وضحت فيما سبق نماذج من أطروحات فكرية عقائدية لبعض التيارات الدينية المعاصرة، وذكرت أنه من السفه الفكري أن نعالج مسائل شكلية يظنها كثير من الكتاب من التطرف والغلو فصرفوا جهودهم وأوقاتهم فيما لا طائل من ورائه بل علي العكس اكتسبت التيارات المتطرفة مساحات شعبية أثناء مناقشة هذه الفروع كإطلاق اللحية وقصر الثوب والسواك.. إلخ وفي الوقت نفسه لم يتعرض الكتاب بل ولا العلماء لأصول مناهج هذه الجماعات الدينية الحزبية. وفي هذا المقال أبين أصلا فكريا عند هؤلاء المتطرفين ألا وهو قضية الحاكمية، والمقصود بهذا الاصطلاح تحكيم الشريعة الإسلامية في واقع حياتنا اليومية، فماذا عن هذه القضية بين الإفراط والتفريط؟ الملاحظ علي الغالبية العظمي من الجماعات الدينية الحزبية وربما شاركهم بعض دعاة المؤسسات الشرعية الرسمية الغلو في قضية الحاكمية وفي المقابل تفريط من غالب المثقفين وربما بعض الهيئات التشريعية الرسمية ودائما الحق بين هذين الطرفين وعلي هذا الحق أقول ما يلي: لقد اتخذت الجماعات الدينية الحزبية من قضية الحاكمية واعتقادهم أنها غائبة عن الواقع ورتبوا علي ذلك أحكاما تتعلق بكفر النظام الحاكم وأعضائه وتلاعبوا بالنصوص والأدلة ليرسخوا هذا المعني في نفوس أتباعهم إما تصريحا وتقعيدا وإما تلميحا أو ملازمة لما يطرحونه من كلام لتكون النتيجة في النهاية هي تكفير الدولة وبالتالي يتطلب الأمر هنا إعدادًا فكريا ثم إعدادًا بدنيا ثم إعدادًا عسكريا وسياسيا حتي نصل في النهاية إلي سفك الدماء علي نحو ما شهد له الواقع منذ بزوغ هذا الفكر في العصر الحديث مع بداية تشكيلات حسن البنا ثم المودودي في باكستان ثم سيد قطب فهؤلاء الثلاثة هم أساس إحياء فكر التكفير والخروج المسلح علي الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين وإلي وقتنا هذا وكل من جاء بعد هؤلاء ما هم إلا عيال علي هذه المدرسة الفكرية التي أحيت فكر الخوارج من جديد، فكيف نرد علي هذه الأطروحات الفكرية وبنفس منطق الشرع ومنطق السلف وليس بمنطق العلمانيين أو الليبراليين وهذا هو موضوع المقال، قال تعالي: إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (المائدة آية: 44، 45).. وقال تعالي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (المائدة آية: 47). أولاً: زعم هذه الجماعات بأن الحاكمية التشريعية غائبة في مصر زعم باطل غير صحيح، حيث ينص الدستور علي أن الدين الرسمي لمصر هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فهذا إقرار بوجوب الحاكمية لمن يريد أن يستمد مشروعيته لحكم مصر ومجرد مناقشة إلغاء هذين النصين من الدستور عبث فكري ولعب بمصائر البلاد ولعب بالنار ورغبة لمزيد فتن في المجتمع وللأسف هذا حديث كثير من العلمانيين وغيرهم وعلي الدولة أن تمنع هذا العبث الفكري منعًا للفتن وازديادها. ثانيا: والزعم بأن الشريعة الإسلامية مطبقة بتمامها زعم لا يصح كما أن زعم عدم وجودها علي أرض الواقع زعم لا يصح وإنما الصحيح أن أصل الشريعة قائم في مصر وكذلك التشريعات باستثناء بعض الجوانب التشريعية والمتعلقة بالحدود وبعض المعاملات الربوية ومع هذا التقصير لا يوجب ذلك التكفير، علمًا بأن هذا التقصير مرده إلي ظروف وأحوال وموانع قد تمنع من تطبيق بعض التشريعات لأنه من المقرر شرعا كما أسلفت سابقا أن أمر الحدود موكول إلي الحاكم، فإذا عجز الحاكم عن التطبيق فالموقف الشرعي السديد والحال ما ذكر هو التناصح والتفاهم بالرفق واللين بين العلماء وبين ولاة الأمر هذا التناصح لا يرتبط بوقت معين وإنما هو ممتد حتي تتحقق المقاصد الشرعية والمصالح المعيشية لأنه قد يكون لدي السلطان من الموانع المعتبرة التي يعذر فيها بعدم تطبيق بعض التشريعات. ثالثًا: ماذا قال أئمة السلف في الآيات المتعلقة بالحاكمية والتي ذكرتها سابقا من سورة المائدة: 1- جاء في تفسيرا بن جرير الطبري وهو شيخ المفسرين ومعروف قدره عند كل التيارات الدينية التي تنادي بالسلفية أو السنية حيث ذكر في الجزء الرابع ص349 وما بعدها من طبعة دار الفكر: يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: ومن لم يحكم.... وأولي هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في كفار أهل الكتاب لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها وهذه آيات سياق الخبر عنهم فكونها خبرا عنهم أولي فإن قال قائل فإن الله تعالي ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله فكيف جعلته خاصًا؟ قيل: إن الله تعالي عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم علي سبيل ما تركوه كافرون وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر كما قال ابن عباس لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.أ.ه. 2- تفسير القرطبي ص190 ج6 يقول: نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وقد تقدم وعلي هذا المعظم.. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردًّا للقرآن وجحدًا لقول الرسول صلي الله عليه وسلم فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد والآية عامة علي هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدًا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلي الله تعالي إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في الآية والصحيح الأول. فالمختار من هذه التفاسير عند القرطبي أن الآيات نزلت في الكفار وأما المسلم إن فعله مرتكب لكبيرة وليس بكافر. قال طاووس وغيره (إمام من أئمة التابعين) ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر وهذا يختلف إن حكم بما عنده علي أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر وإن حكم به هوي ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة علي أصل أهل السنة في الغفران للمذنين. أ.ه. راجع تفسير القرطبي ص191 ج6 3- تفسير ابن كثير ج2 ص60 حيث ذكر في تفسير نفس الآيات ما ذكره ابن جرير وكذلك قال الشوكاني في تفسيره لآيات المائدة ج2 ص42:45 وعلي ضوء ما ذكر عن السلف في تفسير آيات المائدة يبطل احتجاج هذه الجماعات بكفر الأنظمة الحاكمة وحكام المسلمين، حيث تبين لنا أن المعني السلفي السني لقوله تعالي: (ومن لم يحكم بما أنزل الله...) إنما هو كفر أصغر وليس كفرًا يخرج من الملة وبالتالي تبقي ولاية الحكام المسلمين قائمة في أعناق الشعوب ولا يسقطها إلا ضال مضل يجب الضرب علي يديه، وهذا علي فرض عدم وجود أي موانع أو أعذار للتطبيق كيف والحال معلوم لدينا داخليا وعالميا مما يستلزم التأني والمصابرة والمناصحة والتسديد والتقريب وعدم شق عصا الجماعة في مصر والتزام بيعة الحاكم الممكن والمتغلب وذلك منعا للشتات والافتراق والتدابر والتقاتل وسفك الدماء. وللحديث بقية.