لم تكن المفاجأة وقفا علي النطق بالحكم التاريخي الذي قضي بإعدام14 عضوا من جماعة التوحيد والجهاد يوم الاثنين الماضي, ولكنها تخطت ذلك إلي ما ردده أعضاء الجماعة خلف القضبان من عبارات وهتافات وآيات قرآنية تتهم القاضي والدولة بأجهزتها المختلفة بالكفر والخروج من الملة والحكم بغير ما أنزل الله. هناك من يتساءل: لماذا أطل الفكر التكفيري والجهادي برأسه من جديد؟ وما حقيقة فهم اعضاء الجماعة للآيات الحاكمية في القرآن الكريم ؟ وكيف يمكن تصحيح تلك المفاهيم الخاطئة والمغلوطة عن الإسلام والتفاسير القرآنية لدي التكفيريين ؟وإذا كانت وقائع جلسة المحاكمة كشفت عن أزمة فكرية وعقلية أفرزت تلك العناصر الجهادية التي تتبني فكر التكفير, وأن عوامل عدة ساهمت في ذلك الفكر, فان التساؤل الأكثر أهمية هو كيف يمكن مواجهة هذا الفكر. وكيف يمكن للأزهر الشريف والهيئات والجماعات والتيارات الدينية التي ظهرت علي الساحة, العمل جميعا لنشر الوسطية ومحاربة الغلو والتطرف ومواجهة هذا الفكر الذي يكفر ويقتل ويروع الآمنين ؟! يرجع الدكتور القصبي زلط عضو هيئة كبار العلماء, تسلل فكر العنف والقتل إلي الجماعات التكفيرية إلي فهمهم القاصر لبعض النصوص القرآنية مثل قوله تعالي ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون, ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون, ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.. حيث تبنت تلك الجماعات رأي من قال بالتكفير, فقالوا بتكفير الحكومات المعاصرة, حيث إنها لم تحكم بما أنزل الله وأنها استبدلت بشريعته المنزلة من الخالق القوانين التي وضعها المخلوق, وبهذا وجب الحكم عليها بالكفر والردة, والخروج من الملة, ووجب قتالها, والخروج المسلح عليها; حتي تدع السلطة لغيرها, إذ كفرت في نظرهم كفرا بواحا. وأوضح القصبي أن الآيات الثلاث نزلت في أهل الكتاب, حيث نزلت الآية الأولي والثانية في اليهود, ونزلت الثالثة في النصاري, وإن كان ذلك لا يجعلها مقصورة عليهم, لأنها جاءت بألفاظ عامة تشملهم وتشمل كل من شاركهم في الوصف المذكور. ولفت إلي أن الآية الكريمة التي تقول ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ليست في حق كل من حكم حكما غير إسلامي في قضية ما. حيث إن علماء السلف والمفسرين والعلماء من بعدهم يرفضون تكفير الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله, إذا لم يكن ذلك ناشئا عن استقباح لحكم الله, أو إنكار وجحود له, أو استحلال للحكم بغير ما أنزل الله, واعتقاد أنه أفضل مما أنزل الله, أو غير ذلك من الصور التي تدل علي الكفر, وقد اتفقت كلمتهم علي هذا. وعلي ذلك, فليس كل من لم يحكم بما أنزل الله يعتبر كافرا, فقد يكون متأولا, وقد يكون جاهلا بحكم الله في قضية بعينها, وقد يكون مدفوعا بشهوة معينة, كالقاضي المرتشي الذي يخالف حكم الله في القضية المعروضة به بتأثير الرشوة وهو عالم بما يفعل, فيكون عاصيا فاسقا ولا يكفر. الأمر نفسه أكده الدكتور محمد المختار المهدي عضو هيئة كبار العلماء, الرئيس العام للجمعية الشرعية, وأشار إلي أن نواقض الإسلام التي تخرج الإنسان من الملة, أن يجحد أو ينكر ما علم من الدين بالضرورة.كأن ينكر أو يكذب شيئا ثابتا في كتاب الله او سنة رسوله صلي الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الإنكار..ومن هنا جاءت الآيات في سورة المائدة تتحدث عن التوراة التي جاء فيها حكم الله تعالي في الرجم وأنكروه, فجاءت الآية بعدها مباشرة تقول ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..