مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    "مياه الفيوم" تنفي شائعة تسرّب الصرف الصحي.. وتؤكد: مياه الشرب آمنة 100%"    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن بداية تعاملات الجمعة 23 مايو 2025    أخبار × 24 ساعة.. حوافز استثمارية غير مسبوقة لتعزيز مناخ الأعمال فى مصر    جامعة دمنهور تشارك فى فعاليات إطلاق برنامج عمل "أفق أوروبا Horizon Europe" لعام 2025    خروجه مجانية.. استمتاع أهالى الدقهلية بالويك إند على الممشى السياحى.. صور وفيديو    بقيمة 19 ألف جنيه.. كنيسة بالسويس تساهم في مشروع صكوك الأضاحي تعبيراً عن الوحدة الوطنية    الضرائب تنفي الشائعات: لا نية لرفع أو فرض ضرائب جديدة.. وسياستنا ثابتة ل5 سنوات    هزة أرضية جديدة تضرب جزيرة «كريت» اليونانية (بؤرة الزلازل)    شيخ الأزهر يُعزِّي المستشار عدلي منصور في وفاة شقيقه    أرقام رافينيا مع برشلونة بعد تمديد عقده حتى 2028    روسيا.. توقف الرحلات الجوية في مطاري فنوكوفو وجوكوفسكي بسبب تفعيل الدفاعات الجوية    وكيله: لامين يامال سيجدد عقده مع برشلونة    دورة هامبورج: روبليف إلى نصف النهائي للمرة الأولى منذ فبراير    عامل يصيب نفسه بطلق ناري بالخطأ بطما في سوهاج    بسبب ماس كهربائي.. حريق محل مصوغات ذهبية في جرجا دون خسائر بشرية    «الطقس× أسبوع».. درجات الحرارة «رايحة جاية» والأرصاد تحذر من الظواهر الجوية المتوقعة بالمحافظات    مصرع ربة منزل في حريق مول شهير بشبرا الخيمة    دينا فؤاد: شغفي بالفن أهم من الحب.. والابتعاد عن التمثيل موت بطيء    دينا فؤاد: مفيش خصوصيات بيني وبين بنتي.. بتدعمني وتفهم في الناس أكتر مني    دينا فؤاد: صحابي كانوا كتار ووقعوا مني في الأزمات.. بالمواقف مش عدد السنين    بعد الإفراج عن عمر زهران .. هالة صدقي توجه رسالة ل مرتضى منصور    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الجولة قبل الأخيرة لدوري المحترفين    الكشف عن موقف تشابي ألونسو من رحيل مودريتش عن ريال مدريد    كرة يد - موعد مباراة الأهلي والزمالك في نهائي كأس الكؤوس الإفريقية    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    صراع ناري بين أبوقير للأسمدة وكهرباء الإسماعيلية على آخر بطاقات الصعود للممتاز    بدون الأهلي «بطل آسيا».. تحديد رباعي السوبر السعودي 2025    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 23 مايو 2025    أمريكا تتهم مرتكب جريمة المتحف اليهودي بالقتل من الدرجة الأولى    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    اللقطات الأولى لحريق منطقة الروبيكي والحماية المدنية تدفع بتعزيزات (فيديو)    مصرع طالب أسفل عجلات قطار الركاب بمحطة كفر الدوار بالبحيرة    بالصور| حريق هائل بمصنع بمنطقة الروبيكي في العاشر من رمضان    مصرع وإصابة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بطريق إدفو مرسى علم    فلسطين.. 