استقبال رسمي مهيب، لحظة وصول شيخ الأزهر إلى قصر الرئاسة الإيطالي في روما (فيديو)    هزة في "أسطول الظل"، ثاني أكبر شركة للنفط الروسي تعلن بيع أصولها بعد العقوبات الأمريكية    عماد النحاس يحقق فوزه الأول مع الزوراء العراقي    قرار مُهم بشأن المتهم بدهس طفل بسيارته على طريق مصر أسيوط الزراعي    رئيس الوزراء: توجيهات رئاسية لضمان افتتاح يليق بمكانة مصر العالمية    أمريكا تُجلي نحو ألف شخص من قاعدتها في جوانتانامو بسبب اقتراب «ميليسا»    أردوغان يدعو إلى "سلام عادل" لإنهاء الحرب في أوكرانيا    المتحف المصري الكبير يحصد 8 شهادات ISO دولية تأكيدًا لالتزامه بمعايير الجودة والاستدامة العالمية    يختبر أعصاب المشترين..أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 28-10-2025 في بني سويف    موسكو تفند اتهام واشنطن لها بنيتها البدء بسباق تسلح نووي    سعر الخوخ والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025    انهيار عدد من المباني جراء زلزال باليكسير التركية ولا أنباء عن ضحايا    في طريقه إلى «الطب الشرعي».. وصول جثة أسير جديد ل إسرائيل (تفاصيل)    #عبدالله_محمد_مرسي يتفاعل بذكرى مولده .. وحسابات تستحضر غموض وفاته ..فتش عن السيسي    «لاماسيا مغربية» تُبهر العالم.. وإشراقة تضيء إفريقيا والعرب    الزناتي يشارك في احتفالية اليوبيل الماسي للهيئة القبطية الإنجيلية    والد ضحايا جريمة الهرم يفجر مفاجأة: بنتي مازالت عذراء    رئيس محكمة النقض يزور الأكاديمية الوطنية للتدريب    «زي النهارده».. وفاة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين 28 أكتوبر 1973    حالق زلبطة.. أحمد الفيشاوى يتعاقد على فيلم حين يكتب الحب مع جميلة عوض    لتعزيز الانتماء.. وكيل نقابة المرشدين السياحيين يطالب الحكومة بزيادة إجازة احتفال المتحف الكبير ل 3 أيام    تصل إلى الحرائق.. 6 أخطاء شائعة في استخدام الميكرويف تؤدي إلى كوارث    دراسة| تأخير الساعة يرفع معدلات الاكتئاب بنسبة 11%    إصابة واحدة من كل خمس، دراسة تكشف علاقة التهاب المسالك البولية بنظافة المطبخ    شبانة عن أزمة دونجا: كل يوم مشكلة جديدة في الكرة المصرية    مفاجأة.. الزمالك يفكر في إقالة فيريرا قبل السوبر وتعيين هذا المدرب    عضو المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني يطمئن على الدباغ وكايد    ماذا يحدث في الفاشر؟    خيبة أمل من شخص مقرب.. حظ برج العقرب اليوم 28 أكتوبر    الحاجة نبيلة بلبل الشرقية: البامية شوكتني وش السعد ولسة بشتغل في الغيط    رياضة ½ الليل| الخطيب يعترف بالعجز.. موقف انسحاب الزمالك.. ثقة تخوف بيبو.. وصدمة قوية للملكي    الأرصاد تحذر من شبورة كثيفة وتقلبات مفاجئة.. تفاصيل طقس الثلاثاء 28 أكتوبر في جميع المحافظات    الداخلية تكشف حقيقة ادعاء محاولة اختطاف فتاة في أكتوبر    سعر الدولار الآن مقابل الجنيه والعملات الأخرى ببداية تعاملات الثلاثاء 28 أكتوبر 2025    محافظ قنا يشهد تخريج مدارس المزارعين الحقلية ضمن مشروع تحديث الري    تقرير أمريكى: تقييم «الخارجية» لمقتل شيرين أبو عاقلة مشوب ب«الالتباس»    من حقك تعرف.. ما هى إجراءات حصول المُطلقة على «نفقة أولادها»؟    