لأنهم حرفوا الحكم الإلهي في التوراة بعد أن كان الرجم, فغيروه وبدلوه وحذفوه وجعلوا بدله التحميم والتجريس, إذن هم غيروا وبدلوا في حكم ثابت, فحكم الله عز وجل عليهم بالكفر. أما تكفير الحكام, فالحاكم إذا قال إن شرع الله تعالي لا يصلح أن يكون حكما بيننا أو أن هذا الشرع كان في عهد نبينا محمد صلي الله عليه وسلم, ثم انتهي هذا العصر وأصبح القرآن الكريم غير صالح للحكم بين الناس أو لهداية الناس هنا فقط نحكم عليه بالكفر, أما إذا لم يعمل بما في كتاب الله تعالي وبسنة رسوله صلي الله عليه وسلم مع اعترافه بأنهما أفضل من كل نظام أو تشريع فهذه معصية, ولا يستطيع أحد, كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة, أن يكفر إنسانا فعل معصية, ومن ثم فلا نستطيع أبدا أن نحكم علي شخص معين بأنه كافر ولا علي من لا يطبق أحكام الله تعالي, إلا إذا أبدي وصرح بأن كتاب الله لا يصلح. التفقه في الدين ولإصلاح ذلك الخلل الفكري, يشدد د. المهدي علي ضرورة التفقه في الدين, كما حثنا علي ذلك النبي صلي الله عليه وسلم في قوله: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين, مشيرا إلي أن بعض الشباب هذه الأيام حين يقرأ كتابا في اتجاه معين أو مذهب معين وهو غير مطلع علي غيره من الكتب, فإنه يظن أن ذلك هو الدين, وأن غيره خروج علي الدين وهذا هو التعصب المذهبي المقيت الذي يفرق الأمة والذي يحقق لأعدائنا ما يريدونك منا, والقرآن الكريم يقول لنا:فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وأضاف أنه يجب علي شبابنا إذا أراد أن يتفقه في دينه أن يتدبر كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم في كل المراجع الإسلامية التي تمكنه أن يطلع عليها, لا في اتجاه معين, فمثلا حينما يقرأ بعض الشباب في بعض الكتب أن تارك الصلاة, سواء كان كسلا أو جحودا فهو كافر خارج من الملة وعليه أن يعتزل زوجته ولا يرث من أحد ولا أحد يرث منه, لأنه خرج من دين الله تعالي.. فإذا سألته هل هناك فرق بين الكسل والجحود؟ قال: لا, لأن الحديث العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر, وهو لا يدري من دين الله عز وجل أن هذا الرأي ليس هو المعتمد عند جمهور العلماء, وأن هناك فرقا بين من يجحد ومن ينكر فرضية الصلاة وبين من يتكاسل عنها. وحذر المهدي الشباب المسلم من الانجراف وراء تلك الأفكار أو تلقيها من غير مصادر دينية معتمدة مؤهلة للعلم الشرعي الصحيح, لافتا إلي أن حاخامات اليهود عندما بحثوا عن طريقة لتفكيك وحدة المسلمين دون أن يظهروا في الصورة, اتفقوا علي تكوين لجان لبحث ما في كتب تراث المسلمين من خلافات وآراء غريبة غير مجمع عليها, وتصديرها للأمة الإسلامية فيتمسك بعضهم برأي والآخر برأي مخالف فيحصل بينهم الصدام والصراع كما هو حادث الآن, بالإضافة إلي الغلو والتطرف, وهذه مشكلة كبري يجب التصدي لها بكل حسم. خطورة التكفير ويحذر الدكتور القصبي زلط من خطورة انتشار فكر التكفير قائلا: إن اتهام مسلم بالكفر أي بالردة عن الإسلام أمر في غاية الخطر, لأنه تترتب عليه آثار خطيرة, لنفس الشخص المتهم, ولزوجه وأولاده, لأن المرتد محكوم عليه بالإعدام الأدبي من جهة المجتمع, فهو محروم من معاونة هذا المجتمع ونصرته, إذ لم يعد عضوا فيه, يفرح بفرحه, ويألم بألمه, بل هو يعيش فيه بجسده, ولكنه باعتقاده وفكره منتم إلي مجتمع آخر, موال له, منتصر له, في حين هو معاد لمجتمعه الأصلي, لايتورع عن العنف والفساد والقتل بين بني وطنه, استنادا لهذه المفاهيم المغلوطة. لذا ينبغي التدقيق كل التدقيق فيمن يحكم عليه بالكفر, ومن يصدر عنه هذا الحكم, والقاعدة في ذلك: أن من شهد( أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله) فقد دخل في الإسلام يقينا, إذ لا طقوس في الإسلام, إنما هي الشهادة, وحينما قتل أسامة بن زيد رجلا في المعركة قال( لا إله إلا الله), أنكر عليه النبي غاية الإنكار, وقال له: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله ؟! قال: إنما قالها تعوذا من السيف! قال: هلا شققت عن قلبه؟!. ومن دخل في الإسلام بيقين, لا يخرج منه إلا بيقين مثله, إذ القاعدة المتفق عليها: أن اليقين لا يزال بالشك.