4 شهداء وعشرات المفقودين إثر قصف إسرائيلي على منزل في جباليا شمال غزة    بعد غضب الزعيم.. كوريا الشمالية تفتح تحقيقًا بشأن حادث المدمرة    تعليم القاهرة يحصد المراكز الأولى في العروض الرياضية على مستوى الجمهورية    تعليم القاهرة يحصد المركز الأول على مستوى الجمهورية بمسابقة الخطابة والإلقاء الشعري    Spotify تحتفل بإطلاق أحدث ألبومات مروان موسى في مباراة "برشلونة"    تنفيذًا لحكم القضاء.. محمد رمضان يسدد 36 مليون جنيه (تفاصيل)    الشعبة: أقل سيارة كهربائية حاليًا بمليون جنيه (فيديو)    ما حكم ترك طواف الوداع للحائض؟ شوقي علام يجيب    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    ما حكم تغيير النسك لمن نوى التمتع ثم تعذر؟ المفتي السابق يجيب    قباء.. أول مسجد بني في الإسلام    «المفرومة أم القطع».. وهل الفرم يقلل من قيمة الغذائية للحمة ؟    «بربع كيلو فقط».. حضري «سينابون اللحمة» بطريقة الفنادق (المكونات والخطوات)    «لقرمشة مثالية وزيوت أقل».. أيهما الأفضل لقلي الطعام الدقيق أم البقسماط؟    مسلسل حرب الجبالي الحلقة 7، نجاح عملية نقل الكلى من أحمد رزق ل ياسين    "القومي للمرأة" ينظم لقاء رفيع المستوي بعنوان" النساء يستطعن التغيير"    تشميع مركز للأشعة غير مرخص بطهطا بسوهاج    «المصريين»: مشروع تعديل قانون الانتخابات يراعى العدالة فى التمثيل    هل التدخين حرام شرعًا ؟| أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة ونظيره السوداني تبحثان في جنيف تعزيز التعاون الصحي ومكافحة الملاريا وتدريب الكوادر    جدول مواعيد الصلوات الخمسة في محافظات مصر غداً الجمعة 23 مايو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة اليسار بين أزمة مسلسل تلفزيوني وأزمة الواقع !
نشر في محيط يوم 20 - 07 - 2015

أثار المسلسل التلفزيوني "استاذ ورئيس قسم" الذي عرض في شهر رمضان الفضيل جدلا ثقافيا وانتقادات لمؤلف المسلسل يوسف معاطي الذي عرض شخصية أستاذ جامعي يساري التوجه في صورة شخص انتهازي، فيما يأتي هذا الجدل وسط تساؤلات ترددت في صحف ووسائل إعلام حول ثقافة اليسار ومآلات هذا الفكر على مستوى العالم ، وطالت الانتقادات أداء النجم الكبير عادل امام أو "الدكتور فوزي جمعة في مسلسل " أستاذ ورئيس قسم".
وأعاد الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة للأذهان أن في اليسار المصري شخصيات ورموز كثيرة جديرة بكل التقدير والاحترام ، مضيفا أنه لا يجد مبررا "للضجة الإعلامية التي اثارها بعض الحواريين في مواكب اليسار ضد الفنان الكبير عادل امام في مسلسله الأخير استاذ ورئيس قسم"، بحسب وكالة أنباء "الشرق الأوسط".
وقال جويدة في جريدة الأهرام :"إن معظم أعمال عادل امام محسوبة على فكر وثوابت اليسار فهو الفنان الذي تبنى دائما قضايا الفئات المهمشة" ، فيما تابع ليلاحظ أن "هذا النموذج الانتهازي الثوري اليساري الرأسمالي المتقلب موجود بيننا ونحن نعرف الكثير من هذه الوجوه التي لعبت على كل الحبال".
واعتبر أن "أخطاء اليسار المصري في حياتنا السياسية والثقافية قضايا تحتاج إلى حوار موضوعي مع النفس اولا ومع المجتمع ثانيا ومع الحقيقة قبل اي شيء" ، فيما رأى أنه في " أحيان كثيرة اليسار وما يزال لا يرى في الساحة المصرية والعربية أحدا غير رموزه وأقلامه ومفكريه وشطب من أجندة الحياة المصرية كل من خالفه الرأي ، وكان مسلسل عادل إمام آخر الضحايا رغم انه ذكر شيئا من الحقيقة ولم يذكر الحقيقة كلها".
