باتت الثقافة المضادة للفساد قضية ملحة بعد ان اتفقت القيادة السياسية والشارع المصري معا على ان الفساد يهدد اي مكتسبات لثورة 25 يناير-30 يونيو ناهيك عن كونه المعوق الرئيس للتنمية الشاملة فيما تبدو القضية ذاتها مطروحة على الصعيد العالمي وكأنها "قضية الساعة مصريا وعالميا". واذا كان المستشار عزت خميس المساعد الأول لوزير العدل يؤكد على ان "الفساد بات ظاهرة عالمية " فهاهي الصحافة الأمريكية وفي مقدمتها صحيفة نيويورك تايمز تخصص مساحات كبيرة للتعليق على قضية ادانة محكمة فيدرالية لبوب ماكدونيل الحاكم السابق لولاية فيرجينيا وزوجته مورين في قضية فساد فيما بدا الشعور بالعار واضحا في كل تصرفات هذا الحاكم السابق اثناء جلسة النطق بالحكم امس الأول "الخميس". وهذا الحكم القضائي بالادانة يعني مباشرة نهاية الحياة السياسية للحاكم السابق لفيرجينيا ونجم الحزب الجمهوري الذي كان يطمح في الوصول للبيت الأبيض ورئاسة الولاياتالمتحدة غير ان الحلم تحطم جراء ضعفه امام زوجته التي طلبت من رجل الأعمال جوني ويليامز مساعدتها في نفقاتها الخاصة بحفل تنصيب زوجها كحاكم لولاية فيرجينيا حتى انه اشترى لها فستانا لهذه المناسبة بلغت تكلفته خمسة الاف دولار فيما بلغ مجموع مادفعه لهذا الحفل وبصورة تنتهك القانون 165 الف دولار. بالتأكيد الحياة الخاصة لمن يشغل مناصب عامة تكون عمليا جزءا لايتجزأ من عملية المحاسبة والتقييم وقد يصل الأمر في هذا الاتصال بين الحياة الخاصة والحياة العامة للمسؤول الى محاسبة النظام ككل او وصمه بالفساد وارتكاب جرائم اقتصادية. وفيما اضحت مصر تمتلك "ارادة سياسية قوية لمنع الفساد ومكافحته بجميع صوره واشكاله" كان محمد عمر هيبة رئيس هيئة الرقابة الادارية ورئيس الفرعية التنسيقية لمكافحة الفساد قد اكد في مؤتمر لمكافحة الفساد عقد مؤخرا بحضور مسؤولين من الأممالمتحدة على ان "مصر تبذل جهودا كبيرة للتصدي لمختلف صور الفساد والانحراف" مشددا على ان "القيادة السياسية قدمت كل الدعم لاستقلالية اجهزة الرقابة وانفاذ القانون لمنع الفساد بجميع صوره". واوضح ان اجهزة الرقابة تبذل جهدا كبيرا في مكافحة الفساد بالتعاون مع القضاء المصري "للحفاظ على ثروات ومقدرات الشعب المصري وخلق مناخ يشعر فيه المواطن البسيط بالعدل والمساواة" لافتا الى ان الفساد يشكل العقبة الرئيسية التي "تعوق الجهود الرامية لتحقيق التنمية الشاملة". وواقع الحال ان قضية تطوير ثقافة مضادة للفساد مطروحة عالميا فيما يعكف باحثون على بحث الجوانب المتعددة لهذه القضية . وفي دورية هارفارد للقانون-تناول البروفيسور روبرت باير ظاهرة تعددية انواع الفساد والوانه في سياق اهتمام امريكي واضح بهذه الاشكالية وسبل مواجهتها عبر الرقابة واستحداث لوائح جديدة الى جانب عناية ملحوظة بمسألة التعريفات للفساد ومرادفاته ومظاهره. غير ان اهم مايركز عليه باير وغيره من اساطين القانون في السياق الأمريكي قضية كشف الفساد وسط اتفاق عام على ان الفساد يتخذ اشكالا بالغة التعقيد وقد يتخفى