حسمت محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية، الدائرة الأولى بالبحيرة، قضية المنبر في الإسلام ودوره في نشر الدعوة وتبليغها باعتبارها أغلى الأمانات التي تمليها العقيدة والواجب تجاه الدين الإسلامى والسنة النبوية المطهرة حفاظًا لها وتبليغًا لرسالتها، بحيث لا يعتليه إلا مَن هو مؤهل لتلك الأمانة. وقضت المحكمة، اليوم الأربعاء، برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة وعضوية المستشارين خالد شحاتة ووائل المغاورى، نائبى رئيس مجلس الدولة، الصادر بتأييد قرار وزير الأوقاف بضم21 مسجدًا بمراكز وقرى محافظة البحيرة والإشراف عليها وألزمت المدعين بالمصروفات. وأكدت المحكمة أن المشرع الدستورى جعل من الأزهر الشريف المرجع الأساسى في العلوم الدينية والشئون الإسلامية وقصر ولاية مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم على الأزهر الشريف، ونظرًا لخطورة تأثير ممن هو غير أهل لممارسة الخطابة في نفوس البسطاء فقد ألزم المُشرع العادى أن تكون ممارستها والدروس الدينية بالمساجد وما في حكمها من الساحات والميادين العامة وفقًا لأحكام القانون الذي لم يُجز لغير المعينين المتخصصين بوزارة الأوقاف والوعاظ بالأزهر الشريف المصرح لهم، ممارسة الخطابة والدروس الدينية بالمساجد وما في حكمها، ويصدر بالتصريح قرار من شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف حسب الأحوال وأجاز المُشرع الترخيص لغيرهم بممارسة الخطابة والدروس الدينية بالمساجد وما في حكمها وفقًا للضوابط والشروط التي يصدر بها قرار من وزير الأوقاف أو مَن يفوضه في ذلك، بل جعل اعتلاء المنبر وممارسة الخطابة أو أداء الدروس الدينية دون تصريح أو ترخيص جريمة جنائية. وأضافت المحكمة أن المُشرع عهد إلى وزارة الأوقاف مهمة إدارة المساجد والإشراف عليها بعد تسليمها وضمها إليها، وذلك ضمانًا لقيام هذه المساجد برسالتها في نشر الدعوة الإسلامية على خير وجه، ولهذا فإن ضم جميع المساجد لوزارة الأوقاف وإشرافها عليها يعد احترامًا لقدسية المنبر وتطهيرًا لفكر الدعاة وصونًا لجوهر الدعوة، باعتبار أن الدعوة الإسلامية من المسائل فوق الدستورية، لذا فإن الدستور أحال في أحكامه الرجوع لمبادئ الشريعة الإسلامية كمرجعية للدساتير ولا تحيل مبادئ الشريعة الإسلامية لأحكام الدساتير لجلالها وعظمتها وخلودها. وقالت المحكمة إن الدولة إدراكًا منها لرسالتها في دعم التوجيه الدينى في البلاد على وجه محكم، وتأكيدًا لمسئوليتها في التعليم والإرشاد وما يتطلبه ذلك من وضع مبادئ عامة لجميع المساجد والزوايا في المدن والقرى تستهدف نقاء المادة العلمية وسلامة الوجهة التي يعمل بها الخطباء والمدرسون بما يحفظ للتوجيه الدينى أثره، وتبقى للمساجد الثقة في رسالتها، بعد أن لوحظ أن عددًا كبيرًا من المساجد لا يخضع لإشراف وزارة الأوقاف وهذه المساجد يسيطر عليها الارتجال ويترك شأنها للظروف ولا يوجد بها مَن يحمل مسئولية التعليم والإرشاد من المتخصصين في علوم الدين، ولما كان بقاء هذه الحال قد ينقص من قيمة التوجيه الدينى ويضعف الثقة برسالة المساجد ويفسح الطريق لشتى البدع والخرافات التي تمس كيان الوطن واستقراره، خصوصًا أن ما يقال فوق منابر المساجد إنما يقال باسم الله، لذلك فان الأمر يقتضى وضع نظام للإشراف على هذه المساجد بحيث يكفل تحقيق الأغراض