وبات اليسار الذي يحكم اليونان حاليا "تحت المجهر في ضوء الأزمة الناجمة عن الديون اليونانية والعلاقات المضطربة بين اثينا والاتحاد الأوروبي والمعاناة الاقتصادية لشرائح متعددة وفئات واسعة في المجتمع اليوناني" .
وبصرف النظر عن مآلات هذه الأزمة واتجاهاتها يذهب الدكتور ابراهيم عوض استاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية في القاهرة الى أن "رياح الاحتجاج الجدي هبت من اليونان على التنظيم الاقتصادي لأوروبا" آملا ان تسهم هذه الرياح الاحتجاجية اليسارية الطابع الى حد كبير في اليونان وغيرها في "إعادة هيكلة النظام الدولي بما يوجد فرصا لتحقيق العدالة والسلم والتقدم في العالم".
كما رأى المفكر اليساري المصري الدكتور سمير أمين أن "الشعب اليوناني يضرب المثل لأوروبا في رفض ديكتاتورية رأس المال الدولية والأوروبية بشجاعة واضحة" مضيفا ان اليونانيين قد فهموا أن "النظام الرأسمالي الليبرالي هو أساس مأساتهم" ودعا القوى اليسارية لاستعادة المبادرة.
غير أن خبيرة اقتصادية مصرية هي الدكتورة سلوى العنتري رئيس اللجنة الاقتصادية بالحزب الاشتراكي المصري رأت أن نتائج مفاوضات اليونان مع حكومات الدول الدائنة الأوروبية جاءت "مخيبة لآمال العديد من شعوب العالم التي كانت تتطلع الى نموذج تتمكن فيه إحدى الدول التي وقعت في فخ المديونية الخارجية من إيجاد منفذ يمكنها من استعادة القدرة على النمو والعيش بكرامة وسداد ما عليها من ديون".
وإذا كان من المتصور والطبيعي ان تؤثر مسارات الأزمة اليونانية على وضعية اليسار الحاكم في هذا البلد فقد اعتبرت سلوى العنتري أن "الحكومة اليونانية فشلت لأنها تخوض المعركة مع رأس المال الدولي وحدها دون سند يوفر لها مصدرا بديلا للتمويل او للدعم السياسي والشعبي".
ورغم أن اليسار يبدو في حالة أزمة في كثير من بقاع العالم فان المشهد في أمريكا الجنوبية تحديدا يوحي بأن المنتمين لليسار يحققون مكاسب سياسية منذ أكثر من عقد رغم تحديات شرسة من جانب اليمين المدعوم برأس المال المعولم.
وبكلمات تعبر عن شعور بأزمة اليسار قال الكاتب خليل كلفت :"يحلم كل حزب من الأحزاب اليسارية التي تكونت بعد ثورة يناير بالتحول الى حزب كبير وقوي وفعال ومؤثر في قضية التغيير الاجتماعي والسياسي غير ان كل حزب منها يعاني صعوبة وربما استحالة في احداث هذا التحول".
وفيما يشير الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى الى ان وجود اليسار كان متواضعا من حيث التأثير في الساحة السياسية المصرية سواء قبل ثورة يناير او بعدها معتبرا أن اليسار مدعو الآن للمشاركة تحت مظلة جامعة للتيارات السياسية المدنية لإعادة صياغة "جدول أعمال وطني قومي تقدمي حقيقي" فان هذا الكاتب وأستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية بمعهد التخطيط القومي في القاهرة يوضح أن الهدف المرحلي لهذه المظلة "لشل حركة تيار العنف الدموي وعزله سياسيا وشعبيا".
وقال المهندس احمد بهاء شعبان الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري إن "واجب الأحزاب المدنية جميعا بذل قصارى جهدها للخروج بنتائج إيجابية في الانتخابات البرلمانية القادمة وان تقف بقوة في مواجهة اي دعاوى تهدف لمقاطعة الانتخابات لأن هذا امر يصب بشكل مباشر في خدمة أعداء الوطن والقوى الإرهابية التي تروج لهذه الأفكار المخربة لمصالح الوطن".
