أنا وحليم: لم أر قلبي أمارًا بالكره، كما ألفيته آنذاك في صباي، منشغلًا عمن أحب بكره عبد الحليم حافظ. هكذا، كره أصابني فأعمى حواسي، حتى تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعه، فأخلو بقلب "فتحية "، ويخلو قلبها لي. وكأنني في المهد ًْوصبيًا كلمتها بحبي، وكلمتني بحبها، حتى اتسعت شهوة حواسنا بنا، فصار يعلمني جسدها الأنثوي ما أدركت به أسماء ذكورة أعضائي كلها. ورأيت في مرايا أصلابي تفقه هدهدي بنبوءة الشهوة في ماء بئرها العميق. لكنها كانت تذهب إليه كلما سمعته أو رأته وكأن جنبًا ساطها بعصاه فسحبها من عقلها إليه. كانت حواس جسدها كله تتأمل صوته إذ يغني في المذياع، وتصدق حركاته، على التلفاز، إذ يرسم بأصابعه لغة حب أخرى جديدة على العشاق، أو يكتب بإغماضة عينيه حلمًا من موسيقا ترتج لها قلوب المحبين، أو ينثر هواء طازجًا يتنفسه العارفون بالوجد كلما تناثر شعره خلف إيماءات نوتة يتجلى بها صوته المحمول، كما بدا لي، على أجنحة آلهة الحب الإغريقي. لم يشفع لي عندها حبها، ولم تنفع بها حيلتي وحذاقة مكري به. وصفته بما لا يوصف به، ولم تصدق. قلت:عيناه غائرتان في جوف رأسه، وجاحظتان كعيني حردون مسخه الله، لكنها ظلت تعلق عينيها في صوره التي ملأت غرفتها، ومزقتها بتواطئ من أمها وأمي اللتين وهبتانا، ربما من المهد، كل للآخر. وبكت كثيرًا، حين مزقت قلادتها وقد حملت صورته فتدلت بين نهديها كأيقونة مقدسة. وصرت أطوف شوارع دمشق كل يوم لأحظى بمجلة تتقول عليه الكذب عن نساء تزوج أو أحب أو كسر قلوبهن، لكنها كانت تنشج، بما يفتت القلب، حين كانت تقرا عن مرضه، وكدت أكره نفسي إذ بكيت معها، من حرقتها عليه، مشفقًا.وأدركت أنها تحبني إذ رمت يجسدها على، وبكينا في العناق وقوفًا. حتى رأيت ما رأيت منه. أقسمت على أبي، محمود عيسى الذي كان مأخوذا ً بالمطربة سميرة توفيق، وكان على علم بما هو بيني وبين عبد الحليم حافظ، أن يقتطع مصروفي كله ولو لسبع سنين عجاف، ويعطيني سعر تذكرة دخول حفلة حليم في معرض دمشق ربيع عام 1976. فرجا الرجل خالي، الأستاذ فوزي الحسن الذي كان منشغلًا بفيروز عمن سواها لدرجة كان يرفع صوتها كل صباح ويقول لي: عل صوت الراديو أكثر، خل أهل المخيم يصيروا بني آدميين "، أن يذهب معي إلى الشام، فالحفلة في الليل. وكأن أرض المعرض في يوم حشر. ناس من أجناس مختلفة وألسنة متعددة. بالعباءات، والحطات والعقل - جمع عقال بضم العين وتسكين الكاف - وبذلات ملونة وربطات عنق زاهية. فيما النسوة بكامل غوايات أنوثتهن يتراطمن بأجساد سواهن ليأخذن مكانهن في طوابير الدخول أو شراء التذاكر. وضجرت مما خالي فيه، وهو يكلمني أن الملائكة لن تجد تذكرة، فكلها مباعة. وتركته وحده ينتظر معجزة الوصول إلى شباك التذاكر. لم أكن منشغلًا، وأنا أرتطم بعجينزة بضة أو خصر مفتوح على شبق مكنون، عما أنا فيه، حتى ارتطم بي قدري بجسد غازية اليونس، أو المغنية عبلة كما لقبت نفسها، وكانت هربت من المخيم لتمتهن الغناء بعد أن ذبل أملها في حب خالي غازي الأكبر من فوزي بسنتين، وارتعدت إذ رأتني، فأدخلتني معها مدخل صدق، بعد أن حلفتني بحياة أمي ألا أكلم بأمرها إنسيا. هذا هو عبد الحليم حافظ إذن.يا إلهي ! ما أن خرج على الناس حتى وصلت نبضات قلوبهم إلى الحناجر، ومع كل كلمة يخلقها بصوته من جديد تتحايل الأنفاس على ذاتها بالحب. حب من نوع آخر، تمامًا كهذه الكلمات التي يغنيها، لكنها ليست الكلمات التي نقولها أو نقرأها في ديوان نزار قباني. يا الله ! أكل هذا الحب الذي تملكني، وأنا أتأمل صوته وأصدق حركاته، أنا الجالس في الصف الثاني شأني ككل الناس هنا لا أحس بوجود أحد من حولي كما لا يحس بوجودي أحد، هو من صنع يديه. وكأن الأرواح ذهبت إليه زلفى تسلم عليه، وكأني بيمناي لمسته، فخرجت مشيًا في الليلة النيسانية تلك من المعرض وسط دمشق إلى مخيم ببيلا المرمى على خاصرتها الشرقية، حتى مطلع الفجر وأنا أردد: قالت: يا ولدي لا تحزن، فالحب عليك هو المكتوب. يا ولدي قد مات شهيدا ً من مات على فداء للمحبوب. كان أهل المخيم ينتظرون عودتي، أنا التائه بينهم. ولم أسلم على أحد. لكني انتبذت بفتحية مكانًا قصيا ً. قلت: والله،رأيته بعيني هاتين، ولمسته بيمناي هذه ؟ قالت: من ؟ قلت: حليم ؟ قالت: يا الله، راح يجننك حليم، والله أنا أحبك. يا مجنون، كلنا خفنا عليك،الله لا يقدر.. أخذتني العبرة، أنا الأواه في حبها آنذاك، الدماع - بتشديد الميم أي قريب الدمع كثيره -، وارتعش صوتها رحمة بما هو بي منه: والله، أمسحه من ذاكرتي من أجلك. ومضيت بعد أن قلت لها: حليم علمني أن أحبك أكثر. ولم أكره أحدا بعد هذا الحب كله..