حتى في انبل الصور وبما لايمكن ان تصل اليه يد القانون مهما تعددت اللوائح والانظمة الرقابية. وتتجلى هذه المعضلة في قضايا شهدتها الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول بما فيها مصر حيث يكاد القاضي يجزم بأن المتهم الماثل امامه فاسد غير انه قد يحكم ببراءته للافتقار للأدلة الكافية وهي معضلة يعكف البروفيسور آدم سماحة على محاولة حلها في سياق الثقافة القانونية الأمريكية ومن منظور يقر بأن معضلة كهذه تشكل نقطة ضعف في الفقه القانوني للولايات المتحدة. فالمطلوب ان تظهر وقائع الفساد مجسدة بوضوح في ظاهر الأوراق امام القاضي في قضايا الفساد المتنوعة والتي باتت تشمل مجالات متعددة حقا بما فيها مسألة مثل تمويل الحملات الانتخابية وبما لايبدد ثقة المواطن في العملية السياسية ببلاده. وفي المشهد المصري اثناء النظام الذي اطاحت به ثورة 30 يونيو 2013 استنكر الكاتب والباحث البارز الدكتور وحيد عبد المجيد الاتجاه لفرض ضرائب على اصول او انشطة او ارباح غير مشروعة موضحا ان مثل هذا الاتجاه يضفي مشروعية على مايعتبر نوعا من السرقة. ودعا وحيد عبد المجيد حينئذ لمراجعة ماينص عليه مشروع تعديل قانون الضريبة على الدخل الذي بدأت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الشورى في مناقشته قبل ايام فيما يتعلق بفرض ضريبة على التصرف في الأراضي سواء مشهرة او غير مشهرة. وذهب وحيد عبد المجيد الى ان مشروع القانون بهذه الصيغة يساعد واضعي اليد على اراضي مملوكة للشعب ويتطوع بتقنين سيطرتهم عليها "عندما يساوي بين الأرض المشهرة وتلك التي لم تشهر لعدم وجود مايثبت ملكيتها". واشار عبد المجيد الى ان الأراضي العامة تعرضت لعملية نهب واسعة النطاق في عهد النظام الأسبق الأمر الذي يفرض التصدي لها في بلد ابتكر المفهوم التاريخي للعدالة المعروف بالمسمى الفرعوني "ماعت" فيما يقول المستشار عزت خميس المساعد الأول لوزير العدل ان "مصر اقدم دولة في العالم عرفت خطورة الفساد ووضعت الضوابط لمواجهته". وكانت الروائية والشاعرة والناقدة الكندية مارجريت اتوود قد تبنت هذا المفهوم المصرى القديم كسبيل للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة فى كتاب يعبر عن العلاقة الوثيقة بين الثقافة والاقتصاد والجذور الثقافية للمشاكل الاقتصادية وخاصة اشكالية الديون. وفى كتابها :"تسديد الديون وظلال الثروة والذى وصف بأنه من اهم الكتب التى سبرت اغوار الأزمة المالية العالمية الأخيرة والتى تضرب تداعياتها عدة دول حتى الآن-توغلت مارجريت اتوود التى يتردد اسمها كمرشحة لجائزة نوبل فى الأدب عبر التاريخ واستعارت كلمة "ماعت" من التاريخ الفرعونى كمفهوم يعنى عند الفراعنة او المصريين القدماء العدل والفضيلة والتوازن والصدق كمبادىء حاكمة للطبيعة والكون. وهذا المفهوم المصرى القديم يتسع ليشمل ايضا السبل اللائقة التى ينبغى ان يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض بما فى ذلك التداين اضافة للنظام الاجتماعى السليم والعلاقة بين الأحياء والموتى جنبا الى جنب مع معايير السلوك العادل والصادق والاخلاقى. وتشمل تلاوين كلمة ماعت وظلالها الطريقة التى ينبغى ان تكون عليها الأشياء فيما يعنى عكسها ونقيضها الفساد والفوضى بالمعنى المادى والانانية والافتراء والكذب والممارسات الشريرة على وجه العموم وكل مايجافى ناموس الحق. وهذا المفهوم الواسع حقا يربط بين التوازن فى امور البشر وبين نظام الكون..