ولئن ترددت أصداء أزمة اليسار هنا وهناك في مناطق عديدة ففي المقابل فان هناك من يرى ان اليمين الرأسمالي بدوره يعاني من ازمة حتى أن الكاتب المصري سمير مرقس ذهب الى أن "الرأسمالية تعيش مرحلة النهاية" بعد أن باتت "الرأسمالية الجامحة عصية على التصحيح لأن من يحركها يرفض تماما الأخذ بأي حلول تمكنها من تجديد نفسها".
ونقل سمير مرقس عن المفكر البريطاني الأصل ديفيد هارفي استاذ علم الإنسان بمركز الدراسات العليا في جامعة نيويورك واحد اهم الجغرافيين في العالم قوله إن " قدرة المحرك الاقتصادي للرأسمالية لن تستطيع الاستمرار في وظيفتها ومن ثم تعريض الانسانية للخطر"معيدا للأذهان ان رأسمالية الماضي كانت بالرغم من اي انتقادات ذات طابع انتاجي تبتكر وتنتج بينما رأسمالية الليبرالية الجديدة تقوم على صناعة المال "مما جعل العالم سوقا تعلو الدولة".
و كان المفكر اليساري المصري الراحل الدكتور فؤاد مرسي قد لاحظ أن "الرأسمالية تجدد نفسها" فيما تصدى مايكل كازين في كتابه الجديد :"أمريكيون حالمون..كيف غير اليسار الأمة ؟" لاسئلة هامة في هذا السياق.
ويقول مايكل كازين استاذ التاريخ بجامعة جورج تاون الأمريكية ان الراديكاليين الأمريكيين بذلوا جهدا كبيرا لتغيير ما يسميه "بالثقافة المعنوية للأمة الأمريكية اكثر من تغيير سياساتها" ، وثمة إشارات تؤكد على أن النخب او المؤسسة الحاكمة فى أمريكا شنت نوعا من الحرب الثقافية الاستباقية على اليسار وتطويع أفكاره لخدمة المؤسسة ذاتها فيما استمر اليسار على الهامش السياسى.
وهذا ما اسماه المؤرخ الكبير هوارد زن "بسردية المظلومية الكاملة" حيث اليسار الثقافى يبدع الأفكار ويقترح الإصلاحات المجتمعية فيما النخبة الحاكمة تعمد للتحايل وتستغل هذه الأفكار والمقترحات لتعزيز سلطتها.
وفي مواجهة هذه المظلومية تعيد قصة اللبنانى جورج ابراهيم عبد الله للأذهان نموذج "المثقف الأممى المناضل" وهو السجين في فرنسا منذ عام 1984 بطلب امريكي بقدر ما تثير السؤال عما اذا كان هذا النموذج قد انتهى فى ظل أزمة اليسار وصعود الرأسمالية المعولمة .
وبصرف النظر التقديرات والرؤى الشخصية التى قد تختلف وتتباين فهذا النموذج يتعلق برجال امنوا بعدالة قضاياهم ولم يساوموا عليها حتى امام الموت واهوال التعذيب والسجون والمنافى حتى تحولوا لدى المعجبين بهم الى أساطير تجسد مدى جاذبية نموذج المثقف الأممى المناضل.
وجورج ابراهيم عبد الله زعيم تنظيم "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" الذى اعتقل فى فرنسا وسجن بعد إدانته باغتيال دبلوماسيين احدهما اسرائيلى والاخر امريكى يمثل فى نظر الكثير من اليساريين والشيوعيين فى لبنان نموذجا للمثقف الأممى المناضل والمرتبط بالقضية الفلسطينية حتى وصف وهو اللبنانى بأنه "مانديلا فلسطين".
ومن نافلة القول أن نموذج المثقف الأممى المناضل ازدهر فى ستينيات القرن العشرين مع حالة العنفوان الثورى فى العالم حينئذ والعلامات الأساسية فى تلك الحالة سواء النضال الأممى لجيفارا بين امريكا اللاتينية وافريقيا و ثورة الطلاب فى فرنسا عام 1968 فضلا عن المقاومة الفلسطينية التى مضت بزخمها الثورى حتى العقد التالى وصنعت ظواهر عالمية ارتبطت بالقضية الفلسطينية مثل اليابانى كوزو اوكاموتو والفنزويلى كارلوس الذى يخلع عليه أنصاره صفة الثائر العالمى والذى ارتبط بصداقة وثيقة مع جورج ابراهيم عبدالله.