تأييد المشدد 7 سنوات لمتهم بتزوير عقد سيارة وبيعها    عودة الحركة المرورية على طريق بنها شبرا الحر بعد حادث التصادم    أمن القليوبية يكثف جهوده لضبط المتهم بسرقة مشغولات ذهبية من عيادة طبيب أسنان    وزير الاتصالات يختتم زيارته لفيتنام بلقاءات استراتيجية| تفاصيل    32.7 مليار جنيه إجمالى قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة اليوم الإثنين    البابا تواضروس يلتقي وفود العائلتين الأرثوذكسيتين في مركز "لوجوس"    «العمل» تُحرر 338 محضرًا ضد منشآت لم تلتزم بتطبيق الحد الأدنى للأجور    مجلس جامعة المنيا يشيد بنجاح منظومة الاختبارات الإلكترونية بكلية الطب    ذاكرة الكتب| تدمير «إيلات».. يوم أغرق المصريون الكبرياء الإسرائيلى فى مياه بورسعيد    رقصت معه وقبّل يدها.. تفاعل مع فيديو ل سيدة تمسك بذراع عمرو دياب في حفل زفاف    زاهي حواس: كنت أقرب صديق ل عمر الشريف وأصيب بألزهايمر فى أخر أيامه ولم يعرفنى    أبوريدة يحسم الملفات الحائرة بالجبلاية.. المفاضلة بين ميكالي وغريب لقيادة المنتخب الأولمبي    الأولى للفريقين هذا الموسم.. محمود بسيوني حكم مباراة الأهلي وبتروجت    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025    بعد مأساة الطفل عمر.. كيف تكشف لدغة ذبابة الرمل السوداء التي تُخفي موتًا بطيئًا تحت الجلد؟    انتبه إذا أصبحت «عصبيًا» أو «هادئًا».. 10 أسئلة إذا أجبت عنها ستعرف احتمالية إصابتك ب الزهايمر    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 27-10-2025 في الشرقية    هل يضاعف حساب الذنوب حال ارتكاب معاصي بعد العمرة أو الحج؟.. فيديو    حكم طلاق المكره والسكران في الإسلام.. الشيخ خالد الجندي يحسم الجدل ويوضح رأي الفقهاء    اعرف وقت الأذان.. مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 فى المنيا    مفتي الجمهورية: الجماعات المتطرفة توظف العاطفة الدينية للشباب لأغراضها الخاصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الرابعة: حرب فلسطين في مذكرات عبدالناصر ويوميات هيكل
نشر في البوابة يوم 16 - 12 - 2014

لماذا عاد الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل بعد مرور خمس سنوات على حرب فلسطين 1948 ليكتب من جديد يوميات عنها.
رغم أنه قبل وأثناء وبعد هذه الحرب. كان مراسلا عسكريا "لأخبار اليوم"، وعاش تفاصيل الحرب وكتب عنها رسائل صحفية تاريخية؟
في يومياته نفسها..
يجيب هيكل عن هذا السؤال..
ويقول: كانت قد مضت خمس سنوات كاملة على حرب فلسطين.. خمس سنوات طويلة.. حافلة.. مثيرة.. وظهرت أسرار كثيرة كانت غامضة.. وانطلقت حقائق رهيبة كانت مقيدة.
وبانت جوانب مختلفة للصورة .. كانت الظلال تسقط عليها فلا يبدو منها إلا الظلام!
وقال هيكل في بداية يومياته:
- وأنا أشعر بعد هذا الزمن والأحداث. أنني أستطيع أن أقف شاهد حق أمام التاريخ.
لأروي القصة كما رأيتها وكما عشتها وكما أحسست بها.. بلا رقابة وبلا قيود ولا ظلمات!
"وأشعر أنني الآن أستطيع أن أرويها. بعد أن تخلص عقلي من ظروف الزمان والمكان. زمان فلسطين ومكانها".
"كيف عشت مشكلة فلسطين.. وكيف رأيت المعاقل العربية تسقط واحدة بعد الأخرى.
وكيف انهارت المقاومة العربية. وكيف كنت أعرف أن مصر لن تدخل حربًا رسمية في فلسطين".. وكيف استعد اليهود لليوم فاصل!
