ينطوي التحرك المصري المكثف لتعزيز العلاقات مع فرنسا وفضاء دول منظمة الفرانكفونية على أبعاد ثقافية هامة، ويفتح أفاقا لمزيد من التواصل الثقافي البناء بقدر ما يعيد للأذهان قوة التفاعل بين المثقفين في الجانبين. فبعد الزيارة الناجحة التي قام بها مؤخرا الرئيس عبد الفتاح السيسي لفرنسا جاءت رئاسة رئيس الوزراء إبراهيم محلب للوفد المصري في القمة الفرانكفونية ال15 التي افتتحت في داكار أمس الأول السبت؛ لتؤكد اهتمام مصر بدعم علاقاتها مع الدول الناطقة بالفرنسية والتي تشكل رقما هاما في معادلة العلاقات الدولية. ومنظمة الفرانكفونية تضم 77 دولة ما بين عضو ومراقب وهو ما يصل لنحو ثلث مجموع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، ومن بينها عدد كبير من الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية بينما يبدو التأثير الثقافي الفرنسي واضحا في فضاء هذه المنظمة. كما أنه لا يمكن إغفال تأثر أجيال من المثقفين المصريين بكتابات وأفكار مفكرين وأدباء فرنسيين مثل فولتير وروسو وسارتر والبير كامو وأندريه جيد وأندريه مالرو وسيمون دي بوفوار فرانسواساجان وصولا لجاك لانج رئيس معهد العالم العربي في باريس الذي يشكل بؤرة هامة في التواصل الثقافي بين فرنسا والعالم العربي. ودعا رئيس الوزراء المصري المهندس إبراهيم محلب الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرانكفونية لدعم ترشيح مصر لعضوية مجلس الأمن الدولي عامي 2016 و2017 .. معربا في كلمة بالجلسة الافتتاحية لهذا التجمع في العاصمة السنغالية عن شعوره بالامتنان حيال الدعم القيم لمصر من جانب الدول الصديقة في منظمة الفرانكفونية. وأضاف محلب أن مصر راغبة في أن تكون صوتا لشعوب بلدان الفرانكفونية والتعبير عن طموحاتهم في مجلس الأمن الدولي، منوها بأن العلاقات بين مصر والمنظمة الدولية للفرانكفونية شهدت زخما جديدا على مختلف المستويات في السنوات الأخيرة. واستشهد رئيس الوزراء في هذا السياق بالنجاح المتزايد "لجامعة سنجور" التي تفخر مصر باستضافتها في مدينة الإسكندرية فيما تشكل الثقافة اهتماما رئيسيا للمنظمة الدولية للفرانكفونية .. ويرى مثقفون عرب أن الثقافة الفرانكفونية يمكن أن تشكل رافدا ثقافيا إنسانيا للثقافة العربية في سياق التفاعل الثقافي العالمي وحقائق المشهد الدولي التي لم تعد تسمح بالانغلاق الثقافي أو الأحادية". مع أن هناك من الكتاب والروائيين والشعراء المصريين من يكتب بالفرنسية فإن جائزة جونكور وهى أرفع جائزة أدبية فرنسية لم تعرف أبدا على مدى مسيرتها الطويلة عنوان أي مبدع مصري مثل جورج حنين أو البير قصيري ورمسيس يونان، كأسماء كبيرة من المنظور الثقافي التاريخي فيما ذهبت من قبل لمبدعين آخرين من أصول عربية. وتثير ظاهرة الغياب المصري عن جائزة جونكور قدرا من الدهشة وبعض التساؤلات خاصة وأن للغة الفرنسية حضورها العريق في الجماعة الثقافية المصرية ناهيك عن أنشطة مصر في سياق المنظمة الفرانكفونية المعنية ضمن قضايا آخرى بتعزيز نفوذ اللغة الفرنسية في العالم. وعلى سبيل المثال فإن الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة أشار في مقابلات صحفية إلى التأثير العميق للثقافة الفرنسية في تكوينه الثقافي بقدر ما يجسد "التواصل الإيجابي بين الثقافتين العربية والفرانكفونية". ومن الطريف والدال أن الدكتور بطرس قال ذات مرة في مقابلة صحفية "ما زلت أشعر أن كتابتي بالعربية فيها بعض التركيب والإيقاع الفرنسي كما أن كتابتي بالفرنسية فيها تأثير السجع