* طه حسين شككَّ فى قدرة فاتن حمامة على تقديم «آمنة» فسالت دموعها.. وعندما استمع إلى الفيلم أشاد بها فشعرت أنها أسعد امرأة فى العالم يبدو أن الاقتراب من الدكتور طه حسين فى السينما لم يكن سهلا، عكس غيره من الأدباء المعاصرين له، حيث كان شديد التدقيق فى كل التفاصيل المرتبطة بتحويل أعماله إلى أفلام سينمائية أو دراما تليفزيونية، ونستشهد هنا بما روته سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة والتى أصر عميد الأدب العربى على الجلوس إليها قبل تجسيدها لدور «آمنة» فى روايته «دعاء الكروان»، حيث بدا غير مقتنع بأن تقوم تلك السيدة الرقيقة ذات الأدوار النمطية بتلك الشخصية، وهو ما استشعرته فاتن حمامة حيث باغتها قائلا: «أنت هتعملى آمنة؟»، وهو السؤال الذى اعتبرته فاتن استنكاريا لدرجة أنها خرجت من عنده ودموعها على خديها بحسب روايتها، وكان ذلك اللقاء هو الدافع، وقررت أن تتحدى نفسها لتقدم شخصية بعيدة عنها، لتفاجئ عميد الأدب العربى، حتى أثنى على أدائها. تلك الحالة من التدقيق فى تحويل أعمال طه حسين إلى السينما والتليفزيون، أدت إلى عدم تجاوز رصيده الثلاثة أفلام سينمائية، وعددا من المسلسلات منها «أديب» و»الأيام»،و»على هامش السيرة». والمفارقة أن حسين كان من أوائل من لفتت كتاباتهم المخرجين، وذلك حين قرر المخرج إبراهيم عز الدين إخراج فيلمه الأول، والوحيد «ظهور الإسلام» عن كتاب هو أقرب إلى فن السير القصصية باسم «الوعد الحق» لطه حسين، والمخرج إبراهيم عز الدين هو من المخرجين المصريين الأوائل الذين درسوا وعاشوا فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكان يعمل مساعدا للمخرج سيسيل دى ميل صاحب «الوصايا العشر»، و»شمشون ودليلة»، وذلك بحسب الصورة التى نشرتها مجلة الكواكب فى عام 1949، وحاول إبراهيم عز الدين أن يقدم تجربة مصرية تحاكى أفلام دى ميل، وبالفعل وجد ضالته فى كتاب الدكتور طه حسين «الوعد الحق»، والذى قدمه فى فيلم سينمائى بعنوان «الوعد الحق»، وقام بكتابة السيناريو، الذى راجعه طبعا الدكتور طه حسين، والذى قام أيضا بكتابة حوار الفيلم باللغة الفصحى، وجاء الفيلم قريبا من روح أفلام دى ميل فى رؤيته الإخراجية العامة، وتركيزه على مشاهد تعذيب أسياد قريش، لمن آمنوا برسالة النبى محمد فى بداية ظهور الإسلام، وصور الفيلم العرب فى أواخر عصر الجاهلية ومع ظهور الإسلام، حيث عاش العبيد إلى جوار الأسياد، يعبدون الأوثان، فلما جاء البشير كان العبيد هم أول من ساند الرسالة، و صور الفيلم حالة الجهل التى عاش فيه البعض، وتحديدا سادة قريش حيث كان هناك نموذجان بارزان فى العمل دراميا وهما النموذج الأول يتذرع بالإيمان مثل عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وعبد الله بن مسعود، والنموذج الثانى أبو لهب وأبو جهل وسادة من قريش يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة تدفعهم إلى إيذاء وتعذيب المؤمنين. وقام ببطولة الفيلم عدد كبير من نجوم السينما المصرية وقتها ومنهم كوكا، وعماد حمدى، وعباس فارس وسراج منير، وكان عرضه السينمائى الأول فى عام 1951. دعاء الكروان.. من بين أهم 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية. إذا كانت تجربة الأديب طه حسين الأولى فى السينما تجربة دينية وأقرب فى تنفيذها إلى الأفلام الهوليودية فى ذالك الوقت، إلا أن فيلم دعاء الكروان (1959) والمأخوذ عن نص أدبى لعميد الأدب العربى بالاسم نفسه كان حالة مختلفة تماما، حيث كان العمل به يمثل تحديا لجميع من يعملون به، بدءا من الكاتب يوسف جوهر، والمخرج بركات، وعز الدين ذو الفقار الأقرب لفاتن حمامة فى ذاك الوقت، ووصولا إلى نجمة العمل فاتن حمامة، وجميعهم كانوا فى تحد كبير لإرضاء طموح طه حسين والذى كان يرغب فى أن تخلد روايته قصة آمنة، والتى تعكس كيف يكون قهر المرأة فى تلك المجتمعات الريفية الذكورية، وكيف أنها تدفع الثمن