***
وحين طالب هيكل في يومياته بأن يتقدم شهود الحق على هذه الحرب للإدلاء بشهاداتهم أمام التاريخ. كان بالتأكيد يعلم من هم شهود الحق هؤلاء. وكان أولهم من وجهة نظر هيكل محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر. والذي كان لديه السر الكبير.
لماذا وكيف تغير موقف مصر من النقيض الى النقيض؟!
لكن النقراشي.. كان قد مات ورحل عن الحياة!
يقول هيكل في يومياته:
"وأنا آسف على أن شاهد الحق الأول الذي كان يجب أن يقف أمام التاريخ.. ويفتح صدره .. ويطلعنا الأسرار الحبيسة فيه.. لا يستطيع اليوم أن يتكلم"!
لقد ذهب الرجل الذي يستطيع - أكثر من غيره- أن يروي القصة كاملة.. وأن يلقي بعض النور على الأحداث الرهيبة.. التى وقعت في الأيام القليلة السابقة.. على دخول الجيش المصري الى حرب فلسطين!
ولسوف يظل موقف هذا الرجل - محمود فهمي النقراشى- لغزًا كبيرًا!
ولن يجدي التاريخ- ولا النقراشي - حماسة المتحمسين للرجل!
والعجيب أنه هو نفسه - قبل غيره - كان صاحب نظرية عدم دخول مصر حربًا رسمية في فلسطين.. وكانت حججه في ذلك واضحة قاطعة.. تنم في صميمها على اقتناع الرجل بها!
أذكر أنني سمعته يتكلم أكثر من مرة في هذا الموضوع..
- وأذكر أن النقراشي قال بالحرف الواحد: لقد ذهبت الى مجلس الأمن وطالبت الإنجليز بالخروج من بلادنا.
وقلت للعالم كله أن الجيش المصري قادر على ملء الفراغ في قنال السويس.. وقادر على الدفاع عنا.. وأنا لا أريد أن أعرض هذا الجيش.. الذي هو كل حاجتي وسندي في القضية المصرية إلى تجربة خطيرة. ولو كانت نسبة الخطر في دخول الجيش إلى فلسطين لا تزيد على عشرة أو خمسة في المائة. فإني لا أرضى أن أجازف.. ولا بواحد في الألف!
***
يقول هيكل في يومياته:
ولم أكن أنا الوحيد الذي سمع هذا الكلام من النقراشي. وإنما سمعه.. ذلك الوقت كل من تحدثوا إليه في مشكلة فلسطين.. بل إنه يرحمه الله ويغفر له قال هذا الكلام رسميًا في جلسة سرية.. عقدها مجلس النواب المصري في الأيام الأخيرة من شهر أبريل سنة 1948.
ومع ذلك فإن هذا الرجل نفسه.. وبعد أيام قليلة من موقفه هذا.. وقبل أيام قليلة من التاريخ الفاصل: 15 مايو 1948 قد غير اتجاهه!
من أقصى اليمين.. الى أقصى اليسار!
وأصبح فجأة متحمسًا لدخول الجيش حربًا رسمية في فلسطين.. واقتنع فجأة بأن الأمر ليس فيه مجازفة.. وأكثر من هذا مضى يدعو الناس إلى مشاركته في حماسته واقتناعه.
فما الذي حدث؟
إنني وأنا أقف شاهد حق أمام التاريخ .. أحس أن النقراشي قد خدع خديعة كبرى.. وأنه - يرحمه الله ويغفر له- كان ضحية مؤامرة محبوكة الأطراف!
ولكن وأنا أقف شاهد حق أمام التاريخ.. لا أجد مفرًا من أن أقول أن هذا كله لا يعفى النقراشي من المسئولية أمام التاريخ!
ولقد أصبحت أعتقد الآن.. أن الصورة الحقيقية للموقف.. لم تكن واضحة في خياله.. بل إن بعض القوى والظروف.. وسوف أعود إلى ذلك بالتفصيل.. قد تآمرت على أن تفرض صورة معينة على خيال الرجل!
وهناك وثيقة مهمة أحب أن أقف أمامها طويلا.. والوثيقة هى محضر دقيق للذي قاله النقراشي في الجلسة السرية لمجلس النواب.. وهى الجلسة التى تحمس فيها النقراشي لدخول حرب فلسطين.. ومضى يقنع النواب ويبث في صدورهم حماسته.
