؤتي ثمارها ولا تكون مدخلا لقمع الآخر والدخول في دورة العنف والعنف المضاد. وهنا لابد من تسليط الضوء ودراسة أحكام الجهاد في الإسلام لاستجلاء حقيقته الموضوعية وظروفه التاريخية والعودة به إلى الجهاد السلمي القائم على الحوار والمحبة واحترام الآخرين حتى لا يندفع المسلم في العدوان على الآخرين بسبب من الجهل بأحكام الدين أو بسبب من التأويل الخاطئ لهذه الأحكام.
(6) والمدخل السادس في العلاج هو السعي لتحقيق العدالة للاجتماعية والاقتصادية ، فغياب هذه العدالة يخلق السخط والإحباط وهما المناخ المناسب لنمو ظاهرة التطرف، فالفقر والفساد وسوء توزيع الثروات والبطالة يجب أن تحارب ويُقضى عليها كي لا تكون الوسط الملائم لنمو العنف والتطرف.
(7) والمدخل السابع في العلاج هو المجال السياسي، فالتربية السياسية القائمة على احترام الحقوق والحريات وقبول الرأي الآخر واتساع العقل والصدر للمعارضة، هذه التربية تذيب ما يلجأ إليه المتطرفون من العزلة والانفصال والحرب الباردة ضد المجتمع بفئاته وأحزابه، والتي لا تلبث أن تتحول إلى حرب ساخنة مدمرة. إن المجتمع السياسي الذي تتعايش فيه الأفكار المختلفة وتعبر فيه المعارضة عن آرائها فوق المنابر، لا يمنح للمتطرفين فرصة الاختلاء بأنفسهم واعتزال الحياة. فالمواطن الذي ينشأ في جو الحوار منذ طفولته لن يلجأ إلى السلاح، والمواطن الذي يجد له نصيبا ودورا ومكانا في صناعة القرار في بلاده لن يلجأ إلى التطرف والعنف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.