وهذا الرجل البالغ من العمر نحو 63 عاما و الذى عمل مدرسا واتقن عدة لغات والمنحدر من "القبيات" فى شمال لبنان يجسد فى نظر فريق من مثقفى اليسار نموذجا للكفاح المسلح فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بينما كان قد دافع عن نفسه امام قاضيه الفرنسى بقوله :"انا مناضل ولست مجرما".
منذ سن الخامسة عشرة نشط جورج عبد الله فى صفوف "الحزب القومى السورى الاجتماعى" كما ارتبط بالحزب الشيوعى وأصيب خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978 فيما ارتبط بعلاقة وثيقة مع وديع حداد احد ابرز قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التى تزعمها الدكتور جورج حبش وكان على تماس أحيانا مع حزب البعث وأفكار حركة القوميين العرب.
ورغم إعجاب الكثير من المنتمين لليسار بقصة جورج ابراهيم عبد الله ونموذج "المثقف الأممى المناضل" فان ثمة تساؤلات عن مآلات اليسار الثقافى وما اذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لأحزاب وفصائل انتمت لليسار او كانت قريبة منه مثل حزب البعث ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية لهذه الأحزاب وخاصة حزب البعث.
ومن المنظور التاريخى فإن حزب البعث لم يولد فى أاحضان السلطة وانما كان تعبيرا عن مشروع فكرى بلوره كاتب متفلسف واسع الثقافة هو المفكر السورى ميشيل عفلق الذى استمد أطروحاته الأساسية - كما أوضح الكاتب والباحث الموريتانى السيد ولد اباه - من النزعات الحيوية الأوروبية وفى مقدمتها أطروحات هردر وفيختة وفلسفة برجسون التى اتقنها أيام إقامته فى فرنسا .
وتعبر الكتابات الأولى لميشيل عفلق التى تضمنها عمله الرئيسى "فى سبيل البعث" عن هذه الاتجاهات النظرية الثرية التى كانت تؤهله لأن يكون احد ابرز الوجوه الفلسفية العربية لا العقل المفكر لاحدى اكثر التجارب العربية ايغالا فى القمع والاستبداد.
ومع ذلك فمن الصعب تحديد علاقة ميشيل عفلق بالأنظمة السياسية التى استندت لمشروعه فالمعروف ان الرجل لم يتبوأ الا قليلا وظائف رسمية كما انه قضى سنوات عديدة فى المنفى.
ويذهب السيد ولد اباه الى أن حزب البعث أدى دورا هاما فى الحياة الثقافية العربية وكان بالفعل اكثر تلوينات الأيديولوجية رصانة وعمقا ومن بين ابرز كتابه ومفكريه للتنكيل والقمع فى عهد الرئيس العراقى الراحل صدام حسين وهو ما تحدث عنه حسن العلوى فى كتابه "وفيات الأعيان".
ولحزب البعث مفاهيمه وقيمه الأساسية من الفلسفات الإنسانية الحديثة غير ان خط هذا الحزب فى سوريا تحول بعد تحالفه مع التيار الاشتراكي بقيادة اكرم الحورانى عام 1950 من نفسه الفلسفى وغنائيته الرومانسية الى الشعارات الثورية الراديكالية كما تبنى مسلك التحالف مع الجيش كأداة للتغيير السريع بدل الرهان على الديناميكية التاريخية الطويلة وتغيير الوعى.