لقد رسم النقراشي بحديثه في هذه الجلسة صورة الموقف كما كان يتصوره.. أو على الأصح كما صور له!
وكان الفارق مروعًا بين الصورة كما رسمها النقراشي في مجلس النواب.. والصورة كما رسمتها الأحداث في فلسطين!
وسر حرب فلسطين الكبير هو هذا بالذات!
هو هذا الفارق بين الصورة الحقيقية للموقف.. وبين الصورة التى وضعت في خيال رئيس وزراء مصر في ذلك الحين.
ولسوف أستعرض خطاب النقراشي فقرة فقرة.. وأضع بعد كل صورة منه رسمها رئيس الوزراء النقراشي.. ناحيتها الأخرى.. الصورة الثانية التى رسمتها الأحداث على مسرح المعركة في فلسطين!
***
وفى نفس اليوميات..
سجل هيكل بمنتهى الأمانة خطاب محمود النقراشي رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت أمام مجلس النواب المصري.
والذي تحمس فيه لدخول مصر حربًا رسمية في فلسطين.
وفى هذا الخطاب..
قال النقراشى: ما كان مجلس الجامعة العربية يجتمع إلا ونطرح للبحث مسألة فلسطين. وبعد عودتي من عرض قضية مصر على مجلس الأمن في أمريكا. دعا رؤساء الحكومات العربية للاجتماع في لبنان. ونظرًا لأهمية الموضوع لم أتردد في السفر لاشترك مع زملائي من الرؤساء.
"ولما أثيرت مسألة التدخل العسكري. اتخذت الموقف الطبيعي وهو أن مصر في نزاع مع الحكومة البريطانية أولا.
وهى لذلك لا يمكن أن تشتبك في حرب".
- ويعلق هيكل على هذا الكلام قائلا: في هذا كان النقراشي في حديثه على وفاق مع الصورة التى رسمتها الأحداث للموقف.. وأنا أعتقد أن هذا الوفاق مبعثه أن الرجل عاش بنفسه هذه الناحية من صورته.. وكان هو الذي أعطاها اللون.. وكان هو الذي كيفّ الاتجاه.
وقال محمود فهمي النقراشي في فقرة أخرى من خطابه للنواب المصريين في الجلسة السرية:
لقد كان هناك 400 ألف عربي في المناطق الصهيونية.. وكنا نتوقع أن المذابح ستجرى فيهم.. ولذلك بدأنا نشهد العالم أننا لن نقف مكتوفي الأيدي.. إذا جرت هذه المذابح.. ولهذا اتفقنا أن نحشد جيوشنا على الحدود.. وبالفعل في نوفمبر صدرت التعليمات الى بعض قوات الجيش المصري بالمرابطة على الحدود.
لكن هيكل يعلق على هذا الكلام قائلا:
- لم يحدث في نوفمبر ولا بعد نوفمبر، أن صدرت التعليمات إلى قوات من الجيش المصري بالمرابطة على الحدود.. لقد أنشئ هناك معسكر تدريب أرسلت إليه بعض كتائب الجيش.. ولكن هذه الكتائب بالمرابطة على الحدود. ولم يخطر بخيال قائد معسكر التدريب هناك اللواء أحمد المواوي أن له أدنى صلة بحوادث فلسطين.. بل إن الرجل سأل صراحة إن كانت هناك علاقة بين معسكره وبين الحوادث.. فيقول له بصراحة أيضا
لا .. أن مهمتك هى التدريب!
ومع ذلك.. فإن الظروف لم تمكنه من القيام حتى بهذه المهمة!
***
وحين كان هيكل يعلق على خطاب النقراشي في مجلس النواب المصري. كان بالفعل يقول شهادته للتاريخ.
وكان يكشف بالفعل سر ما حدث فجأة. وجعل مصر الدولة تغير موقفها بين عشية وضحاها.. وبعد أن كانت ضد الحرب الرسمية.. دخلت فجأة وبدون استعداد.. حرب فلسطين.
