وليد عبدالعزيز يكتب: المناطق الصناعية والمستقبل    أكبر جسر للمساعدات ومؤتمر دعم غير مسبوق.. القاهرة تُعمِّر غزة    مدفعية الاحتلال تقصف بلدة بني سهيلا وحي الشجاعية    حريق ضخم يلتهم مخزن أخشاب بجوار المعهد العالي للعلوم الإدارية في الشرقية    جمهور الموسيقى العربية 33 فى دنيا الحجار وأصوات نجوم الأوبرا تتوهج بالحب والطرب    انخفاض كبير في عيار 21 الآن بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الخميس بالصاغة    "مياه الفيوم" زيارات ميدانية لطلاب المدارس لمحطات تنقية مياه الشرب.. صور    رئيس الوزراء: رفع أسعار البنزين لا يبرر زيادة أسعار السلع    ختام فعاليات الدورة التثقيفية للدراسات الاستراتيجية والأمن القومي بمكتبة مصر العامة بالمنصورة.. صور    رسميًا إعارات المعلمين 2025.. خطوات التقديم والمستندات المطلوبة من وزارة التعليم    رئيس الوزراء البريطاني: يسعدني انضمام أمريكا إلينا بفرض عقوبات كبيرة على شركتى النفط الروسيتين    سان دييجو أو اتحاد جدة أو الهلال.. من الأقرب لضم محمد صلاح حال رحيله عن ليفربول؟    ترامب يدعو مربي الماشية إلى خفض الأسعار ويؤكد استفادتهم من الرسوم الجمركية    مسئول كبير بالأمم المتحدة: سوء التغذية فى غزة ستمتد آثاره لأجيال قادمة    كوريا الشمالية تعلن نجاح اختبار منظومة أسلحة فرط صوتية جديدة لتعزيز قدراتها الدفاعية    كاد يشعلها، إعلامي إنجليزي شهير يحذف منشورا مثيرا عن محمد صلاح، ماذا قال؟    محمد صلاح يثير الجدل بعد حذف صورته بقميص ليفربول    ليفربول يفك عقدته بخماسية في شباك آينتراخت فرانكفورت بدوري الأبطال    على أبو جريشة: إدارات الإسماعيلى تعمل لمصالحها.. والنادى يدفع الثمن    العاصي يكشف رد فعل جنش بعد هدف الاتحاد فى الأهلى وسر تنبؤ ياس توروب بطرد كوكا.. فيديو    البابا تواضروس: مؤتمر مجلس الكنائس العالمي لا يستهدف وحدة الكنائس بل تعزيز المحبة بينها    شبورة كثيفة وتحذير شديد من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم.. وحقيقة تعرض مصر ل شتاء «قارس» 2025-2026    «التعليم» تكشف مواصفات امتحان اللغة العربية الشهري للمرحلة الابتدائية.. نظام تقييم متكامل    نفذها لوحده.. كاميرات المراقبة تكشف تفاصيل جديدة في "جريمة المنشار" بالإسماعيلية    نشوب حريق مخزن أخشاب بطريق بلبيس – أبوحماد بالشرقية    الرئيس السيسى: إنشاء ممر استثمارى أوروبى فى مصر كبوابة للأسواق الإفريقية والعربية    بعد تداول فيديو مفبرك.. حنان مطاوع تنتقد استخدام الذكاء الاصطناعي في تشويه الحقيقة    زوج رانيا يوسف: بناتها صحابي.. وكل حاجة فيها حلوة    ليلة طربية خالدة على مسرح النافورة.. علي الحجار يُبدع في مهرجان الموسيقى العربية    الفلسطيني كامل الباشا ل"البوابة نيوز": كلمة حب واحدة قادرة على إنهاء صراع الأجيال.. لو قلت كلمة ثانية بعد "فلسطين".. ستكون "مصر".. أستعد لتصوير فيلم فلسطيني جديد عن القدس وأهلها ومعاناتهم    الصحف المصرية.. حراك دولى لإلزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار فى غزة    إلهام شاهين: لبلبة عشرة عمرى والكاميرات تتلصص علينا ويتخيلوا حوارات غير حقيقية    خالد الجندي: الغنى والشهرة والوسامة ابتلاء من الله لاختبار الإنسان    حياة كريمة.. الكشف على 1088 مواطنا خلال قافلة طبية بقرية البعالوة فى الإسماعيلية    رفض الطعن المقدم ضد حامد الصويني المرشح لانتخابات مجلس النواب بالشرقية    رئيس هيئة النيابة الإدارية في زيارة لمحافظ الإسكندرية    طفل دمنهور يلحق بشقيقه.. مصرع طفلين سقطا من الطابق التاسع في البحيرة    10 رحلات عمرة مجانية لمعلمي الإسماعيلية    رئيس محكمة النقض يستقبل الرئيس التنفيذي لصندوق الإسكان الاجتماعي    4474 وظيفة بالأزهر.. موعد امتحانات معلمي مساعد رياض الأطفال 2025 (رابط التقديم)    رياضة ½ الليل| خلل في الأهلي.. الزمالك يشكو الجماهير.. عودة ليفربول.. والملكي يهزم السيدة    اليوم.. «6 مباريات» في افتتاح الجولة العاشرة بدوري المحترفين    اليوم، الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن القائمة النهائية لمرشحي مجلس النواب    هيلث إنسايتس تساهم في تنفيذ مشروع ڤودافون بيزنس ومصر للطيران عبر حلول رقمية متكاملة للرعاية الصحية    سيصلك مال لم تكن تتوقعه.. برج الدلو اليوم 23 أكتوبر    أسعار التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025    بعد ارتفاع الأخضر بالبنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23-10-2025    قرمشة من برة وطراوة من جوة.. طريقة تحضير الفراخ الأوكراني المحشية زبدة    هترم عضمك.. وصفة شوربة الدجاج المشوي التي تقاوم نزلات البرد    مش هتنشف منك تاني.. أفضل طريقة لعمل كفتة الحاتي (چوسي ولونها جميل)    ألونسو: سعيد من أجل بيلينجهام.. وصليت ألا يتعرض ميليتاو للطرد    د.حماد عبدالله يكتب: " للخصام " فوائد !!    ضياء رشوان: الاتحاد الأوروبي يدرك دور مصر المهم في حفظ السلام بمنطقة القرن الإفريقي    مواقيت الصلاة في أسيوط غدا الخميس 23102025    داعية إسلامي: زيارة مقامات آل البيت عبادة تذكّر بالآخرة وتحتاج إلى أدب ووقار    بمشاركة 158 استشاريا.. بورسعيد تحتضن أكبر تجمع علمي لخبراء طب الأطفال وحديثي الولادة    هل القرآن الكريم شرع ضرب الزوجة؟.. خالد الجندي يجيب    ميلاد هلال شهر رجب 2025.. موعد غرة الشهر الكريم وأحكام الرؤية الشرعية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى بيومى يعيد اكتشاف طه حسين: من مكتبة المدرسة الثانوية قرأت كتابيه.. «الفتنة الكبرى» و«على وبنوه» ومن يومها لا يغادر قلبى شعور العداء لبنى أمية
نشر في البوابة يوم 24 - 05 - 2023

1«النبش فى الذاكرة»علاقتى معه بدأت فى صيف 1972 عبر بوابة كتاب «الأيام»
صيف العام 1972، بعد أيام من نهاية امتحان الشهادة الإعدادية، تبدأ العلاقة مع طه حسين عبر بوابة كتابه "الأيام"، السيرة الذاتية الروائية التى تزدحم بفيض من المواقف والمشاعر المؤثرة، وتتسم بلغة فريدة ذات إيقاع موسيقى ساحر، لا يعوقنى عن التواصل معها صعوبة بعض المفردات.