وربما ينسحب المثال الى حد ما على التجربة الناصرية فى مصر ومدى الخسارة الفادحة التى لحقت بهذه التجربة فضلا عن منجزها الثقافى جراء غياب الحريات العامة والانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان مع أن التجربة الناصرية الهمت بالفعل مثقفين ومناضلين حتى فى امريكا اللاتينية وما زالت العلاقة بين تشى جيفارا وجمال عبد الناصر ماثلة فى الأذهان فيما كان الرئيس الفنزويلى هوجو تشافيز يصف نفسه بأنه "ناصرى".
واذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية فان لحزب البعث سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين غير أن اية إنجازات اجتماعية من هذا النوع تبددت او شوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات.
إن الأمر هنا يتعلق بتحول شامل كان قد طال الساحة الثقافية والأيديولوجية العربية فى مجملها بتأثير واضح من المقاييس الماركسية التى أعادت صياغة القوالب الفكرية العامة فيما خلص السيد ولد اباه الى ان ماربحه حزب البعث فى مراكز الحكم التى انتزعها عنوة خسره فى الرهان الثقافى فتحول من حزب للنخب الثقافية الى مجرد جهاز ايديولوجى للحكم الأحادى القمعى .
ولعل أحد ضحايا هذا النموذج هو القاص والروائى العراقى فهد الأسدى الذى رحل فى صمت يوم السابع من شهر يناير عام 2013 فيما تأثر بالواقعية الاشتراكية وكتب عن المهمشين والمسحوقين وابدع فى تصوير بيئته بمنطقة الأهوار جنوب العراق واحترق بالسياسة والصراعات الأيديولوجية مثل الكثير من كتاب جيل الستينيات.
وبقدر ماتأثر فهد الأسدى بجوركى وموقفه التقدمى من الإنسان والحياة بقدر ما تأثر ايضا بأدب تشيخوف وموباسان فى تشكيل مشهد قصصى واقعى غائر العمق فضلا عن جوجول حين تصل الواقعية الى حدود الفانتازيا.
وبموت صاحب "طيور السماء" و"معمرة على" فقد المشهد الابداعى العراقى احد كتابه الكبار بعد ان قضى سنواته الأخيرة حبيس منزله فى منطقة "بغداد الجديدة" يجتر الذكريات وقد هده المرض واليأس والعجز وسقوط الأحلام القديمة.
وأزمة اليسار ذات التجليات الثقافية تمتد فى العالم العربى مابين المشرق والمغرب وطالت مثلا اليسار المغربى وحزب "الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية" وسط صيحات عن موت اليسار مع أن مثقفا يساريا مغربيا كبيرا هو الراحل المهدى بن بركة كان قد سعى لتدارك الثغرات الخطيرة والأخطاء القاتلة فى أداء اليسار المغربى عندما قدم عام 1962 تقريرا بعنوان "الاختيار الثورى".
ومع سقوط الكثير من الأحلام القديمة فان الحاجة ماسة لمراجعة ثقافية عميقة وجديدة للمفاهيم الفكرية والسياسية لليسار بما فى ذلك التيار الناصرى والبعث على أن تولى هذه المراجعة المزيد من الاهتمام لقضية الديمقراطية والحريات بعد أن تسبب غيابها فى ظل أنظمة الاستبداد والطاعة فى إهدار صدقية الخطاب الثقافى للكثير من تلك الفصائل والأحزاب فيما تستمر الأزمة العالمية لليسار حتى فى الديمقراطيات الغربية.
وهاهو الحزب الشيوعى الفرنسى الذى كان فى الماضى ملء السمع والبصر يكاد يتحول الى ذكرى مضت بعد أن تراجعت شعبيته خلال السنوات الأخيرة.
فهل بات هذا الحزب الذى أثرى من قبل الحياة السياسية والثقافية الفرنسية والأوروبية مجرد متحف يحوى ذكريات قد تثير الشجن لكنها لا تؤثر فى مجريات الشارع وزخم اللحظة؟ وهل باتت الأيديولوجيات هى سجن المثقف الحر والكاتب المناضل من اجل الحق والعدل وهل تحولت افكار اليسار الثقافى الى مجرد لقاح ينشط مناعة اليمين الرأسمالى وابتكاراته للبقاء والهيمنة؟!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.