رحل الصوت الذي كان يوقظ القلوب كان خبر رحيل فضيلة العالم الجليل الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، وأحد أبرز علماء الدعوة والفكر الإسلامي في العصر الحديث، صامتًا لكنه موجع، كأنه سقط على القلوب ببطءٍ يشبه الدهشة، رحل الذي صار جزءًا من ذاكرة الوعي الديني في مصر والعالم العربي، العالم الذي لم يكن يكتفي أن يعلم الناس، بل كان يوقظ فيهم الحنين إلى الطهر الأول، إلى البساطة التي يجتمع فيها الإيمان بالرحمة، والعلم بالسكينة. وُلد أحمد عمر هاشم في بيئة ريفية طيبة بالشرقية، وتفتح قلبه في رحاب القرآن والأزهر. ومنذ بداياته الأولى، كان واضحًا أنه ليس عالمًا تقليديًا، بل صاحب روحٍ تبحث عن المعنى قبل الحكم، وعن الجوهر قبل المظهر. تدرج في العلم حتى صار أستاذًا ورئيسًا لجامعة الأزهر، لكنه ظل على حاله: وجهًا بشوشًا، ولسانًا رطبًا بالذكر، وقلبًا يفيض بالرحمة. لم تسرقه الألقاب، ولم تبدله المناصب كان يعرف أن ما يُخلّد الإنسان ليس الكرسي الذي يجلس عليه، بل الأثر الذي يتركه حين ينهض. عاش الدكتور أحمد عمر هاشم عمره مع الحديث الشريف، يعلمه، ويدافع عنه، ويذيع نوره في الناس، كان إذا تحدّث عن النبي أضاء وجهه نورًا خاصًا، كأن روحه تشتعل بمحبة لا تنتهي. كان يروي الحديث وكأنه يسمعه للتو، يشرحه بعمقٍ لا يصدر عن عقلٍ فحسب، بل عن قلبٍ تشرب النور، ولم يكن في دروسه صخب ولا تكلف؛ كان صوته ناعمًا كالدعاء، عميقًا كالسيرة، صادقًا كمن يتحدث من مكانٍ يعرف فيه الله حق المعرفة. كان يقول دائمًا: "السنة ليست نصوصًا تحفظ، بل حياة تعاش."وهكذا عاشها هو بكل تواضع العارفين، وبكل خشوع المحبين. الأزهر عنده لم يكن مؤسسة فحسب، بل رسالة ممتدة من قلب التاريخ، رسالة تقوم على العدل، وعلى احترام العقل، وعلى محبة الإنسان. ومن هذا الإيمان بالأزهر جاءت مكانته بين الناس، كانوا يرونه صورة العالم كما يحبون أن يكون، قريبًا، بسيطًا، متواضعًا، لا يقصي أحدًا، ولا يتعالى بعلمه على أحد، حين كان يتحدث، كنت تشعر أن الكلمات تغتسل قبله من الغرض والرياء، وإذا دعا إلى الله، لم يكن يلوح بالعقاب، بل يفتح باب الرجاء، كان يرى في الدين جمالًا، وفي الإنسان فرصة دائمة للتوبة والنور. تولى رئاسة جامعة الأزهر، لكن المنصب لم يبدل طبيعته، بل أضاف إليها بريقًا من المسؤولية، كان يدخل قاعات الدرس بلا حرسٍ ولا رهبة، ويجلس بين الطلاب كواحد منهم، يستمع، ويبتسم، ويعلّمهم قبل أن يملي عليهم. كان يعرف أن التعليم في الأزهر ليس تلقينًا، بل تربية على الوقار، وصناعة إنسان يعرف الله قبل أن يجادل في دينه. وفي زمن امتلأ بالصوت العالي والجدل العقيم، كان أحمد عمر هاشم يتحدث كأن الزمن حوله يهدأ ليستمع، ظهر على الشاشات والإذاعات لعقود، ولم يتغير أدبه ولا نبرته، كان حضوره يذكرنا بعلماء الأزهر القدامى، أولئك الذين كان حديثهم يسكب الطمأنينة في النفوس، لا يتحدث عن الدين كخصومة، بل كدعوة للحب، وكطريق إلى الله بالرفق والعقل. كان حين يرفع يده في ختام حديثه ليقول: "اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، تشعر أن الدعاء صادق، وأن الكلمات صادرة من قلبٍ عبر الدنيا إلى ما بعدها. لم يكن مجرد عالمٍ من علماء الأزهر، بل رمزًا روحيًا تعلق به الناس، خصوصًا البسطاء الذين وجدوا فيه صدق العالم الذي لا يتكلف، ولا يتعالى، كان حضوره جزءًا من ذاكرة الجمع الطيب في البيوت المصرية؛ يطل كل جمعة بصوته الدافئ، فيستعيد الناس معه معنى الطمأنينة، حتى الذين اختلفوا معه فكريًا، لم يملكوا إلا أن يجلوا إخلاصه وسموه. لقد عاش وفي قلبه إيمان بأن العلم بلا خلقٍ فتنة، والدعوة بلا رحمةٍ قسوة، والسياسة بلا ضميرٍ خطر على الأمة. برحيله، يغيب واحد من آخر أولئك العلماء الذين كانوا يوازنون بين العلم والوجدان. رحل الرجل الذي إذا ذكر اسم النبي، خشع صوته وارتعش قلب السامعين. رحل العالم الذي لم يخاصم أحدًا، ولم ينافق أحدًا، ولم يطلب إلا وجه الله. سيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة الأزهر وفي ضمير الأمة، كأحد الوجوه المضيئة التي علمتنا أن العلم عبادة، وأن المحبة عبادة، وأن الكلمة الطيبة عبادة. كل رحيلٍ لعالمٍ صادق، هو نقص في ضوء الدنيا وزيادة في نور الآخرة. فالعلماء لا يموتون تمامًا، إنهم يرحلون بالجسد، ويتركون خلفهم ظلالًا من النور تمشي بين الناس. نفتقد صوت الدكتور أحمد عمر هاشم اليوم، لكننا نسمعه في كل من يروي حديثًا عن النبي بخشوع، وفي كل من يدعو إلى الله بالحكمة والرفق، وفي كل من يرى في الدين حبًا لا خصومة. إن موت العلماء ليس فقدانًا للأسماء، بل امتحانٌ للضمير الجمعي، لقد رحل العالم، لكن الرسالة لم ترحل. وفي بقاء أثره، نعرف أن بعض الأرواح لا تفنى، لأنها كانت من أولئك الذين أحوا الله بصدق، فأحبهم الله فخلدهم في قلوب الناس.