فمن اتهم بالكفر بأمر يحتمل التأويل, بقي علي أصل الإسلام, بل لو قال قولا, أو عمل عملا له وجوه أكثرها يحتمل الكفر, ووجه واحد منها يحتمل الإسلام, رجح هذا الوجه, تحسينا للظن بالمسلم, وحملا لحاله علي الصلاح. أدعياء العلم ويري الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي وزير الأوقاف السابق, عضو هيئة كبار علماء الأزهر, أن مبحث الأزمة التي نعيشها الآن هو ادعاء البعض الذين يخرجون علينا في الفضائيات ووسائل الإعلام العلم والتفقه دون الاجتهاد في مطلبه وكل ما يفعلونه استمطار دموع الناس, ظانين أن الدعوة إلي الله مجرد صوت يزعق علي المنابر وحنجرة قوية, في حين أن الله تعالي يقول: وما كان المؤمنون لينفروا كافه فلولا نفر من كل فرقه منهم طائفه ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون. ولفت القوصي ان الدعوة الي الله تأتي بالتأسيس علي العلم والتفقه في الدين, والاجتهاد والمثابرة والدأب في تحصيل العلوم الشرعية والفقهية وعلوم اللغة. وأشار إلي انه كان قديما يطلق علي طالب العلم في الأزهر ب المجاور لملازمته وجواره لمشايخ الأزهر الشريف, للانتهال من علومهم السليمة الخالية من الشوائب والأغراض والأهواء تاركا أهله وجاره وصحبته وبيته ووطنه, فذلك هو ما يحتاجه الأزهر اليوم من صبر ومثابرة واجتهاد وإخلاص في نية طلب العلم وتطبيق الشريعة بمقتضي القرآن والسنة متحلية بوسطية ومباركة الأزهر الشريف. مواجهة فكرية الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة يحمل المؤسسات الدينية الرسمية المسئولية الأولي في وجود الفكر التكفيري في مصر بلد الأزهر, وقال إن ذلك نتاج طبيعي لتراجع دور الأزهر وتقصيره في القيام برسالته العلمية والدعوية وضعف مستوي الخريجين والدعاة الذين تفرزهم جامعته, وسطحية الخطاب الديني البعيد عن واقع الناس ومشكلاتهم والمفاهيم المغلوطة التي انتشرت بين الشباب وعموم الناس, فضلا عن غياب الثقة بين المؤسسات الدينية الرسمية( الأزهر, والأوقاف, والإفتاء) نتيجة استشعار البعض بتسييسها وتوجيهها لخدمة النظام خلال عقود طويلة مضت. وأضاف الدسوقي أن هذا التراجع الملحوظ أفسح المجال لدعاة وعلماء هواة غير مؤهلين من خارج الأزهر يحملون أفكارا لا تعرف الوسطية والاعتدال, وترسخت لديهم ولدي متبوعيهم فتاوي وآراء غريبة وشاذة ظنوا خطأ أنها هي عين الصواب وأن ما دونها باطل, فأصبحوا غلاة متطرفين سرعان ما يكفرون ويبدعون ويفسقون من غير علم, وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. والحقيقة أنهم يسيئون للإسلام أكثر من خصومه! ولعل الناظر للمتهمين بالاعتداء علي قسم شرطة العريش وبنك الإسكندرية أثناء صدور الحكم بإعدامهم يدرك أن أزمتهم ليست في ضمائرهم, فربما نجد أكثرهم مخلصين متعبدين لربهم, ولكنهم كانوا أقرب في أفعالهم إلي الخوارج الذين يأخذون بظاهر النصوص في التكفير. وطالب الدكتور محمد الدسوقي بعودة دور الأزهر العلمي والدعوي, والعمل علي احتضان جميع التيارات الدينية الموجودة علي الساحة الآن وأن تعمل كلها تحت لوائه, كما طالب بحصر الفتاوي والشبهات التي ينفذ من خلالها الفكر المتشدد للشباب وتصحيحها وإبراز ذلك في وسائل الإعلام المختلفة, وتدريسها في المراحل التعليمية المختلفة كل بما يناسبها, ضمن مقررات التربية الإسلامية, حتي يعيها الشباب ويحذر الوقوع في براثنها.