العربي والجمل الطويلة". ويوضح بطرس غالي "أن الحوار مع الآخر يتطلب امتلاك المفردات الثقافية وعلى رأسها اللغة" فيما ينقل عنه الدكتور عمر عبد السميع الكاتب الصحفي بجريدة الأهرام قوله "ربطتني حوارات عدة بألبير كامو أيام كنت طالبا في باريس وأتذكر طويلا ما كان يقوله عن أهمية ربط جنوب البحر المتوسط بشماله". وحسب الدكتور عمر عبد السميع، قال الدكتور بطرس غالي: إن أكثر من تأثر به في هذا السياق من التواصل الثقافي كان المستشرق الفرنسي ماسينيون الذي أصدر عدة مجلات وصحف في مصر وكان عضوا في المجمع اللغوي المصري فيما أشار غالي إلى ميله شخصيا "للمدرسة التأثيرية الفرنسية". وأضاف الدكتور بطرس غالي الذي كان أول أمين عام لمنظمة الفرانكفونية :"في الفنون التشكيلية أجدني مشدودا إلى جوجان وماتييس وفي الأدب أحب البير كامو وفي الموسيقى دي بوسيه ورافاييل". وتنتمي أربع دول عربية هى مصر ولبنان والمغرب وتونس لمنظمة الفرانكفونية فيما كان الكاتب الجزائري كمال داوود من المرشحين بقوة للفوز بجائزة جونكور هذا العام غير أن هذه الجائزة الأدبية العريقة ذهبت للكاتبة الفرنسية ليدي سالفار عن روايتها "لاتبكي". ومنحت جائزة جونكور في القصة عام 2013 للمغربي فؤاد لعروي في وقت احتدم فيه "الصراع العالمي بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية" وهو صراع امتد بتداعياته القوية إلى عالم السياسة في فرنسا ويثير حاليا مشكلة للحكومة الاشتراكية". وفؤاد لعروي الفائز بجائزة جونكور في العام الماضي يبلغ من العمر الآن نحو 56 عاما، وهو رجل أعمال وأستاذ اقتصاد لكنه في الوقت ذاته مبدع يكتب رواياته وقصصه باللغة الفرنسية وتحظى أعماله بإقبال كبير ونسبة عالية من المقروئية سواء في فرنسا أو في المغرب وشمال أفريقيا. وواقع الحال أن المغرب وبقية دول شمال أفريقيا عموما تقوم بدور مقدر على مستوى التفاعل الثقافي مع فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية فيما منحت لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالمية للشعر التي يقع مقرها في الرباط جائزتها للعام الحالي للشاعر البرتغالي نونو جوديس، وهو "صاحب تجربة شعرية طليعية". وتمنح جائزة الأركانة سنويا من جانب "بيت الشعر" في المغرب بشراكة مع "مؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير" وبتعاون مع وزارة الثقافة المغربية فيما كان المبدع المغربي الكبير محمد بنيس أحد من تولوا رئاسة "بيت الشعر" وهو صاحب الفضل في تخصيص يوم عالمي للاحتفال بالشعر عندما استجابت منظمة اليونسكو لدعوته. وإذا كان الشاعر البرتغالي نونو جوديس قد عمل من قبل كمستشار ثقافي بسفارة بلاده لدى فرنسا، فإن المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة عرف بدوره الكبير والنشط في الحياة الثقافية المصرية بينما قالت السفارة الفرنسية - في بيان صدر مؤخرا - "إن العلاقة الثنائية بين فرنسا ومصر تندرج ضمن تاريخ عريق رسخ صداقة عميقة بين الشعبين ويعتزم البلدان إقامة شراكة متينة ودائمة بينهما تقوم على احترام استقلالية كل من الطرفين وسيادته". ومنذ شهر سبتمبر عام 2012 باتت جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية ضمن 13 جامعة من منطقة الشرق الأوسط، لها حق المشاركة في اختيار أفضل رواية فرنسية في سياق مبادرة فرانكفونية أطلق عليها "جائزة جونكور-اختيار الشرق" ومع ذلك فإن أب اسم مصري لم يظفر بعد بأي جائزة من جوائز جونكور. وكان الكاتب والشاعر المغربي الطاهر بن جلون قد فاز بجائزة