وكما تقول مارجريت اتوود بحذق فان طريق المفاهيم ليس بطريق الاتجاه الواحد واذا كان الاقتراض او الديون امر ملحوظ عبر التاريخ الانسانى فان البعض قد تطرف فى هذه المسألة فاذا بالانسان المعاصر" كائن مدين بديون ثقيلة وشاملة". وفى نقده للخطاب الاقتصادى السائد يؤكد عالم السياسة الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما وصاحب كتاب نهاية التاريخ على اهمية الدور الذى تلعبه الثقافة فى الاقتصاد سواء على مستوى التنمية الاقتصادية فى الداخل او الدور الذى تنهض به دولة ما فى الاقتصاد العالمى..ويركز فوكوياما على مايمكن تسميته "برصيد الثقة او رأس المال الحضارى" وهو القواعد والقيم الأخلاقية غير المكتوبة التى تتيح لأفراد جماعة ما ان يثقوا فى بعضهم البعض. بل ان فوكوياما يجعل من "رأس المال الحضارى" مقياسا يعيد من خلاله رسم خارطة الاقتصاد العالمى موضحا ان الدول التى تتمتع برصيد كبير من الثقة بمقدورها تأسيس كيانات اقتصادية عملاقة وذات ثقل كبير فى الاقتصاد العالمى. وهكذا توقف فوكوياما عند الالتزام الأخلاقى طويلا باعتباره الطريق لشيوع الثقة بين افراد الجماعة الانسانية وكأن الرجل يتحدث عن مفهوم "الصدق والبر". وفى مقاربة مغايرة للعلاقة بين الثقافة والسياسة والاقتصاد-رأى سمير امين المفكر الاقتصادى المصرى والعالمى البارز والذى اصدر كتابا بعنوان "ثورة مصر" ان ثورة يناير تشكل انطلاقة موجة مد جديدة فى التاريخ المصرى معتبرا ان حركة التاريخ كأمواج المد والجزر مابين ارتفاع المد الوطنى للمطالبة بالاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وموجات الجزر التى تتراجع فيها هذه التوجهات. واعتبر سمير امين ان الثورة الشعبية المصرية لم تكن بعيدة عن ازمة الرأسمالية العالمية وتداعياتها مؤكدا على اهمية صياغة برنامج اقتصادى جديد كبديل لما كان سائدا من فساد واندماج سلبى فى المنظومة العالمية كما ينوه بأهمية انفتاح مصر على التجارب التنموية فى بعض دول اسيا وامريكا اللاتينية فيما خصص فى كتابه حيزا وافيا لدراسة تجارب الدول الصاعدة والبلدان البازغة. وثمة اتفاق عام بين المعنيين بقضايا التنمية والاقتصاد فى مصر على ان النظامين السابقين تجاهلا الاقتصاديين من اصحاب الرؤى الوطنية والنزيهة والمناوئة للفساد ولم يأخذا على مأخذ الجد كتبهم وكتاباتهم حول النهضة الاقتصادية المنشودة وعلى النقيض مما يحدث فى الدول ذات الانظمة الديمقراطية حيث تحظى هذه الكتابات باهتمام كبير من جانب مؤسسات ودوائر صنع القرار. وفي مؤتمر مكافحة الفساد الذي احتضنته مصر بحضور