كان النقراشي قد قال أيضًا في خطابه في الجلسة السرية:
كنا نعلم أيضًا أن جيش شرق الأردن.. يستمد من بريطانيا مساعدته على حفظ الأمن.. ورأينا في هذا ضمانا لتخفيف ضغط الصهيونيين على العرب.. وسألنا رئيس وزراء شرق الأردن.. عما إذا كان جيشه يتصرف بحرية في مثل هذه الأمور؟
فأجاب بالإيجاب
- وقال: وإن كان جلوب باشا رئيس الجيش بريطاني الجنسية.. لكنه موظف أردني!
لكنه قال إن الحكومة البريطانية تمد شرق الأردن بمعونة مالية تتراوح بين ثلاثة ملايين من الجنيهات وثلاثة ملايين ونصف. فقلنا إنه في حالة امتناع الحكومة البريطانية.. يجب على الدول العربية سداد هذه النفقات.
ولا يترك هيكل هذه الفقرة من خطاب النقراشي دون تعليق فيقول:
- إن التجارب أثبتت الاتجاه الذي يمكن أن يتجه إليه ولاء جلوب باشا البريطاني الجنسية. الأردني الوظيفة.. أما قصة دفع الإعانة لملك عبد الله إذا توقفت بريطانيا عن دفعها.. فإنى لا أعتقد أن هذه الإعانة وصلت إلى الملك عبد الله أبدًا.
وأنا أذكر ذات يوم في مدينة الزرقا الواقعة على بعد عشرين كيلو مترًا إلى الشمال من عمان.. وكان فيها مقر القيادة الاستشارية المصرية لملك عبدالله.. إنني التقيت في مقر هذه القيادة بالأستاذ عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية.
وقال لي عزام: لقد كنت أريد منك أن تجامل الملك عبد الله فيما تكتبه الى أقصى حد.. أن من السهل أن نكسب هذا الرجل الى حد بعيد.. أن لديه جيشا قويًا.. ولا شيء يربطه بالإنجليز.. إلا الإعانة التى يدفعونها له.. ومصر بلد غنى.. والإعانة لا تزيد على ثلاثة ملايين من الجنيهات. ليست عبئا تنوء به.. ولنفرض أن هذا المبلغ تدفعه مصر إيجارًا للجيش.. خذوا الأمر حتى على هذا النحو.. تجدوا أن استرضاء الرجل صفقة رابحة لمصر مهما كانت الأحوال.
وأذكر أنني مسست الموضوع مسًا رفيقًا مع الملك عبد الله ذات مساء بعد العشاء على مائدته في قصر الزعفران.. ووجدت أن الملك.. وأنا أشهد أنه لم يكن يخفي سرًا.. لم يبد عليه ساعتها أنه يعرف عن هذه الفكرة كثيرًا أو قليلًا!
***
مرة أخرى إلى خطاب النقراشى..
قال رئيس وزراء مصر في الجلسة السرية لمجلس النواب المصري:
وانعقدت جلسات أخرى لجامعة الدول العربية.. واتفقنا على ما يجب أن تعمله كل دولة في هذه الظروف.. وتذكرون حضرات النواب أنكم وافقتم على صرف 420 ألف جنيه مرة.. ثم وافقتم على صرف 420 ألف جنيه أخرى.. وكنا قد اعتمدنا للقضية مليون جنيه.. ثم مليونا أخرى.. وكانت حصة مصر بنسبة حصتها في نفقات الجامعة العربية وهى 42%.
وكان ما قامت به مصر من المساعدات الأخرى وأخطر من هذه المبالغ.. وقد وضعنا كل موارد مصر تحت تصرفهم.. وأقول أكثر من ذلك أن السلاح الذي ورد كان عن طريق مصر.
لكن هيكل لا يترك هذه الفقرة أيضًا من خطاب النقراشى الخطير دون تعليق فيقول:
- أما المبالغ التى صرفت.. فبودي لو أعرف أين ذهبت؟ الذي لاشك فيه أن مصر دعت.. ولكن الى أين ذهب المال الذي دفعته مصر؟
أما السلاح الذي وردته مصر.. فأنى أعرف الى أين ذهب!
أما الملحق العسكري لمصر في القدس وقتها.. فهو البكباشي عصام المصري. مندوب مصر الآن في لجنة مقاطعة إسرائيل. قد تلقى أكثر من شكوى وهو في القدس من الأسلحة التى أرسلت من مصر!