جانب من إعجابى المبكر بالدكتور طه حسين، قبل أن أقرأ له حرفًا، يعود إلى المحافظة الواحدة التى يجمعنا الانتماء إليها: المنيا، فهو من الأعلام والعلامات الذين يُشار إليهم دائمًا عند الحديث عن التاريخ المحلى الحافل، مثله فى ذلك مثل الشقيقين مصطفى وعلى عبدالرازق، والسيدة هدى شعراوي، والفنان عبدالعظيم عبدالحق، والدكتور لويس عوض، فضلًا عن "ابن المنيا البار" المشير عبدالحكيم عامر، قبل أن يُمحى اسمه من سجل الإشادة بعد انتحاره أو نحره فى أعقاب هزيمة يونيه 1967.
بعد ما يزيد قليلًا على العام، كانت حرب العبور فى أكتوبر 1973، ورحيل عميد الأدب العربي، لقبه الشائع، بعد أيام قلائل من نهايتها. عندما نُشرت قصيدة نزار قبانى النونية فى رثائه، كنت أرددها بصوت عال كل يوم حتى حفظتها، متوقفًا عند البيت الذى يقول فيه:
فى كتاب الأيام نوع من الرسم
وفيه التفكير بالألوان..
أعود إلى "الأيام" مجددًا، وأبحث فى صفحاتها عن مزيد من جوانب العظمة فى شخصية طه حسين، مدركًا قدر طاقتى على الفهم أن موقفه من التعليم الدينى والأزهر هو الأهم والأخطر والأجرأ فى شهادته الفنية الموضوعية.
من مكتبة المدرسة الثانوية قرأت كتابيه: "الفتنة الكبرى"، "وعلى وبنوه"؛ ومن يومها لا يغادر قلبى شعور العداء الأصيل لبنى أمية، ويهيمن الانحياز العقلى والعاطفى للإمام الحسين. فى الفترة نفسها، قرأت "على هامش السيرة" و"الشيخان" و"الوعد الحق"، فضلًا عن كتاب مدرسى مقرر فى اللغة العربية: "حافظ وشوقي".
فى سنوات تالية، التهمت كل المتاح من كتبه، وقرأت الكثير مما كُتب عنه بالسلب والإيجاب. مقدمته لمجموعة يوسف إدريس "جمهورية فرحات" تكشف لى عن الكثير من ملامح شخصيته وأسباب ريادته، وأفكاره الجريئة العميقة فى "مستقبل الثقافة فى مصر" تشكل منهجًا مهمًا دفعت مصر ثمنًا فادحًا لأنها لم تأخذ به، ويوم قرأت "ألوان" أدركت كم أنه مستنير تقدمى عصرى سابق لأبناء جيله، ومتابع دءوب لكل جديد فى ساحة الثقافة العالمية، كأنه شاب ثورى مغامر يلتمس السبيل إلى معرفة حقيقية يواكب بها إيقاع الحياة التى لا تتوقف عن التطور.
بخلاف الكثيرين من محبى الكتابة الروائية والقصصية لطه حسين، لا أحمل إعجابًا خاصًا ب"دعاء الكروان" و"المعذبون فى الأرض"، ذلك أن ولعى غير المحدود ينصب على "أديب". لا أبالغ عندما أقول إن روايته هذه ذات أثر خطير فى حياتي، فمنذ القراءة الأولى لها أجد نفسى فيها وأقرأ مستقبلي. هوسى بالأدب حقيقة أقرّ بها ولا أنكرها، والأولوية المطلقة عندى للنص الذى أستغرق فيه وأقيس العالم المحيط بى على ضوئه. أفكر أحيانًا أن الجنون هو نهايتى المنطقية، وإن أسعفنى الحظ ولم أصل إلى محطته الكابوسية المرعبة، فلا أقل من الاكتئاب المزمن الذى يقف على حافة الجنون.