جونكور عام 1987 عن روايته "ليلة القدر" كما ظفر بها الروائي اللبناني الأصل أمين معلوف في عام 1993 بروايته "صخرة طانيوس". وجائزة جونكور الكبرى هى جائزة معنية بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية تمنحها أكاديمية جونكور سنويا لأفضل عمل نثري وعادة ما يكون رواية وإذا كانت القيمة المادية للجائزة لا تكاد تذكر فإن قيمتها المعنوية بالغة الأهمية حيث تكفل توزيعا عاليا للعمل الفائز؛ فيما يضمن الناشر إدراج هذا العمل ضمن قوائم أفضل مبيعات الكتب. وثمة جوائز أخرى على هامش الجائزة الكبرى التي أسست بناء على وصية أدموند دي جونكور وهى جائزة جونكور للرواية الأولى وجائزة جونكور للقصة القصيرة وجائزة جونكور للشعر وجائزة جونكور لأدب السيرة الذاتية. ومؤسس الجائزة ادموند دي جونكور الذي ولد عام 1822 وقضى عام 1896 كان مؤلفا وناقدا وناشرا ووقف كل ممتلكاته على تأسيس أكاديمية جونكور تخليدا لذكرى شقيقه الكاتب جول هوت دي جونكور الذي قضى عام 1870 فيما قرر ادموند دي جونكور أن تباع كل ممتلكاته بعد وفاته وتخصص فوائد هذا المبلغ الضخم لأكاديمية جونكور وتمويل جائزة سنوية لأفضل عمل أدبي. وفي عام 1902 أسست أكاديمية جونكور ومنحت جائزتها الأولى بعد ذلك بعام وكان أول من فاز بها جون انطوان ناو عن كتابه "قوات العدو" فيما نالها لفيف من مشاهير الأدب الفرنسي مثل مارسيل بروست وجان فايار وجورج دو هاميل والفونس دو شاتوبريان واندريه مالرو وسيمون دوبوفوار. ويحظى الكاتب المغربي الطاهر بن جلون بمقعد في الأكاديمية منذ عام 2008 فيما فاز الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بجائزة جونكور للشعر في عام 2009 ومع إن هذه الجائزة ينظر لها على أنها في مرتبة أقل من جائزة جونكور للرواية إلا أن أسماء كبيرة في عالم الشعر اقترنت بها مثل اوجين جيوفيك وايف بونغوا ولوران جاسبار. وتكشف النظرة المتأملة للحياة الثقافية الفرنسية عن اهتمام بالغ بقضايا اللغة مع استمرار ما يمكن وصفه بالصراع الكبير بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية للفوز بالهيمنة اللغوية على مستوى العالم بينما يشكل الأدب المكتوب بأي من اللغتين جزءا من هذا الصراع وحساباته المعقدة. وكما تقول صحيفة الجارديان البريطانية فإن الانتشار العالمي للغة الإنجليزية مسألة موجعة للسياسة الفرنسية وللساسة في باريس فيما "فتحت جبهة جديدة في هذه الحرب اللغوية" بعد موافقة الحكومة الاشتراكية في فرنسا على بحث إمكانية استخدام الإنجليزية كلغة للدراسة في الجامعات الفرنسية. غير أن هذا القرار أثار انتقادات بالغة الحدة لحكومة الرئيس فرانسوا أولاند حتى أن بعض الأكاديميين المتعصبين للغة الفرنسية وخاصة في الأكاديمية الفرنسية اعتبروا أن الحكومة الاشتراكية تعمد لتخريب هذه اللغة. وكان الكاتب والشاعر الجزائري الراحل محمد ديب قد حصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية الرسمية عام 1994 وهى ذات قيمة مادية يعتد بها حيث تصل إلى نصف مليون فرنك خلافا لجائزة جونكور التي لا تكاد قيمتها المادية تزيد على العشرة يورو!. وبلغ اعتزاز الفرنسيين بلغتهم حد فرض حظر على استخدام أي لغات أجنبية للتدريس في الجامعات الفرنسية باستثناء أقسام اللغات أو محاضرات بعض الأساتذة الزائرين من الخارج الذين لا يتقنون اللغة الفرنسية. ومن ثم فإن قرار الحكومة الاشتراكية بالاتجاه نحو تخفيف القيود المفروضة على اللغة الإنجليزية في الجامعات الفرنسية أثار موجات عاتية من الغضب وخاصة داخل