بقدر ما شكلت زيارة المفكر البريطاني الجنسية والباكستاني الأصل طارق علي للقاهرة حدثا ثقافيا مهما، فإن هذه الزيارة تعيد للأذهان أفكار اليسار الجديد والجهود المتواصلة لمواجهة ما يعرف بأزمة اليسار في العالم. ولعل من أهم أفكار "عراب اليسار الجديد" طارق علي الذي اختتم زيارة ثقافية للقاهرة أمس "الأحد"، أن نهاية أي صراع أيديولوجي لا تعني نهاية التاريخ وانما تعني ان الصدارة للثقافة وليس للسياسة او الاقتصاد. وطارق علي يسعى بخماسيته الكبيرة "الإسلام"، والتي تأتي في خمس روايات، لدحض وتفنيد الاتهامات التي تواترت في الغرب زاعمة ان الاسلام ناهض العلم ولم يترك إرثا حضاريا للانسانية. وجاءت زيارة طارق علي للقاهرة اعتبارا من التاسع وحتى الحادي عشر من شهر مايو الجاري بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب "صلاح الدين" الذي يشكل بقالبه الروائي الممتع الجزء الثاني من "خماسية الإسلام" فيما تتجلى في هذا الجزء عن أحد أهم رموز العالم الاسلامي وبطل الكبرياء "قاهرة صلاح الدين" بناسها وشوارعها. وهذا المفكر مبدع متعدد القدرات، فهو كاتب وروائي ومؤرخ ومنتج أفلام كما أنه أحد أبرز منظري "تيار اليسار الجديد"، وكان أحد أعضاء هيئة تحرير المجلة التي أسسها هذا التيار وحملت اسمه عام 1962، فيما وصل لمنصب رئيس تحرير هذه المجلة البريطانية. وطارق علي الذي ولد يوم 21 أكتوبر عام 1943 في لاهور التي باتت عاصمة اقليم البنجاب الباكستاني، له العديد من الكتب الهامة مثل "صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة"، و"بوش في بابل"، كما أنه صاحب رواية "في ظل شجرة الرمان" التي ترجمت أيضا للعربية وشكلت الجزء الأول من "خماسية الإسلام" وتناول فيها مأساة الأندلس. وعرف طارق علي بانتقاداته الموضوعية لسياسات الهيمنة الأمريكية، وبالقدر ذاته فانه مناهض للديكتاتورية في العالم الثالث، ناهيك عن التعصب والتطرف الديني والنزعة الاستهلاكية، وكان عضوا في "محكمة جرائم الحرب" التي شكلها المفكر البريطاني الشهير برتراند راسل في سياق مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام. وفي سياق محاولة للتأصيل يقول المفكر المصري الدكتور مراد وهبة ان اليسار الجديد هو تيار نشأ في خمسينيات القرن العشرين بفرنسا وفي الستينيات ببريطانياوالولاياتالمتحدة، وهو التيار القائد لثورة الطلاب التي هزت فرنسا والعالم عام 1968، فيما كان طارق علي ايامئذ رئيس اتحاد طلاب جامعة اكسفورد وأحد رموز هذه الثورة الطلابية العالمية. اليسار الجديد وإذا كان اليسار الجديد قد بدأ يظهر كتيار في الغرب عقب ثورة الشعب المجري عام 1956 ضد الحكم الديكتاتوري الذي رفع لافتات الشيوعية، فقد أشار الدكتور مراد وهبة الى ان الفيلسوف الأمريكي من اصل الماني هربرت ماركوزه هو الأب الروحي لذلك التيار، فيما جاء كتابه "التحرر" الصادر عام 1969 والذي كان ثمرة كتابات سابقة، متسقا مع الأفكار التي كانت سائدة لدى حركة الطلاب حتى انه أهدى هذا الكتاب لثوار عام 1968. وفيما باتت كلية الاقتصاد اللندنية الشهيرة مركزا لأفكار اليسار الجديد، فإن طارق علي أحد اهم منظري هذا الفكر، اصدر كتابه "صدام الأصوليات" عن أكبر دار نشر يسارية في بريطانيا عام 2002 على وقع مأساة 11 سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدة، بقدر ما جاء هذا الكتاب في اطار مناقض للكتاب الشهير "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكي صمويل هنتجتون. وكان طارق علي أيضا ضمن من اعترضوا وتصدوا لما ذهب اليه المفكر الأمريكي والياباني الأصل فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والانسان الأخير" في عام 1992 أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودخوله في ذمة التاريخ بفكرة محورية فحواها ان الديمقراطية الليبرالية قد انتصرت وكتبت كلمة النهاية للصراع الايديولوجي في العالم، كما أن هذا الانتصار حمل معه نهاية الأصوليات والقوميات. واستشهد طارق علي بتصاعد الأصوليات الدينية على مستوى العالم واختلاف الأديان، فيما اعتبر هذا المفكر الباكستاني الأصل أن "امريكا هي ام الأصوليات لأنها تغذي العناصر اللاعقلانية الكامنة في تلك الأصوليات"، كما رفض رد فعل الادارة الأمريكية على هجمات 11 سبتمبر موضحا أن ادارة بوش شنت ارهابا على العالم الإسلامي "وليس من المقبول مقاومة ارهاب بإرهاب مضاد". فرد الفعل الرسمي الأمريكي، كما شخصه منظر أو عراب اليسار الجديد طارق علي، يفضي لتوسيع دائرة الارهاب وتضييق مساحة الحوار وامكانية الاختلاف وبالتالي انهيار الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بينما يرى المفكر المصري الدكتور مراد وهبة ان "اشكالية طارق علي تكمن في رؤيته المعبرة عن اليسار الجديد في التناقض القائم بين الاستعمار الأمريكي وما تبقى"، والمقصود "بما تبقى" حسب ما يقصده هنتجتون ليس الا "الأصوليين". وبمعادلة فلسفية لا تخلو من تعقيد يقول مراد وهبة :"اذا كانت الاشكالية تعني التناقض، فالتناقض كامن في لفظ استعمار، وأنا اؤثر عليه لفظ استثمار لرفع التناقض على النحو الآتي: بحكم تعريفي للانسان بأنه حيوان مبدع فالتقدم مرهون بتفجير الطاقات الابداعية للانسان والتخلف مرهون بكبت هذه الطاقات". ويضيف الدكتور مراد وهبة: "وبالتالي، فإن المتخلف هو الذي يستدعي المتقدم لأنه عاجز عن استثمار ذاته، فيتوهم ان الآخر المتقدم كفيل بازالة هذا العجز، في حين ان المتقدم لن يكون منشغلا إلا بمزيد من التقدم تاركا وراءه المتخلف". غير ان افكار طارق علي تنطوي على أهمية بالغة في سياق المحاولات المستمرة للخروج مما يوصف بأزمة اليسار في العالم والاستجابة لتحديات ومتغيرات جارفة في سياقات العولمة، و قصةهذا المفكر الباكستاني الأصل مختلفة بالتأكيد عن قصة اللبنانى جورج ابراهيم عبد الله التي تعيد للأذهان نموذج "المثقف الأممى المناضل"، بقدر ما تثير السؤال عما اذا كان هذا النموذج قد انتهى فى ظل ازمة اليسار وصعود الرأسمالية المعولمة. وكان القضاء الفرنسى قرر في مطلع العام الماضي الافراج عن جورج ابراهيم عبد الله، البالغ من العمر حينئذ 61 عاما والمسجون فى فرنسا منذ 28 عاما، شريطة ترحيله من الأراضى الفرنسية، غير ان مانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسي الحالي ووزير الداخلية وقتئذ سعى لعرقلة تنفيذ قرار القضاء فى بلاده ليبقى هذا اليساري اللبناني سجينا حتى الآن. وجورج ابراهيم عبد الله؛ زعيم تنظيم "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" الذى اعتقل فى فرنسا وسجن بعد ادانته