أستعيد السنوات التى عشتها فأجد أننى أنفقت جلها فى القراءة والكتابة، متوهمًا أنهما الأداتان الضروريتان اللتان تعينان على معرفة الحياة وتمهدان للاستمتاع بها، لكن العمر يهرول ويقترب من نهايته، وها أنذا واقف بلا مكان، دون فهم أو استمتاع.
فى جيل الرواد، يحتل طه حسين المرتبة الثانية فى قلبي، بعد إبراهيم عبدالقادر المازني، وقبل الدكتور هيكل وسلامة موسى. تقديرى كبير لمنهجه العلمى من ناحية ومواقفه الشجاعة الجريئة من ناحية أخرى.
لا أنسى صدامه العنيف مع رئيس الوزراء إسماعيل صدقي، ورفضه العنيد أن يمنح درجة الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية البارزة، كان منهم الفقيه الدستورى العالمى عبدالعزيز فهمي، وهو رجل ذو قيمة علمية وثقافية تفوق عشرات الدرجات والألقاب، لكننى عشت فى زمن رديء مسخ، تُهدى فيه الدكتوراه من أعرق جامعات مصر لبعض الأوباش الأدعياء الذين لا يتقنون القراءة والكتابة.
تتراجع مصر بسرعة الصاروخ فى شتى المجالات، وتتدهور ثقافتها فتهوى إلى الحضيض. المقارنة بين العشرينيات والثلاثينيات وما نعيشه الآن وفى عقود سابقة، منذ السبعينيات تحديدًا، يكشف عن الفارق الشاسع بين زمنين ومناخين. لا أستطيع أن أتخيل رد فعل طه حسين إذا قُدر له أن يعيش ويمتد العمر ليسمع وزير العدل ورئيس مجلس النواب وهما يمزقان اللغة العربية تمزيقًا، ولا يخلو سطر ينطقه أحدهما من أخطاء كارثية فادحة، وكذلك الأمر مع وزير التعليم!.
فى شبابه ومطلع رجولته، ينتمى الثائر الفكرى المتمرد على الثوابت الآسنة إلى حزب الأحرار الدستوريين، ومع الكهولة والشيخوخة ينتقل العجوز إلى الوفد ويبدو أقرب إلى اليسار، لكننى لا أخفى استيائى وغضبى من مواقف العملاق الرائد بعد يوليو 1952، فهو الذى يرفض ما يقوله الضباط عن "حركتهم المباركة"، ويأبى إلا أن يسميها ثورة، وهو من يتغاضى عن عداء النظام الجديد للحريات وعصفه بالديمقراطية. يقترب من عبدالناصر ويقول عنه ما كان يردده فى مدح فاروق، وينتقل الرجل من قيادة كتيبة التمرد إلى زعامة التأييد والمهادنة وتبرير ما لا يمكن تبريره.
دخول المثقفين إلى حظيرة النظام، قبل يوليو 1952 وبعدها، يتحول إلى قانون عام لا يفلت منه إلا عدد قليل محدود، وهذا الانصياع هو ما يحول دون قيادة حقيقية لمجتمع ممزق بين اختيارين كلاهما مر: استبداد السلطة التى تؤمم العقل، وشبح الحكم الدينى الذى يلغى العقل تمامًا!.


2مصر التى عاصرها تفاعل مع أحداث وقضايا الوطن السياسية والثقافية والاجتماعية

مسلسل "الأيام"، 1979، أحد أهم الأعمال المقدمة تليفزيونيا عن سير رواد النهضة الثقافية المصرية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ويعتمد فى إعداده الدرامى على السيرة الذاتية الروائية التى كتبها الدكتور طه حسين بالاسم نفسه، ويقدم من خلالها شهادة ناضجة دافئة مؤنسنة عن مصر التى يعاصرها ويتفاعل مع أحداثها وقضاياها، السياسية والثقافية والاجتماعية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى قرب نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
يقدم المخرج القدير يحيى العلمى عملا فنيا راقيا متقنا جديرا بالمشاهدة، عن سيناريو وحوار لأمينة الصاوى وأنور أحمد، بإشراف يوسف جوهر، ويشارك فى تجسيد الشخصيات عدد من كبار الممثلين الذين يندر اجتماعهم: محمود المليجي، يحيى شاهين، أمينة رزق، حمدى غيث، رشوان توفيق، عبد السلام محمد، على الشريف، مدحت مرسي، محمد الدفراوي، نظيم شعراوي، نادية فهمي، فضلا عن أحمد زكي، فى بطولته الأولى التى مهدت الطريق لصناعة نجوميته، ومعه صفية العمري، أما كلمات المقدمة والخاتمة التى غناها على الحجار فقد كتبها الشاعر سيد حجاب، وكانت الألحان والموسيقى التصويرية للعبقرى الموهوب عمار الشريعي.