الأكاديمية الفرنسية التي توصف بأنها "الحصن الحصين للغة البلاد" حتى لو كانت النية معقودة على ألا تزيد نسبة التدريس بالإنجليزية في جامعات فرنسا على 1 % من مجموع ساعات الدراسة. لكن بعض أساتذة الجامعات وخاصة أصحاب التخصصات التقنية اعتبروا أنه من المفيد استخدام الإنجليزية في جامعاتهم ومعاهدهم العليا .. منوهين بهيمنة هذه اللغة على كثير من الإصدارات والدوريات والكتب في التخصصات العلمية الدقيقة ومجالات التكنولوجيا فيما أكدوا أن الإنجليزية مفيدة لطلاب مرحلة الدراسات العليا في الجامعات الفرنسية على وجه الخصوص. كما ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن استخدام اللغة الإنجليزية في الجامعات الفرنسية سيكون عنصر جذب للطلاب الأجانب وبما يحسن وضعية جامعات فرنسا على مضمار المنافسة مع الجامعات الأخرى في الغرب لجذب أكبر عدد ممكن من الطلاب الأجانب. وعلى هذا المضمار تأتي الجامعات الفرنسية في المركز الخامس بعد جامعات الولاياتالمتحدةوبريطانيا واستراليا وألمانيا. والطريف أن فؤاد لعروي الفائز بجائزة جونكور عام 2013 عن روايته "المشكلة القريبة في بنطال داسكوسين" الصادرة عن دار نشر جوليار الفرنسية كانت دراسته الجامعية العليا في بريطانيا وليس في فرنسا التي يكتب بلغتها . وفي عام 2012 فاز الفرنسي جيروم فيراري بجائزة جونكور عن روايته "موعظة عن سقوط روما" فيما أكد هذا الروائي الفرنسي المنحدر من جزيرة كورسيكا أنه تأثر إبداعيا بإقامته في الجزائر لمدة أربع سنوات كما تأثر بإقامته الحالية في أبو ظبي بدولة الإمارات حيث يعمل في مجال التدريس غير أن أهم المؤثرات العربية والشرقية كانت تتمثل في الشعر الصوفي وإبداعات الحلاج وابن عربي. ونوه جيروم فيراري بأهمية قراءاته لأدب نجيب محفوظ جنبا إلى جنب مع كتابات أمين معلوف والطاهر بن جلون اللذين فازا بجائزة جونكر وهى جائزة ذهبت أيضا إحدى فئاتها للروائي الأفغاني الأصل عتيق رحيمي دون أن تصادف على مدى تاريخها الطويل مصريا واحدا من الذين يكتبون بالفرنسية سواء داخل مصر أو في فرنسا!. وتبدو جائزة جونكور الفرنسية الأقل إثارة للاعتراضات والمطاعن بالمقارنة مع بقية الجوائز الثقافية والأدبية الشهيرة في العالم كما أنها تبدو أحيانا الطريق نحو جائزة نوبل. ويعد أمين معلوف صاحب "سمرقند وليون الأفريقى وجذور" ثاني عربي الأصل يفوز بجائزة جونكور وهى أرفع جائزة أدبية في فرنسا بعد المغربي الطاهر بن جلون. وكانت الأكاديمية الفرنسية قد اختارت الكاتب والروائي اللبناني الأصل أمين معلوف ليدخلها خلفا للمفكر وعالم الانثربولوجي كلود ليفى شتراوس الذي توفى في أكتوبر عام 2009 واختير معلوف ضمن "الأربعين الخالدين في الثقافة الفرنسية" من أول جولة للتصويت. غير أن بعض النقاد العرب رأوا أن أمين معلوف لم يكن بحاجة للأكاديمية الفرنسية أو "مجمع الخالدين" وأعلى سلطة أدبية في العالم الفرانكفوني ليشغل صدارة المشهد الثقافي في لبنان وطنه الأصلي. ومن الطريف أن الأكاديمية الفرنسية كانت قد صبت حمم غضبها على الروائي اللبناني الأصل وصاحب العملين الرائدين "الهويات القاتلة وتقلبات العالم" بعد أن أعلن عام 2007 وفاة الفرانكفونية داعيا لما أسماه بالأدب العالمي. وإذا كان أمين معلوف يطلق من حين لآخر بروقا في سماء الثقافة الفرنسية شأنه في ذلك شأن الطاهر بن جلون فالأمل أن يبرز اسم مبدع مصري الأصل يضيف لبنات جديدة لصرح هذه الثقافة المفعمة تاريخيا بنفحات دفء القرابة الإنسانية والتواصل بين ضفتي البحر المتوسط وجدل التنوير.