وطلب عصام المصري وقتها أن يرى بنفسه هذه الأسلحة. وما كاد يراها.
حتى قال بفجيعة: ليست هذه هى الأسلحة التى أرسلناها إليكم!
وظهر أن معظم هذه الأسلحة قد استبدل في الطريق. وذهبت البنادق القوية التى أرسلتها مصر.. لتظهر في السوق السوداء في الطريق.. ووضعت بدلا منها بنادق هزيلة مريضة.. ينطلق منها سعال مبحوح!
وقال النقراشي فى خطابه: ولقد قام أهالي فلسطين بمقاومة نبيلة باسلة.. وكان لهذه المقاومة الفضل كل الفضل.. أنها لفتت الأنظار إلى أن العرب كانوا جادين.. عندما قالوا إنهم لا يوافقون على التقسيم.. وقد بذلوا كل أرواحهم وحياتهم لمقاومة هذا الضغط الصهيوني.
وكانت المقاومة مستمرة وناجحة ونبيلة.. فقد كالوا للصهيونيين الصاع صاعين.. ولفتوا أنظار العالم.. ولفتوا نظر الحكومة الأمريكية.
ومما لاشك فيه، أن هذه المقاومة كان لها الأثر الأكبر.. في تعديل موقف الحكومة الأمريكية من التقسيم.. وقد حضر إلىّ أمريكي ذو شأن.. وقال لي إنه كلف برسالة شخصية من الرئيس الأمريكي ترومان إلى الملك عبد العزيز بن سعود. وأفضى لي بفحوى الرسالة.. وكان مؤداها أن الحكومة الأمريكية، لا تقف الآن مؤيدة للتقسيم. وكذلك قابلني سفير أمريكا في العراق.. وكان في هيئة الأمم,.. وأفضى لي بهذا المعنى.. وهو أن الحكومة الأمريكية.. خففت من تأييدها للتقسيم.
ورأيتم حضرات النواب بعد ذلك مندوب أمريكا يعلن في مجلس الأمن.. أن الحكومة الأمريكية تخلت عن التقسيم.. وأنها تنظر في موقف آخر. وكان الفضل الأكبر في المقاومة الباسلة.. التى قام بها العرب دفاعًا عن بلادهم.
وهنا يعترض هيكل بشدة على كلام النقراشي!
فهو قد سافر بنفسه إلى فلسطين.. وشاهد بعينيه تفاصيل ووقائع ما حدث.. ولهذا اعترض على كلام النقراشى قائلا :
- آسف على أن هذه المقاومة الباسلة لم تكن في فلسطين نفسها.. بنفس الحرارة التى بدت بها على صفحات الجرائد في العواصم العربية.. لقد كانت هناك مقاومة.. هذا صحيح!
ولكن هذه المقاومة لم تصل أبدًا الى مرحلة المجهود المنظم.
ولم يكن لهذه المقاومة مع الأسف أثر في موقف أمريكا. ولم تتخل أمريكا. ولم تتخل أمريكا. ولم يتخل ترومان بالذات عن تأييد التقسيم. والدليل أنه اعترف بقيام إسرائيل قبل أن ينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين ببضع ساعات!
أما أن أمريكا خفقت في وقت من الأوقات من غلوائها في تأييد التقسيم.. فقد كان لذلك سبب واحد.. هو أبعد ما يكون للأسف عن تأثير المقاومة العربية في فلسطين.
وكان السبب.. هو شركات البترول الأمريكية!
لقد تألقت شركات البترول الأمريكية.. وهى في الشرق الأوسط تمثل 17% من مجموع الاستثمارات الأمريكية خارج الولايات الأمريكية المتحدة أن مصالحها في خطر إذا فرض التقسيم بالقوة. وجاء وقت اضطر فيه الرئيس الأمريكي لأن يصغي لطلبات هذه الشركات. صاحبة النفوذ القوي
والدليل على ذلك أن رسالة الرئيس الأمريكي ترومان لم تكن لأي واحد من رؤساء الدول العربية.
إلا للملك عبد العزيز آل سعود..
وبالذات فقط!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.