باغتيال دبلوماسيين؛ أحدهما اسرائيلى والاخر امريكى، يمثل فى نظر الكثير من اليساريين والشيوعيين فى لبنان والعالم نموذجا للمثقف الأممى المناضل والمرتبط بالقضية الفلسطينية حتى وصف وهو اللبنانى بأنه "مانديلا فلسطين". فهذا الرجل الذى عمل مدرسا وأتقن عدة لغات والمنحدر من "القبيات" فى شمال لبنان، يجسد فى نظر فريق من مثقفى اليسار نموذجا للكفاح المسلح فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بينما كان قد دافع عن نفسه امام قاضيه الفرنسى بقوله: "أنا مناضل ولست مجرما". التجربة الناصرية وفى خضم الاهتمام العربى والعالمى بالجديد فى قصة جورج ابراهيم عبد الله ونموذج "المثقف الأممى المناضل"، فإن ثمة تساؤلات عن مآلات اليسار الثقافى وما إذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لأحزاب وفصائل انتمت لليسار أو كانت قريبة منه مثل حزب البعث ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية لهذه الأحزاب. وربما ينسحب المثال - الى حد ما- على التجربة الناصرية في مصر ومدى الخسارة الفادحة التي لحقت بهذه التجربة، فضلا عن منجزها الثقافى جراء غياب الحريات العامة والانتهاكات الفظة لحقوق الانسان، مع ان التجربة الناصرية ألهمت بالفعل مثقفين ومناضلين حتى في امريكا اللاتينية ومازالت العلاقة بين المناضل تشى جيفارا وجمال عبد الناصر ماثلة فى الأذهان، فيما كان الرئيس الفنزويلى الراحل هوجو تشافيز يصف نفسه بأنه "ناصري". واذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية، فإن لحزب البعث سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين، غير ان اية انجازات اجتماعية من هذا النوع تبددت أو شوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات. ان الامر هنا يتعلق بتحول شامل كان قد طال الساحة الثقافية والأيديولوجية العربية فى مجملها بتأثير واضح من المقاييس الماركسية التي اعادت صياغة القوالب الفكرية العامة، غير أن ما ربحه حزب كحزب البعث فى مراكز الحكم التى انتزعها عنوة، خسره فى الرهان الثقافى، فتحول من حزب للنخب الثقافية إلى مجرد جهاز أيديولوجى للحكم الأحادي القمعي. وأزمة اليسار ذات التجليات الثقافية تمتد فى العالم العربى ما بين المشرق والمغرب وطالت مثلا اليسار المغربى وحزب "الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية"، وسط صيحات عن موت اليسار، مع ان مثقفا يساريا مغربيا كبيرا هو الراحل المهدي بن بركة كان قد سعى لتدارك الثغرات الخطيرة والأخطاء القاتلة فى أداء اليسار المغربى عندمل قدم عام 1962 تقريرا بعنوان "الاختيار الثوري". ومع سقوط الكثير من الأحلام القديمة، فإن الحاجة ماسة لمراجعة ثقافية عميقة وجديدة للمفاهيم الفكرية والسياسية لليسار، بما فى ذلك التيار الناصرى والبعث، على أن تولي هذه المراجعة المزيد من الاهتمام لقضية الديمقراطية والحريات بعد ان تسبب غيابها فى ظل أنظمة الاستبداد والطاعة فى إهدار صدقية الخطاب الثقافى للكثير من تلك الفصائل والأحزاب، فيما تستمر الأزمة العالمية لليسار حتى فى الديمقراطيات الغربية، وهنا تتجلى أهمية افكار طارق علي وطروحاته حول اليسار الجديد. وطارق علي الذي ينتمي أصلا لعائلة من أعرق عائلات البنجاب في باكستان وأكثرها ثراءا، يعيد للأذهان