تجتمع كل عناصر النجاح الفنى والجماهيرى لصناعة مسلسل لا يُنسى فى تاريخ الدراما التليفزيونية، ويحظى عند إعادة عرضه، بعد نصف قرن من إنتاجه تقريبا، بمشاهدة عالية تنم عن تفوقه وتفرده وقدرته على التأثير غير المحدود، ولا شك أنه يقدم التصور الأفضل عن طه حسين للملايين الذين لا تُتاح لهم فرصة معرفته عبر القراءة المباشرة.
قبل انتشار لعنة المسلسلات الطويلة المملة، التى لا تقل حلقاتها عن الثلاثين، ينجح يحيى العلمى وفريق عمله المتجانس فى تقديم رؤية ناضجة تكتمل فى ثلاثة عشر حلقة، تخلو من الترهل والثرثرة والتطويل الفج المصنوع، وتفلح المعالجة فى مزج الذاتى بالموضوعي؛ طه حسين وعصره معا.
لا شيء يؤخذ على المسلسل، مثله فى ذلك مثل مسلسلات السير الذاتية جميعا، إلا تقديم الشخصية موضوع المعالجة الدرامية فى إطار مثالى متطهر يخلو من الشوائب والعيوب والأخطاء والخطايا، وهذا الخلل غير المبرر، وغير المنطقي، نجده فى الأعمال المقدمة عن عباس محمود العقاد وقاسم أمين وهدى شعراوى وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وأسمهان ومحمد متولى الشعراوى والملك فاروق وعبد الله النديم وبيرم التونسي، وغيرهم من المعاصرين. أى منطق فى ظهور هؤلاء جميعا كأنهم الملائكة الذين لا يخطئون؟. فى حياة طه حسين، وغيره من الرواد، أخطاء وتجاوزات لا تكتمل العظمة إلا بها، لكن الثقافة الشرقية التقليدية المحافظة تأبى إلا أن تكون أحادية النظرة، ما يسهم فى تشكيل أجيال لا تعرف الموضوعية والرؤى العقلانية المتوازنة، وعندئذ يتحول البشر إلى أطهار أبرار يواجهون الشياطين وينتصرون دائما!.
عظمة طه حسين، وغيره، لا تُقاس بخلو حيواتهم من الخلل، الذى هو جزء أصيل من الطبيعة الإنسانية، لكنها فى الإضافة التى يقدمونها لتراث الثقافة الإنسانية والوطنية، فمتى نعى أن الكمال ليس ممكنا؟.

3صاحب الثلاثية السينمائية
السينما لم تقدم إلا 3 أفلام من أعماله هى «ظهور الإسلام» و«دعاء الكروان» و«الحب الضائع»
عبر تاريخها الطويل، لم تقدم السينما المصرية إلا ثلاثة أفلام مستمدة من الأعمال الأدبية والفكرية لطه حسين، أولها "ظهور الإسلام" الذى أخرجه إبراهيم عز الدين سنة 1951 عن كتاب "الوعد الحق"، وكتب الدكتور طه حواره، أما الفيلم الثانى الذى يُعد من كلاسيكيات السينما المصرية فهو "دعاء الكروان"، 1959، وقدمه المخرج الكبير هنرى بركات عن رواية طه حسين التى تحمل الاسم نفسه، ثم يعود بركات ليختتم الثلاثية السينمائية سنة 1970 بفيلم "الحب الضائع"، عن قصة قصيرة طويلة، وتدور أحداثه فى إطار عصرى رومانسي، ويتقاسم بطولته سعاد حسنى ورشدى أباظة وزبيدة ثروت.