على طول الخط _( كان حسين متأثرا بالثقافة الفرنسية لحد كبير فى صياغة شخصياته النسائية،والتى دائما ما كانت ترغب فى التمرد)_. حالة التحدى تلك أخرجت للسينما المصرية والعربية واحدا من أجمل أفلامها، والذى تحول إلى درة، تزداد قيمتها بمرور الأيام والسنوات لذلك اختير كواحد من أهم 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية والعربية، ليس ذلك فقط بل أنه يتصدر فى العشرة الأوائل من القائمة. وتقول سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة فى إحدى حواراتها الصحفية أن من بين الشخصيات الأدبية التى تأثرت بها واعتزت بصداقتها عميد الأدب العربى طه حسين، وتحكي: «فى عام 1959 قرر المخرج عز الدين ذو الفقار تقديم رواية «دعاء الكروان» التى كتبها الأستاذ الكبير طه حسين للسينما وأسند إلى دور «آمنة» فى هذه الرواية، وقرأت كتاب طه حسين، وفى أحد الأيام قبل التصوير دعانى الدكتور طه حسين لمقابلته فى مكتبه بمنزله بالهرم، فذهبت إليه وأنا أرتعد لأنه عميد الأدب العربى، وأشهر الكتاب على الإطلاق». وتضيف: «مع الأسف مقابلتى الأولى معه لم تستغرق سوى دقائق معدودة، فعندما دخلت عليه قال لى بسخرية واستهزاء شعرت معها أنه يرى وليس كما يعرف الناس عنه: إنت تقدرى تفهمى دور آمنة؟ فقلت له: فهمته كويس، فهز طه حسين رأسه بالسخرية نفسها التى تحدث بها، ولم يتكلم وشعرت بأن اللقاء انتهيِ، وخرجت من عنده وأنا أبكى وأشعر بأننى مجروحةِ وذهبت على الفور إلى عز الدين ذو الفقار ومنتج الفيلم وقلت لهما: لماذا اخترتمانى لهذه البهدلة؟ لكنهما أخذا يهدآنى ويؤكدان أن طه حسين حريص على خروج هذه الرواية فى أفضل صورة لذلك قابلنى، وأنه لو كان لديه اعتراض لكان اتصل بهما وطلب تغييريِ، لكننى قررت تحدى طه حسين ونفسى، وبدأت التصوير، وعرض الفيلم فى عرض خاص حضره طه حسين وقرينته، وابنه وابنته، وبعد انتهاء العرض فوجئت به يهنئنى ويقول لي: إن خيالى وأنا أكتب صورة «آمنة» فى القصة هو بالضبط ما فعلته أنت! ودعانى إلى زيارتهِ وخرجت من دار العرض وأنا أشعر أنى أسعد امرأة فى العالم، وبعد هذا الفيلم بدأت صداقة بينى وبين عائلة طه حسينِ». دعاء الكروان بحسب عدد من نقاد السينما والدراسات السينمائية هو فيلم ريفى و ليس قرويا، بمعنى أن الريف هنا أقرب إلى المدينة الصغيرة المفتوحة على العالم، فالناس ترتدى الملابس المدنية، كما أن العادات الاجتماعية تسمح للخادمة «آمنة» بأن تعيش داخل بيت المهندس، وتقيم هناك إقامة كاملة، وفى أغلب الأحوال، فهو ريف أوروبى أكثر منه مصرى، يتناسب مع ثقافة المخرج، ونحن لم نر الناس يمارسون شئون الزراعة. ورغم أن الشخصية الرئيسية هى لمهندس زراعى فلم نره قط فى الحقل، وهمه الأساسى هو غواية الخادمات، وقد أفقد خادمة سابقة عذريتها هى الأخت الصغرى «هنادى»، التى قتلها خالها دفاعا عن الشرف فى حضور الأم والأخت «آمنة»، التى تذهب فيما بعد إلى بيت المهندس لتعمل كخادمة بهدف الانتقام عاطفيا من المهندس، مما يعنى الانتقام بالرومانسية. و»آمنة» فى الرواية (الفيلم)، تجلس تحت نافذتها ليلا، تتطلع إلى السماء، وهى تستمع إلى صوت الكروان وتناجيه وتحكى له قصتها مع أختها والمهندس. ومن الواضح أن جوهر كان يعود إلى الدكتور طه حسين ويقرأ عليه السيناريو، حيث تشير المراجع إلى أن المؤلف قد وافق على النهاية السينمائية التى تختلف تماما عن نهاية الرواية، فحسب هذا الجو وبعد أن أوقعت «آمنة» بالمهندس فقد وافقت أن تنتقل معه إلى المدينة الكبرى لتعيش معه عاشقة دون أى رباط شرعى لتلحق بمصير أختها،أما فى الفيلم فإن المهندس يغتسل من ذنوبه الكثيرة بحق عدد من الفتيات اللاتى أفقدهن عذريتهن بأن يفادى حبيبته كى يتلقى الرصاصة التى صوبها الخال نحوها وسط صراخ «آمنة»، بينما قام رجال بالإمساك بالخال القاتل كى ينال جزاءه، وهو يقتل باسم الشرف للمرة الثانية. ووفق السيناريو والحوار، وبشكل كبير، فى