مسؤولين دوليين اوضح المستشار عزت خميس ان "الفساد في العصور السابقة كان شأنا داخليا لكل دولة يتم مكافحته بمقتضى التشريعات الوطنية المحلية" غير انه بظهور العولمة وماصاحبها من تطور تكنولوجي " اصبح شأنا دوليا الأمر الذي دعا الأممالمتحدة الى العمل على ايجاد صك دولي يستهدف تعاون الدول للوقاية من الفساد ومكافحته باعتبار ان ذلك هو السبيل الوحيد لتقويضه". وتبدو عملية تقصى الحقائق جوهرية فى اى نظام ديمقراطى كما تجلى فى الأزمة المالية الأمريكية الأخيرة التى تحولت لأزمة مالية واقتصادية عالمية فيما صدر مؤخرا"التقرير النهائى للجنة الوطنية حول اسباب الأزمة المالية والاقتصادية فى الولاياتالمتحدة" فى صورة كتاب جاء فى 545 صفحة. وشارك فى وضع هذا التقرير الذى جاء فى صورة كتاب هنرى باولسون الوزير السابق للخزانة وبين بيرنيك رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى وتيموثى جيثنر وزير الخزانة حينئذ فيما وصف هذا التقرير فى الصحافة الأمريكية بأنه "اشمل واعمق وثيقة حول اسباب الأزمة المالية الأمريكية". وعلى مدى عامين-عكف اعضاء اللجنة على جمع ومراكمة الأدلة المتعلقة بتورط مئات الأشخاص فى ممارسات غير مسؤولة وغير اخلاقية افضت لواحدة من اسوأ الأزمات المالية فى الولاياتالمتحدة والعالم فيما خلصت اللجنة ببلاغة الى ان ماحدث كان بفعل بشر غير اسوياء ولم تكن الأزمة العاتية لعنة من السماء وانما بفعل فاعل على الأرض وغياب للضوابط اللازمة فى بورصة وول ستريت مع جشع حفنة من المصرفيين. وبناء على هذا التقرير شكلت لجنة جديدة من شخصيات قانونية واقتصادية ومصرفية بارزة باشراف الكونجرس او ممثلى الأمة الأمريكية لتنفيذ وتفعيل التوصيات الواردة فى التقرير ووضع الضوابط وصياغة معايير وقواعد جديدة تحول حدوث ازمة مالية على غرار الأزمة الأخيرة او تعريض الاقتصاد الأمريكى للخطر بعد ان تبين ان العديد من المؤسسات المالية الكبرى فى الولاياتالمتحدة كانت بالفعل عرضة للانهيار فى خريف عام 2008. ولعل جوهر فلسفة هذه التحقيقات المستفيضة فى اسباب الأزمة المالية الأمريكية هو الحفاظ على ثقة الشعب فى النظام ومحاسبة كل من ارتكب اخطاء فى حق الأمة وارساء مبادىء عامة تفتح افاقا للمستقبل فيما بدت "الثقة المفقودة" احد اسباب انهيار نظامي الحكم السابقين فى مصر. ورأى سيون اسيدون عضو مجلس منظمة الشفافية الدولية ان "مصر في ظل النظام الأسبق كانت مختطفة من جانب عصابة ونظام ظل يمارس الفساد الممنهج" على مدى نحو ثلاثة عقود . وقالت السفيرة نميرة نجم الوزير المفوض ومدير ادارة مكافحة الفساد بوزارة الخارجية المصرية "ان هناك تعاونا دائما لاسترداد الأموال المهربة بالخارج" لافتة الى ان "الاستقرار السياسي يعطي دفعة قوية لاسترداد الأموال". هاهي مصر تتحرك بقوة لبناء ثقافة لمكافحة الفساد لأن الفساد يعني وئد الأمل وتقيح الجراح وطقوس الشك وفقدان الثقة وحشرجة الحقيقة..مصر عازمة على تبديد اسراب الظلام والفساد التي تحمحم بين الزوايا كأشباح ليل الخرائب !.