الحصيلة محدودة متواضعة على الصعيد الكمي، مقارنة بما أنتجته السينما لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعى على سبيل المثال، ما يعنى أن صانعى السينما المصرية لم ينتبهوا إلى ما فى الإنتاج الغزير لطه حسين من رؤى وقضايا كفيلة بإنتاج أفلام مغايرة للسائد والمألوف وفق المعايير التجارية التقليدية، ولعل فى تجربة "دعاء الكروان" ما يؤكد أن المعادلة المثالية المنشودة، متعة الفكر والفن معا، ليست مستحيلة، والذى لا شك فيه أن "الأيام" و"أديب" و"المعذبون فى الأرض"، وغيرها من روائع طه حسين، تتضمن من المعالجات العميقة الثرية ما يقود إلى النجاح الفنى والجماهيري، لكن المشكلة تكمن فى التكاسل والعجز عن مواجهة التحدي، والأمر فى جوهره لا يتطلب إلا أن يكون الصانع السينمائي، إعدادا وإنتاجا وإخراجا، من المؤهلين للاشتباك الجاد مع الأعماق التى يطرحها طه حسين.
لا تتكرر مغامرة إبراهيم عز الدين فى الاعتماد على "الوعد الحق" لمناقشة مرحلة تاريخية مسكوت عن الكثير من تفاصيلها، وقد يكون صحيحا أن الفيلم لم يفشل جماهيريا وحقق نجاحا معقولا بالنظر إلى موضوعه، لكن إنتاج مثل هذا النمط من الأفلام ليس بالفعل الهين على الصعيد المادي، ولا متسع للمقارنة مع تجارب السينما الأمريكية والغربية الناجحة فى إنتاج الأفلام التاريخية، ذلك أن المنظومة هنا تختلف جذريا عن القائم هناك، و"شباك التذاكر" فى مصر هو الذى يحكم ويتحكم، ولا مطلب له إلا الرواج السريع قصير النظر، فمن الذى يجرؤ على التفكير والشروع فى إنتاج أفلام باهظة التكاليف، غير مضمونة النجاح، عن أبى العلاء المعري، أو عن سنوات "الفتنة الكبرى" وما تحفل به من صراعات دامية ذات أبعاد إنسانية وسياسية معقدة شائكة؟ وهل تسمح الرقابتان الرسمية والاجتماعية بتقديم مثل هذه النوعية الصادمة من الأفلام؟
على الرغم من عصرية القضية التى تعالجها قصة "الحب الضائع"، بكل ما فيها من عناصر الإثارة والنجاح، فإن الفيلم لا يقترب من ملامسة الأبعاد العميقة التى يقدمها طه حسين، ويميل إلى التبسيط المخل والخفة السطحية، وعندئذ لا يختلف جوهريا عن غيره من الأفلام التى تنشغل بثلاثية الزوج والزوجة والعشيقة، أما "دعاء الكروان" فبمثابة الاستثناء الجدير بالتأمل والانتباه، فهو يجمع بين مفردات النجاح الفكرى والفني، ويبرهن عمليا على أن العلة لا تكمن فى انصراف جمهور المتلقين عن الجاد المحترم البعيد عن الابتذال والإسفاف، وليس ادل على ذلك من التفاعل الإيجابى اللافت فى دور السينما مع "صوت" طه حسين، بكل ما فيه من جمال وجلال، وهو يختتم الفيلم كاشفا عن أبعاد الرؤية ومراميها فى تكثيف دال:"دعاء الكروان، أترينه كان يرجّع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادى فى ذلك الفضاء العريض؟".