نموذج المفكر اليساري المصري الراحل محمد سيد أحمد الذي كانت عائلته تنتمي لطبقة كبار ملاك الأراضي و"الباشوات" في العصر الملكي. ومثلما لم يرق لعائلة الشاب اليساري محمد سيد أحمد "نزقه الذي دفعه لليسار"، فأرسله والده للدراسة في فرنسا، قامت عائلة الشاب اليساري طارق علي بإرساله للدراسة في بريطانيا، غير أن كلاهما انهمك في ابحار عميق بمنابع الثقافة الغربية والتزود بالمزيد من أفكار وطروحات اليسار. وكانت مجلة "الطليعة" التي صدرت في القاهرة عن مؤسسة "الأهرام" عام 1966 بموافقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تعبيرا عن تجليات اليسار الثقافي، وحملت هذه المجلة، التي كان رئيس تحريرها لطفي الخولي ومن أبرز كتابها محمد سيد أحمد، ارهاصات مبكرة استشعرت نوعا من أزمة قادمة لليسار، بقدر ما أثرت الحياة الفكرية والثقافية المصرية والعربية كلها. ولن يكون من قبيل المبالغة توقع انضمام محمد سيد أحمد، لو طال به العمر، لتيار اليسار الجديد الذي ينتمي له طارق علي وهو التيار المتحرر من جمود الدوجما والتصلب العقائدي، فيما كان هذا المثقف اليساري المصري الكبير الذي قضى عام 2006 قد شرع بعد حرب السادس من اكتوبر عام 1973 في جهود فكرية لاستكشاف طريق عملي يضع حدا للحروب ويفضي للسلام العادل وحق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة رغم تعرضه لانتقادات من بعض الأصوات في الساحة الثقافية-السياسية أيامئذ. وشأنه شأن محمد سيد أحمد، فإن طارق علي هو مفكر يساري مبدع ومتحرر من نمطية التفكير، بقدر ما أدرك مبكرا ضرورة وأهمية التغيير الجوهري في أفكار وممارسات اليسار وأن تكون الاستجابة على مستوى التحدي الذي يحمله العصر بمتغيراته وحتى يتسنى لليسار البقاء في قلب التحولات المستمرة والثورة المعرفية الجديدة. وعلى سبيل المثال، فإن أفكار كارل ماركس منذ قرن ونصف القرن حول تقسيم المجتمع الى طبقات متعارضة، باتت خارج السياق التاريخي الراهن للقرن الواحد والعشرين ومتغيرات الاقتصاد المعرفي وثورة الاتصالات، بما يعني تغييرا جوهريا في فكرة محورية لماركس مثل فكرة "الصراع الطبقي". وهكذا يبرز اسم طارق علي وأهمية افكاره حول اليسار الجديد التي تتجاوز المفاهيم التقليدية لليسار، بقدر ما يمكن ان تسهم في حلحلة ازمته وتكسبه مرونة كقيمة مضافة ومطلوبة وترياق مضاد للجمود العقائدي الذي ألحق أضرارا فادحة باليسار وحال دون اسهامات مطلوبة في مواجهة التوحش الرأسمالي وتغول آليات السوق وثقافة الاستهلاك ومغول العصر. نعم الزمن تغير كثيرا واليسار تراجع كثيرا، فيما لا يجوز للمثقفين الرافضين لثقافة السوق البقاء فى "معازل نخبوية ثورية أو على صفحات الفيسبوك ومواقع الانترنت بعد ان أضناهم الم المسير والمصير، فيما الكثير من الأحلام تتهاوى". صحيح ان نموذج المثقف اليساري في الأيام الخوالي والمناضل القديم لا يخلو من رومانسية وبراءة تتجلى في ما قاله شاعر الغابة والصحراء محمد الفيتورى عن "رجل خارج الزمان.. رجل خارج المكان.. رجل بلا قبر ولا عنوان"، لكن الصحيح أيضا أن ثمة حاجة جوهرية للتعرف على حكمة البسطاء في الشارع وعدم الارتكان لدموع الذكريات، كما ينادي طارق علي.. انه حوار الأضداد الجديد حتى لا يموت المدى ويحذف البحر لونه.. إنها الدنيا التي تدور!