نقل رواية طه حسين إلى الشاشة، خصوصاً إذا عرفنا بأن سيناريو الفيلم قد أضيفت إليه وحذفت منه وعدلت فيه بعض أحداث الرواية، دون الإخلال بروحها وشخصياتها، و لا يمكن إغفال أهمية الحوار الذى صاغه يوسف جوهر فى هذا العمل، خصوصاً إذا عرفنا أيضاً أن الرواية الأصلية تكاد تكون خالية من الحوار، فقد اعتمدت بشكل كبير على السرد الدرامى من وجهة نظر ذاتية للبطلة.. فقد كان الحوار معبراً بأسلوب وجمال عباراته عن البيئة بدقة متناهية، ويتناسب مع ظروف الحياة والفترة التاريخية التى جرت فيها الأحداث، هذا إضافة إلى حيوية أدائه وإجادته من قِبل الممثلين، وأيضا كان «دعاء الكروان» بمثابة الإعلان الحقيقى عن موهبة بركات وأهميته كمخرج كبير، وتأكيداً لقدراته الفنية المتميزة. وبذلك استحق الكثير من الجوائز المحلية والدولية التى حصل عليها، كما مثل مصر فى مهرجان برلين السينمائى الدولى فى عام إنتاجه. الحب الضائع من الإذاعة للسينما ومن الشريف لرشدي أما الفيلم الثالث والمأخوذ عن نص أدبى للدكتور طه حسين، فهو «الحب الضائع»، فقد لفت هذا النص أنظار السينمائيين بعد نجاحه كمسلسل إذاعى، كتبه صلاح حافظ وأخرجه محمد علوان، وكان من بطولة عمر الشريف وصباح وسعاد حسنى عام 1969 فى إذاعة الشرق الأوسط، حيث اعتمد يوسف جوهر على الصياغة الإذاعية للمسلسل دون الرجوع للرواية، ببساطة لأنه ليس هناك أى صلة بين الفيلم ولا المسلسل والرواية، والذى حدث آنذاك أن الإذاعة أرادت الاستفادة من الشهرة العالمية التى حققها عمر الشريف، فذهب المخرج إلى استوديوهات الإذاعة فى لندن وقام بالتسجيل مع عمر الشريف بشكل فردى، وقد أذهلت التجربة المستمعين فى تلك الآونة. وهو العمل الذى تجلى فيه تأثر عميد الأدب العربى، بالثقافة الفرنسية إلى حد كبير، حيث إن أحداث رواية «الحب الضائع» التى صاغها حسين كانت تدور فى الريف الفرنسى، إلا أن كاتب المسلسل الإذاعى «الحب الضائع» قد صاغ نصا ليس له علاقة برواية طه حسين، وهو النص الذى اعتمده يوسف جوهر دون أن يهمه قط موضوع الرواية، فالقصة أبطالها فرنسيون وأحداثها تدور بين باريس وجرينوبل، أما الزمان فهو العقد الثالث من القرن الماضى، بينما الفيلم المصرى يدور بين القاهرةوتونس فى أواخر ستينيات القرن العشرين حول كل من الصديقتين ليلى وسامية اللتين تتزوجان فى توقيت متقارب وبعد فترة من الوقت تعود ليلى من تونس عقب رحيل زوجها المريض وتجد تعاطفا من مدحت زوج سامية فتنجرف فى علاقة حب معه مما يصدم الزوجة التى تهجر البيت مع ابنها وتذهب إلى أبيها فى الإسماعيلية، بينما تقرر ليلى أن تنتحر بسبب خيانتها لصديقتها. يوسف جوهر الذى ذهب لاستشارة طه حسين وهو يكتب «دعاء الكروان» لم يجد، بالتأكيد، وقتا للذهاب إلى طه حسين، وقد غلبه المرض والشيخوخة وهو الذى كان يتدخل فى فيلميه السابقين.. بحسب الدراسات السينمائية وعدد من النقاد، لذلك قدم يوسف جوهر وبركات فيلم «الحب الضائع 1970» بتصرف وبما يتناسب مع أجواء المجتمع المصرى. ورغم أن التجارب السينمائية المأخوذة عن أدب طه حسين لم تزد عن الثلاث، إلا أنه ورغم تفاوت مستوياتها الفنية آثارت جدلا، وسجلت تفردا فى كل نوع بمعنى أن «ظهور الإسلام» كان من أوائل الأفلام الدينية _التاريخية، و»الحب الضائع» من الأفلام الرومانسية المميزة والتى لا نمل من مشاهدتها التى تدور فى فلك الثالوث المعروف الزوج والزوجة والعشيقة، أما «دعاء الكروان» فتحول إلى قطعة فنية نادرة. والأمر لا يختلف كثيرا فى الدراما التليفزيونية، حيث صار مسلسل «الأيام» من أهم مسلسلات السير الذاتية، والتى شهدت مولد النجم أحمد زكى بعد أن تألق فى تجسيد دور الكاتب والمفكر والمبدع طه حسين، وأيضا مسلسل «أديب» صار من كلاسيكيات الدراما العربية التى قدمها نور الشريف عن نص لطه حسين، أما مسلسل «على هامش السيرة» فهو واحد من أعظم المسلسلات الدينية التى ساهمت فى تشكيل وجدان الكثيرين منا.