يحتل الفيلم المركز الرابع عشر فى قائمة الأفلام المئة الأفضل فى تاريخ السينما المصرية، وقد آثر بركات أن تتغير النهاية بقتل مهندس الرى بديلا لاستمرار حياته مع آمنة كما فى الرواية، ولم يعارض طه حسين مؤكدا باستجابته أنه يعى الفارق بين اللغتين الأدبية والسينمائية.
مثل هذا الوعي، الذى لا غطرسة فيه أو تعالي، يتوافق مع إدراك الرائد الكبير لأهمية السينما فى صناعة الثقافة الحديثة، فهى ليست أداة للهو والتسلية، وكيف تكون عند من يكتب فى مجلة "الكاتب المصري"، نوفمبر 1947، مقالا رائدا عن جان بول سارتر والسينما، وهو أيضا من يتوقف فى كتابه الفريد "مستقبل الثقافة فى مصر"، 1938، عند الدور الخطير الذى يمكن أن تلعبه السينما فى تشكيل ثقافة العاديين والبسطاء من الناس.
عن علاقة الأدب بالسينما، يقول طه حسين فى مقاله عن سارتر:"الأديب بين اثنتين: إما أن يغزو هذه الوسائل ويتخذها أدوات لإذاعة الأدب ومما يحلم إلى النفوس من خير ورشد وإصلاح، وإما أن يهمل هذه الوسائل فيقضى على أدبه بالتزام الحدود التى لا يتجاوزها الكتاب، ويعرّض نفوس الجماعات لشر عظيم تحمله إليها الصحف والراديو والسينما التى ستكون أداة لقوم ليس لهم حظ من أدب ولا فلسفة ولا من فن ولا من فقه بالحياة ومشكلاتها، وإنما همهم كله أن يلهوا الجماعات بما يذيعون فيها من سخف رخيص، وأن يستزلوا الجماعات بما ينشرون فيها من دعوة إلى أشياء لعلها لا تلائم ذوقا ولا منفعة ولا رقيا ولا ميلا إلى الإصلاح".
أكثر من ثلاثة أرباع القرن تفصلنا عن الكلمات المضيئة التى يكتبها رجل تحول عاهته البصرية دون متابعة الإنتاج السينمائي، لكنه يملك من الوعى والبصيرة ما يقوده إلى التفاعل الإيجابى الذى يتجاهله الرواد من معاصريه!.
فيلم "قاهر الظلام"، 1978، محاولة لتقديم سيرة سينمائية عن حياة طه حسين، اعتمادا على كتاب يحمل الاسم نفسه للصحفى كمال الملاخ، لكن من يشاهد الفيلم الذى أخرجه عاطف سالم وكتب له السيناريو والحوار سمير عبد العظيم، وجسد فيه محمود ياسين شخصية الدكتور طه حسين، لا بد أن يدرك بلا عناء سطحية المعالجة الركيكة التى لا ترقى إلى شموخ وعظمة وتفرد المفكر الرائد، ولا شك أن مسلسل "الأيام"، 1979، الذى شهد ميلاد الممثل العملاق أحمد زكي، يتفوق كثيرا على الفيلم، وهو المسلسل الذى أتاح للملايين معرفة بعض ملامح حياة العملاق التنويرى وتجربته الفذة التى ينتصر فيها بقوة إرادته وإصراره الفولاذى على كل ما يواجهه من تحديات وعقبات.
بعد نصف قرن تقريبا من إنتاج الفيلم والمسلسل، يبقى السؤال مطروحا بلا إجابة شافية: لماذا لا تتحول "الأيام"، السيرة الذاتية الروائية الفريدة، إلى فيلم يقرب ملحمة طه حسين البطولية إلى وجدان المعاصرين؟ ويقدم صورة مغايرة عن الشخصية المصرية التى تتعرض للتشويه والإساءة فى مسلسلات وأفلام محمد رمضان وأغانى المهرجانات؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.