العليا من التعليم الدينى وتوجيه النشء وحمايتهم من كل تفكير دخيل أو جهيل. وأشارت المحكمة إلى أن عقد الإشراف لوزارة الأوقاف على المساجد والزوايا هو المسار الصحيح لحماية المجتمع من كل عنف معتد أثيم ينال من الفطرة السليمة للإسلام، ويحمى الناس من الشرور والآثام بحسبان أن وزارة الأوقاف من أقدم الدواوين في تاريخ مصر بما لها من تقاليد راسخة ومتوارثة حيث تولى مسئوليتها عظماء على مدى التاريخ من أصحاب الفكر الوسطى المستنير الذين حملوا على أعناقهم حماية الدعوة الإسلامية الصحيحة في المنطقة العربية والإسلامية في العالم الإسلامى بأسره بالتعاون مع الأزهر الشريف بجلاله وقدره وعظمة أدائه، في مجال رسالته العالمية للتبصير بشئون الدعوة، ولا ريب أن روح التسامح التي يشعها الإسلام تقتضى الاحترام والإجلال والتحاور مع أصحاب الأديان السماوية، فرسالة الإسلام للعالمين تتمثل في الرحمة التي تحمى ولا تهدد وتصون ولا تبدد. وشددت المحكمة على أنه من حق وزارة الأوقاف أن تتولى إدارة جميع المساجد والزوايا سواء صدر بوقفها إشهار أو لم يصدر وأيًا كان تاريخ إنشائها أو الجهة التي أنشأتها، فقد أصبحت إدارة المساجد منوطة بوزارة الأوقاف وتدخل ضمن مسئوليتها وواجباتها، سواء ما كان منها قائمًا في تاريخ العمل بالقانون أو ما يقام منها بعد ذلك، لتؤدى رسالتها الدينية على الوجه الصحيح. وذكرت المحكمة أن قرار وزير الأوقاف بضم المساجد والزوايا لإشراف وزارة الأوقاف لا يمس حق الملكية، لأن المسجد متى أقيم وأذن للناس فيه بالصلاة يخرج من ملكية العباد إلى ملكية مالك الملك الله سبحانه وتعالى ولا يعود إلى ملك بانيه ولا ترد عليه تصرفات البشر ويقوم بالإشراف عليه ولى الأمر، فضلًا عن أن الأمة قد أجمعت على أن البقعة إذا عينت للصلاة خرجت عن جملة الأملاك الخاصة بصاحبها وصارت عامة للمسلمين، كما أن قرار وزير الأوقاف المشار إليه لا مساس فيه بحرية العقيدة، فهذا القول يعد مفهومًا مغلوطًا يستعصى على القبول، لأن قرار وزير الأوقاف يتعلق بضم المساجد لإشراف الوزارة بقصد الاحتفاظ للتوجيه الدينى بأثره واستبقاء الثقة في رسالة المساجد، بعد أن سيطر عليها الارتجال والغياب ممن يحمل مسئولية التعليم والإرشاد من المتخصصين في علوم الدين، وكل أولئك لا تدخل فيه في العلاقة القائمة بين العبد وربه. ونوّهت المحكمة إلى أنه لا يفوتها أن تشير - وهى جزء من نسيج هذا الوطن - أنه على ضوء التجارب المريرة التي عاشها الوطن من جراء استخدام المساجد في استغلال البسطاء والفقر والجهل لجذب المؤيدين بين التيارات الدينية المختلفة مما نجم عنه بث روح الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد التي أدت إلى التنابز اللفظى والعنف المادى مما تسبب في ضياع كثير من أرواح المواطنين وتخريب الممتلكات نتيجة لتطرف الفكر المتشدد المتحجر، فإنها لا يجوز مطلقًا استخدام منابر المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية أو للدعاية الانتخابية لما في ذلك من تعارض مع قدسية المسجد والإضرار بالمصالح العليا للبلاد، فاحترام حرمة المسجد أمر واجب، ولا يصح أن تكون بيوت الله محلًا للزج بها في الخلافات التي تنشب بين التيارات الدينية المتصارعة على أمور دنيوية لا ترقى إلى جلال المساجد ورسالتها المضيئة على نحو يؤدى إلى انقسام الأمة التي قال عنها القرآن الكريم "كنتم خير أمة أخرجت للناس"( الآية 110 من سورة ال عمران) أو بث روح البغضاء بين أبناء الوطن الواحد فالمسجد له من السمو والقدسية لتجميع الناس لا تفريقهم ولم شمل الأمة بشعب الإيمان والفضائل لأداء حقوق الله واستلهام الرشد واستمداد العون منه جل شأنه "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا" (الآية 18 من سورة الجن) بما يجعله منزهًا عن كل دعوات التشدد أو الاستغلال السياسي باسم الدين، خاصة أن المنبر هو طريق المؤمن إلى القبلة فيخلع نعليه وكل رداء دنيوى خارج المسجد ليقف خاشعًا متضرعًا يبتغى وجه الله الكريم. كما أكدت المحكمة أنه بحكم ما وسده إليها الدستور والقانون تسجل أنه نتيجة لإقدام غير المتخصصين من أهل العلم على إصدار الفتاوى غير المسندة وما ترتبه من آثار خطيرة سيئة على الأجيال الحالية واللاحقة لما تتضمنه من الأخبار عن حكم الله في مسألة ما، فلا ترقى إلى مستوى الاجتهاد وتوصم بالدعوة إلى الضلال والظلام بما يصيب المجتمع من خلل وتفكك واضطراب وفوضى لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى ووقى الله البلاد من أخطارها، فإنها يتعين قصر الإفتاء على دار الإفتاء المصرية، فشروط الإفتاء ليست بالأمر اليسير في الفقه الإسلامي حتى يمارسه العوام وإنما هو أمر بالغ الصعوبة والدقة يستفرغ فيه المجتهد وسعه لتحصيل حكم شرعى يقتدر به على استخراج الأحكام الشرعية من مأخذها واستنباطها من أدلتها على نحو يشترط في المجتهد شروطًا للصحة أهمها أن يكون عارفًا بكتاب الله ومعانى الآيات والعلم بمفرداتها وفهم قواعد اللغة العربية وكيفية دلالة الألفاظ وحكم خواص اللفظ من عموم وخصوص وحقيقة ومجاز وإطلاق، ومعرفة أصول الفقه كالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه وهى مسائل دقيقة للغاية تغم على عموم الناس من أدعياء الدين وطالبى الشهرة ومثيرى الفتنة، والدين منهم براء وهى في الحق تستلزم التأهيل في علوم الدين. واختتمت المحكمة حكمها بأنها تناشد المُشرع بضرورة تجريم الإفتاء من غير أهله المتخصصين بدار الإفتاء التي تخاطب كل مسلم في العالم وليس مصر فحسب، ومناشدته كذلك بصدد قانون ممارسة الخطابة بتجريم استخدام منابر المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية أو للدعاية الانتخابية حتى ولو كان مرخصًا له بالخطابة، وهو الأمر الذي خلا منه قرار رئيس الجمهورية المؤقت رقم 51 لسنة 2014 بشأن ممارسة الخطابة والدروس الدينية في المساجد وما في حكمها، لأن استخدام الخطيب للمنبر في غير أهداف الخطابة والانحراف بها في آتون السياسة، سعيًا لتأييد طرف ضد آخر يجعله قد خالف شروطها، والقاعدة الفقهية تقرر أن المسلمين عن شروطهم، فالحظر وحده دون وضع عقاب رادع لا يضمن تنفيذه، خاصة في ظل الظروف العاتية التي تواجه العالم لمحارية الإرهاب ودعاة الفكر الشيطانى التكفيرى وتبذل فيه مصر وحدها بحكم ريادتها للعالم الإسلامى غاية جهدها لمواجهة هذا الإرهاب للحفاظ على كيان المجتمع واستقراره ورعاية المصالح العليا للأمة. وأهابت المحكمة بوزارة الأوقاف العمل على الارتقاء بالمستوى العلمى للخطباء لديها وزيادة عددهم وتأهيلهم والنظر في رواتبهم حتى يفوا باحتياجات المساجد والزوايا في جميع أنحاء الجمهورية، قطعًا للطريق على غير المتخصصين من اعتلاء المنابر وتبادل الخبرات والتفاعل مع العالم الإسلامى.